بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله الذي علّم بالقلم , علّم الإنسان ما لم يعلم , أحمده سبحانه حمد الشّاكرين و أثني عليه بــما هو أهله , و الصّلاة و السّلام على معلّم النّاس الخير ,الذي أرسله الله رحمة للعالمين , يهدي إلى الحقّ و إلى طريق مستقيم.
أمّا بعد : فإنّ طلب العلم من أفضل القربات التي يتقرب بها العبد من ربّه, و من أبرز الطاعات التي ترفع منزلة المسلم و تعلي قدره عند الله سبحانه , و لقد أمر الله عباده بالعلم و التّعلم , و التّفكر و التّدبّر , و حذّرهم من الجـهل و اتبـــاع الهوى , و بيّن أنّ العلم الذي ينفع صاحبه يوم القيامة هو العلم الذي يخلص فيه العبد لمولاه , و ينبغي فيه نيل رضــاه , و يتأدّب فيه بآداب الإسلام , و يتخلّق بأخلاق سيّد الأنام -صلى الله عليه و سلم- الذي كان خُلُقه القرآن .
فضل طلب العلم و منزلة العلماء : قال الله تعالى :{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَاب} سورة الزمر آية 9. و قال تعالى : { إنّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَـآءُ } سورة فاطر آية 28.
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه و سلم-يقول :* من سلك طريقاً يطلب فيه علماً , سلك الله به طريقاً من طرق الجّنة , و إنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم , و إنّ العالم ليستغفرُ له من في السّماوات و من في الأرض , و حتّى الحيتان في جوف الماء , و إنّ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب, و إنّ العلماء ورثة الأنبياء , و إنّ الأنبياء لم يُرثوا دينارًا و لا درهمًا , إنّما ورّثوا العلم , فمن أخذه أخذ بحظ وافر* رواه
أبو داود رقم 3641 في العلم , و الترمذي رقم 2683, و إسناده حسن .
و قول الإمام الشافعي –رحمه الله- تعلّم فلـيس المرء يولـد عالــمًا … و ليس أخو علمٍ كمن هو جاهلُ
و إنّ كبير القوم ِ لا عـلم عـنده … صغيرٌ إذا التفّت عليه الجحافلُ
و إنّ صغير القوم إن كان عالمًا ... كبيرٌ إذا رُدّت إليــه المحافــلُ ديوان الشافعي ص 29.
آداب طالب العلم
أولاً – الإخلاص : قال الله تعالى : { وَ مَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْــبُدُوا اللَّهَ مُخْلـصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَـآءَ وَ يُقِيمـُوا الصَّلاةَ وَ يُوتُوا الزَّكاة وَ ذَلك دِينُ الْقيِّمَة} سورة البينة آية 5 . روى البخاري و مسلم عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله- صلى الله عليه و سلم- يقول: * إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى , و من كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله , و من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه *.
ثانيًا – العَمَل بالعلم و البعد عن المعاصي : قال الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبٌرَ مَقْتُا عِنْدَ اللهِ أَّن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} سورة الصف الآية 2-3. وقال سبحانه: { أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَ تَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَ أَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }سورة البقرة الآية 44 . روى الترمذي عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: *لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يُسألَ عن عمره فيمَ أفناه , و عن عمله فيمَ فعَل ؟ , و عن ماله من أين اكتسبه و فيمَ أنفقه, و عن جسمه فيمَ أبلاه *
ثالثًا – التواضع : قال تعالى{ وَ اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينِ} سورة الشعراء الآية 215, و قال تعالى : { وَ لاَ تُصَعرْ خَدَّكَ للنَّاسِ وَ لاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُو } سورة لقمان الآية 18 ,و ما رواه مسلم عن عياض بن حمار,أنّ رسول الله-صلى الله عليه و سلم- قال:*إنّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتّى لا يفخر أحد على أحد, ولا يبغي أحد على أحد *,و من جامع بيان العلم –1/108: العِلم آفَتُهُ الإعجابُ و الغضبُ ... و المالُ آفَتُهُ التبذيرُ و النّهبُ.
رابعُا – توقير العلماء و مجالس العلم : قال الله تعالى :{ وَ مَن يُّعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهًوَ خَيْرُ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } سورة الحج الآية 30, و قال تعالى{ وَ مَن يُّعَظِّمْ شَعَآئِرِ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب } سورة الحج الآية 32, و عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- , قال : قال رسول الله-صلى الله عليه و سلم : * إنّ من إجلال الله تعالى ‘ كرام ذي الشيبة المسلم , و حــامل القــرآن غــير الغالي فيه و لا الجافي عنه, و إكرام ذي السلطان المقسط * .
هناك آداب أخرى يجدر لطالب العلم أن يحرص عليها : إذا سمع الطالب من شيخه حديثًا أو مسألة يعرفها ينبغي عليه أن لا يشاركه في روايتها بل يسكت و يستمع , النهي عن كثرة الجدل في العلم , النّهي عن أغلوطات المسائل و النّهي عن تجريح العلماء .
خامسًا – الصبر على طلب العلم : قال الله تعالى { وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } سورة هود الآية 115, و قال أيضًا : { رَبُّ السَّمَوَاتِ وَ الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيَّا } سورة مريم الآية 65 ,
و قال ابن فارس رحمه الله تعالى : - إذا كان يُؤذيكَ حرُّ المصيف ِ ... و يُبس الخريف و برد الشتا
و يُلهـيك طـيبُ هواءِ الربيـع ... فأخـذك للـعلم قـل لي متى ؟
سادسًا – التنافس في طلب العلم : قال الله تعالى :{ وَ قُل رَّبِّ زِدْنِي عِلمًا } سورة طـه الآية 114, رَوى الترمذي عـن أبي مســعود عن النّبـيّ -صلى الله عليه و سلم- قال : * لن يشبع المؤمن من خـير يسمعه حتّى يكـون منتهاه الجنّة * ,
وصــية الإمــام الشافعي لطلاب العلم : أخـي لـن تنـال العلـم إلاّ بستــةٍ ... سأنبـيك عن تفصيــلها ببـيان
ذكاءٌ و حرصٌ واجتهادٌ و بلغةٌ ... و صحبةُ أستاذٍ و طول زمانِ
سابعًا - الصدق و الأمانة : قال الله سبحانه و تعالى : { يَـــأَيُّهَا الذِينَ ءامَنــُواْ لاَ تَخُنُواْ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُــنُواْ ءَامَانَاتِكُمْ وَ أَنتُمْ تَعْلَمُون } سورة الأنفال الآية27 , روى البخاري عن عليّ -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه و سلم-: * لا تكذبوا عليَّ فإنّه من كذب عليَّ فليلج النّار * ,و في روايةٍ: * فليتبوأ مقعده من النّار * . روى الطبراني عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه و سلم-:* تناصحوا في العلم، فإنّ خــيانة أحدكم في عــلمه أشدّ من خيانـته في مالـه, و إنّ الله سائلكم يوم القيامة *. و البدء هنا من التنبيه على بعض الأمور لكي يسلم طالب العلــم من الوقوع في الخــيانة و الكــذب : اليقــظة و الإنتباه عند تلقّي العلم , الرجوع إلى الحقّ إذا تبيّن الخطأ و الحذر من الغش في الإختبارات و الرّسائل العلمية .
ثامنًا - نشر العلم و تعليمه : قال الله تعالى : {إِنَّ الذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَ الْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أولَـئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ الاَعِنُون }. سورة البقرة الآية 159 , و قال أيضًا: { يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَ إِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَته وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس } سورة المائدة 67 . روى البخاري عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عن النّبيّ -صلى الله عليه و سلم- قال : * خيركم من تعلّم القرآن و علّمه *.
تاسعًا – الزهد في الدنيا : قال الله تعالى: {يَـأَيُّهّا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَ لاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللّهِ الْغَرُور} , سورة فاطر الآية 5 , و عن أبي سعيد الخذري -رضي الله عنه- إنّ رسول الله - صلى الله عليه و سلم- قال :* إنّ الدنيا حلوةُ خَضِرَة , و إنّ الله تعالى مستخلفكم فيها , فينظر كيف تعملون , فاتّقوا الدنيا و اتّقوا النّساء * صحيح مسلم- رقم 2742 , و عنه - صلى الله عليه و سلم- قال : جلس رسول الله - صلى الله عليه و سلم- على المنبر , و جلسنا حوله فقال : * إنّ ممّا أخاف عليكم من بعـدي , ما يُفتح عليــكم مـن زهرة الدنيا و زينتها * صحيح مسلم – رقم 1052 , و قد عـرّف شـيخ الإسلام ابن تيــمية رحمه الله الزهــد فقال : << الزهد المشروع هو ترك كلّ شيء لا ينفع في الدار الآخرة و ثقة القلب بما عند الله >> .
عاشرًا – الحرص على الوقت و اغتنامه: عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم- :* نعمتان مغبون ُ فيهما كثير من النّاس : الصّحة و الفراغ * رواه البخاري في الرقائق .
- اغتنام أوقات الشباب : قال تعالى : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبِّهِم } سورة الكهف من الآية 13 ,
و قال الإمام الشافعي : و من فاتـهُ التعليـم وقت شبابه ... فكبِّـر عليه أربعًا لوفـاته ديوان الشافعي –ص/29
- ذمّ التسويف : عن الحسن البصري رَحِمَهُ الله أنه قال : << إيّاك و التسويف فإنّك بِيومك و لست بِغدك , فإن يكن غدٌ لك فكن في غد ٍ كما كنت في اليوم , و إن لم يكن لكَ غدُ لم تندم على ما فرّطت في اليوم >>.
-أوقات النّشاط و فراغ الذهن: - البكور: عن عليّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم :* اللهم بارك لأمتي في بكورها * رواه الترمذي , السَّحر : عن إسماعيل بن أبي أويس أنه قال : << إذا هممت أن تحفظ شيئا فنَمْ , و قُمْ عند السّحـر فأسرج , و انظر فيه ، فإنّك لا تنساه إن شاء الله>> .
الحادي عشر- مذاكرة العلم خشية النسيان:عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد أنه قال :<< القلوب تُربٌ و العلم غَرسُها, و المذاكرة ماؤها , فإذا انقطع عن التراب ماؤها جفّ غرسها >> الجامع لأخلاق الراوي 2/269, و عن الخليل بن أحمد أنه قال: << كن على مدارسةِ ما في صدرك أحرص منك على مدارسة ما في كتبك >> جامع بيان العلم و فضله 1/108. و قال أحد الشعراء في كتاب النصيحة الكافية للإمام أحمد زرُّق –ص/134 :
خليليَ لا تكسل, و لا تهمل الدرسا … و لا تُعْطِ يومًا في بطالـتها النفس
و لا تــترك التكــرار فيـما حفظـته … فمن ترك التكرار لابدّ أن ينـسى
قال الإمام الشافعي : علمـي معي حيثـما يمّمت ينفعني … قــلـبي وعــاء لـه لا بـطن صــندوقِ
إِنْ كنت في البيت كان العلم معي … أو كنت في السوق كان العلم في السوقِ
الثاني عشر- الوَقار و الحياء : عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صلى الله عليه و سلم- قال :* إنّ الله يحب معالي الأخلاق, و يكره سفسافها*,رواه الطبراني في الكبير.عن الفضيل بن العياض رحمه الله قال:>حامل القرآن حامل رايةِ الإسلام,لا ينبغي أن يلهوَمع من يلهو,ولا يسهومع من يسهو,ولا يلغو مع من يلغو,تعظيمًا لحقّ القرآن<,التبيان في آداب القرآن:النووي ص44.
الثالث عشر- الصحبة الصالحة : قال تعالى:{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِين } ,عن أبي هريرة-رضي الله عنه- عن النبيّ - صلى الله عليه و سلم قال : * الرجل على ديني خليله , فلينظر أحدكم من يخالل * رواه الترمذي – رقم 2379.
- و أخيرًا هذه وصيّة مهمّة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- تشتمل على كثير من آداب طالب العلم " يا طالب العلم , إنّ العلم ذو فضائل كثيرة , فرأسه التواضع, وعينه البراءة من الحسد,و أذنه الفهم, و لسانه الصدق , و حفــظه الفحص , و قلبه حسن النية , و عقله معرفة الأمور الواجبة , و يده الرحمة , و رجله زيارة العلماء , و همّته السلامـة , و حكمته الورع , و مستـقره النجاة , و قائده العافية , و مركبه الوفاء , و سلاحه لين الكلمة , و سيفه الرضى, و قوسه المداراة , و جيشه مجاورة العلماء , و ماله الأدب , وذخيرته اجتناب الذنوب , و زاده المعروف , و ماؤه الموادعـة , و دليله الهدى , ورفيقه صحبة الأخيار" الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع 1/96,الفقيه و المتفقه 2/97.
[quote]