دعوة اتحاد المؤرخين العرب لتوثيق ملكية الأرض الفلسطينية
بقلم: د. أحمد يوسف القرعي
فلسطين.. الأرض والإنسان.. ملحمة حضارية لها تاريخها القديم والوسيط والحديث المحفوظ في سجلات التاريخ حتي إعلان قيام دولة عبرية عام 1948 على جزء من الأرض الفلسطينية. وأدركت "إسرائيل" منذ الوهلة الأولى أن هويتها المصطنعة بلا سند أو جذور، وسيطرتها على الأرض الفلسطينية بلا سجلات تاريخية، ومن هنا خططت للاستيلاء على كل وثائق ملكية الأرض الفلسطينية منذ حرب 1948 وما بعدها، في الوقت الذي لم يتنبه إليه المؤرخون العرب إلى أهمية تجميع وحفظ تلك الوثائق التي تعرضت لعملية النهب المنظم من قبل "إسرائيل".
وكانت بريطانيا الدولة المنتدبة على فلسطين حتى عام 1947-1948 قد اتبعت نظام السجل العيني الذي يرصد ملكية العقارات حسب أرقامها ولا يهتم بشخص المالك، وخصصت بريطانيا لكل عقار أو وحدة عقارية عدداً من الصفحات يثبت فيها كل الحقوق والالتزامات وأسماء الملاك، بحيث تكفي مجرد النظرة لصفحة العقار لمعرفة كل ما يهم المتعامل.
ولم تنفذ بريطانيا الدولة المنتدبة على فلسطين نظام السجل العيني حباً في الفلسطينيين بدليل أنها تركت المدن العربية القديمة بقيودها العثمانية العتيقة ونفذت السجل العيني على جميع الطرق والسكك الحديدية والمدن الجديدة والأراضي الزراعية لتيسير إنشاء دولة عبرية.
وجاء العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر عام 1956، وبينما آثرت كل من بريطانيا وفرنسا الانسحاب من منطقة القناة في 23 ديسمبر1956، فإن "إسرائيل" واصلت احتلالها غزة حتى مارس1957 حيث استكملت عملية نهب وثائق السجل العيني لقطاع غزة، مما دفع الحكومة المصرية إلى إثبات ذلك في تحقيقات النيابة العامة (رقم 788 لسنة 1957 ـ إداري غزة) وبعدها باشرت الحكومة المصرية إنشاء سجلات جديدة لملكية أراضي قطاع غزة بدلاً من التي سلبتها "إسرائيل" أثناء العدوان، وصدر قرار الحكم الإداري العام لقطاع غزة رقم57، لسنة 1958 ونص في مادته الثانية على إعداد جداول جديدة لبيانات الأراضي والأملاك وأسماء متصرفيها وملاكها والحقوق التي لها أو عليها الواقعة في قطاع غزة والتي كانت مسجلة بالسجلات المفقودة حتى أول نوفمبر 1956.
ومن المسلمات أن إعداد عمل لنموذج مفقود ولم يسبق مشاهدته ولا توجد له صورة ضوئية ولا مواصفات محددة هو عمل عسير وأقرب إلى المستحيل، ورغم هذا فقد نجحت الإدارة المصرية لقطاع غزة بالتعاون مع فريق عمل فلسطيني (مسجل أراضي غزة ومساعده 4 إداريين) أن تحقق هذا العمل في مهمة استغرقت 4 سنوات و4 شهور تم خلالها إعداد سجلات لجميع مدن وقرى القطاع (رفح في الجنوب - خان يونس - دير البلح - بني سهيلا - عبسان - خزاعة - غزة - بيت حانون في الشمال) وبلغت أوراق سجل الملكية الجديدة 23873 ورقة تشمل ملكية 21004 قسائم وتقدر بحوالي 250,000 دونم وهي كامل مساحة قطاع غزة.
ويشرح الأستاذ محمد محمود سالم أحد أبطال هذا العمل القومي في رسالته للأهرام كيف تم إعداد هذا الإنجاز ويقول: إنه تم الاستعانة أولا بالمتيسر من وثائق بسجلات توزيع الضريبة بمصلحة الأموال المقررة وما ثبت صحته من وثائق تقدم بها المواطنون، وبعد دراسة كل هذه الوثائق ونشر نتائج الفحص على الجميع، وقبول الطعون عليها في توقيت زمني ميسر، ومعاينة الموقع على الطبيعة، تم التوصل إلى نتائج أقرب للحقيقة والدليل على ذلك -كما يقول- الأستاذ محمد محمود سالم (وهو حالياً عضو نادي الأهرام للكتاب) ـ عدم رفع دعاوى أمام القضاء لإبطال القيود التي تم التوصل إليها.
* * *
ولعل هجوم إذاعة إسرائيل في أبريل 1961 على شخص محمد محمود سالم المسئول المصري عن إنجاز سجلات الملكية في غزة يعني استشاطة "إسرائيل" غضباً وغيظاً عن إعداد هذا الإنجاز الذي أضاع عليها مخطط نهب السجلات الأصلية.
أيا كان الأمر، فإن رسالة محمد محمود سالم إلى الأهرام تفضح مخطط "إسرائيل" في مواصلة نهب وثائق الملكية الفلسطينية وتحقيق هذا بصورة واسعة بعد عدوان 1967، وليس خافياً علينا وقوع حوادث كثيرة نشرتها الصحف حول سلب وثائق الأوقاف الإسلامية لعقارات وأحياء كاملة في القدس وهدم المعمار العربي والأحياء العربية... إلخ.
* * *
وفي مواجهة هذا المخطط الإسرائيلي من الأهمية بمكان تعبئة جهود المؤرخين العرب في إعداد ملف جديد ومتكامل لوثائق الملكية الفلسطينية للأرض الزراعية والعقارات وللأحياء ويمكن توظيف هذا الملف في رفع دعوى أمام المحافل الدولية لاسترداد أملاك الفلسطينيين وأموالهم وعوائد استغلالها طوال سنوات الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948 إلى عام1967.
ويؤكد الأستاذ محمد محمود سالم في رسالته إن أملاك الفلسطينيين وأموالهم عام 1948 كانت تقدر بما يلي: مزارع موز (مليون جنيه استرليني) مزارع فاكهة زيتون (275 مليوناً) أراض جيدة (30 مليوناً)، أراض نصف جيدة (220 مليوناً). مبان وأراض للبناء (1100 مليون)، أموال منقولة (200 مليون)، ودائع بالبنوك وحسابات مجمدة (6 ملايين) وأموال بشركات التأمين (مليون) والجملة مليار و800 مليون جنيه استرليني.
ومن المسلمات كما يقول الأستاذ محمد محمود سالم أن أي استثمار عادي للأموال يضاعفها كل10 سنوات، ويعني هذا أن قيمة الأموال الفلسطينية وأموالهم عام 1948 (مليار و800 مليون جنيه استرليني) كان من المفترض أنها تنمو حتى الآن لتكون 288 مليار جنيه استرليني، وهي أموال اغتصبتها "إسرائيل" وحرمت أصحابها منها.
ولعل إثارة هذه القضية تكون سنداً من أسانيد رفع الدعوي التي اقترحها الفقيه القانوني الراحل د. محمد علي محمود أمام محكمة العدل الدولية لوقف إبادة الشعب الفلسطين،ي والتي عرضناها في مقالين سابقين ومثل تلك المبادرات يمكن أن تثير ضغوطاً متزايدة على "إسرائيل" في المحافل الدولية جنباً إلى جنب مع استمرار وتصعيد انتفاضة الأقصى.
[quote]