موضوع: فلسطين في التاريخ الإسلامي الأحد فبراير 21, 2010 7:02 pm
فلسطين في التاريخ الإسلامي
منذ العصر العباسي الثاني الذي ابتدأ بعد منتصف القرن الثالث الهجري ودولة الخلافة الإسلامية في ضعف مستمر متزايد، حتى تمزقت دولة الإسلام إلى ثلاث خلافات بدلاً من خلافة واحدة فالخلافة العباسية في المشرق، والخلافة الفاطمية في مصر وأجزاء من المغرب والشام، والخلافة الأموية في الأندلس، وفي مثل تلك الأجواء حدثت الحروب الصليبية.
الخريطة السياسية للمنطقة قبيل الحروب الصليبية
قبل بدء الحروب الصليبية بحوالي أربعين عاماً نجح السلاجقة الأتراك في بسط سيطرتهم على بغداد وتولي الحكم تحت الخلافة الاسمية للعباسيين. فقد استطاع السلاجقة بسط سيطرتهم على أجزاء واسعة من فارس وشمال العراق وأرمينيا وآسيا الصغرى حوالي 1040م ثم سيطر السلطان السلجوقي طغرل بك على بغداد سنة 1055م، وتوسع السلاجقة على حساب البيزنطيين في آسيا الصغرى، وفي 19 أغسطس 1071م وقعت معركة ملاذكرد التي قادها السلطان السلجوقي ألب أرسلان وحلت فيها أكبر كارثة بالبيزنطيين حتى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي.
وفي سنة 1071م سيطر السلاجقة على معظم فلسطين عدا أرسوف وأخرجوا النفوذ الفاطمي منها وتوسع السلاجقة على حساب الفاطميين في الشام فاستطاعوا الاستيلاء على معظمها.
وفي سنة 1092م 485 هـ توفي السلطان السلجوقي ملكشاه فتفككت سلطة السلاجقة، ودخلوا فيما بينهم في معارك طويلة طاحنة على السيطرة والنفوذ، وفي سنة 1096م أصبحت سلطتهم تتكون من خمس ممالك: سلطنة فارس بزعامة بركياروق، ومملكة خراسان وما وراء النهر بزعامة سنجر ومملكة حلب بزعامة رضوان، ومملكة دمشق بزعامة دقاق، وسلطنة سلاجقة الروم بزعامة قلج أرسلان. وكانت معظم مناطق فلسطين تتبع الحكم في دمشق. وفي ظل ضعف حاكمي الشام (رضوان ودقاق) ظهرت الكثير من البيوتات الحاكمة بحيث لا يزيد حكم كثير منها عن مدينة واحدة.
لقد بدأ الصليبيون حملتهم 1098م - 491هـ ومناطق المسلمين في الشام والعراق وغيرها تمزقها الخلافات والصراعات الدموية، فقد دخل الأخوان رضوان ودقاق ابنا تتش في حرب بينهما سنة 490 هـ، ووقعت معارك عديدة بين محمد بن ملكشاه وأخيه بركياروق في الصراع على السلطنة تداولا فيها الانتصارات والخطبة لهما بدار الخلافة 492-497هـ.
الحملة الصليبية الأولى ونتائجها
وفي تلك الأثناء أخذت الأنظار في أوروبا تتجه نحو الأرض المقدسة بعد أن دعا البابا أوربان الثاني (1088 - 1099م) في مجمع كليرومونت 26 تشرين ثاني / نوفمبر 1095م «لاسترداد» الأراضي المقدسة من أيدي المسلمين، تم عقد عدة مجمعات دعا فيها للحروب الصليبية (ليموج، انجرز، مان، تورز، بواتييه، بوردو، تولوز، نيم) خلال 1095-1096م، وقرر أن كل من يشترك في الحروب الصليبية تغفر له ذنوبه، كما قرر أن ممتلكات الصليبيين توضع تحت رعاية الكنيسة مدة غيابهم، وأن يخيط كل محارب صليباً من القماش على ردائه الخارجي.
وبدأت الحملات الصليبية بحملات العامة أو حملات الدعاة، وهي حملات تفتقر إلى القوة والنظام، وكان منها حملة بطرس الناسك وهو رجل فصيح مهلهل الثياب حافي القدمين يركب حماراً أعرج جمع حوله من فرنسا حوالي 15 ألفاً، وفي طريقهم أحدثوا مذبحة في مدينة مجرية لخلاف على المؤن فقُتل أربعة آلاف، وانضمت إليهم عند القسطنطينية جموع والتر المفلس، ودخلت حشودهم الشاطئ الآسيوي، وحدثت معركة مع السلاجقة انتصر فيها السلاجقة وقتلوا من الصليبيين 22 ألفاً ولم يبق من الصليبيين سوى ثلاثة آلاف. أما حملتا فولكمار وأميخ فقد أقامتا مذابح لليهود في الطريق، وتشتت الحملتان في المجر!!.
ثم كان ما يعرف بالحملة الصليبية الأولى وقد شارك فيها أمراء وفرسان أوروبيون محترفون وبدأت الحملة سيطرتها على مناطق المسلمين منذ صيف 1097م، وأسس الصليبيون إمارة الرها مارس 1098م بزعامة بلدوين البولوني. وحاصر الصليبيون أنطاكية تسعة أشهر وظهر من شجاعة صاحب أنطاكية باغيسيان «وجودة رأيه واحتياطه مالم يشاهد من غيره فهلك أكثر الفرنج ولو بقوا على كثرتهم التي خرجوا فيها لطبقوا بلاد الإسلام»، غير أن أحد الأرمن المستحفظين على أسوار المدينة راسله الصليبيون وبذلوا له «مالاً وإقطاعاً» ففتح للصليبيين الباب من البرج الذي يحرسه فاحتل الصليبيون المدينة، وأسسوا فيها إمارتهم الثانية 491هـ -3 يونيو 1098م، بزعامة بوهيمند النورماني.
وفي الوقت الذي كان السلاجقة يتعرضون فيه للزحف الصليبي شمال بلاد الشام، استغل الفاطميون الفرصة فاحتلوا صور 1097م وسيطروا على بيت المقدس في شباط / فبراير 1098م أثناء حصار الصليبيين لأنطاكية، واستقل بطرابلس القاضي بن عمار أحد أتباع الفاطميين، بل أرسل الفاطميون للصليبيين أثناء حصارهم لأنطاكية سفارة للتحالف معهم وعرضوا عليهم قتال السلاجقة بحيث يكون القسم الشمالي «سوريا» للصليبيين وفلسطين للفاطميين، وأرسل الصليبيون وفداً إلى مصر ليدللوا على «حسن نيَّاتهم»!!، وهكذا... فأثناء انشغال السلاجقة بحرب الصليبيين كان الفاطميون منشغلين بتوسيع نفوذهم في فلسطين على حساب السلاجقة حتى إن حدودهم امتدت حتى نهر الكلب شمالاً ونهر الأردن شرقاً..!!
وظهرت الخيانات وانكشف التخاذل من إمارات المدن التي حرصت كل منها على نفوذها و«كسب ود» الصليبيين أثناء توسعهم ومن ذلك ما حدث من اتصال صاحب إقليم شيزر بالصليبيين حيث تعهد بعدم اعتراضهم وتقديم ما يحتاجون من غذاء ومؤن بل وأرسل لهم دليلين ليرشداهم على الطريق!!، وقدمت لهم حمص الهدايا!! وعقدت معهم مصياف اتفاقية!!.. أما طرابلس فدفعت لهم الجزية، وأعانتهم بالأدلاء، ودفعت بيروت المال، وعرضت عليهم الدخول في الطاعة إذا نجحوا في احتلال بيت المقدس!!.
تابع ريموند دي تولوز (أمير إقليم بروفانس وتولوز بفرنسا) قيادة بقية الصليبيين إلى بيت المقدس وكان عددهم ألف فارس وخمسة آلاف من المشاة فقط!! وفي ربيع 1099م دخلوا مناطق فلسطين فمروا بعكا التي قام حاكمها بتموين الصليبيين!! ثم قيسارية ثم أرسوف، ثم احتلوا الرملة واللد وبيت لحم، وفي 7 حزيران / يونيو 1099م بدأوا حصار بيت المقدس، وكان حاكمها قد نصبه الفاطميون ويدعى افتخار الدولة، وتم احتلالها في 15 يوليو 1099 لسبع بقين من شعبان 492هـ. ولبث الفرنج أسبوعاً يقتلون المسلمين... وقتلوا بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين، وعلمائهم وعبادهم(20). أما الدولة الفاطمية فقد واجهت الخبر ببرود، كما أن الدولة العباسية لم تحرك ساكناً!!
تولى حكم بيت المقدس القائد الصليبي جود فري بوايون، وتسمى تواضعاً بحامي بيت المقدس، واستسلمت نابلس، وتم للصليبيين احتلال الخليل(21).
ويقال إنه لم يبق من الصليبيين إلا ثلاثمائة فارس وألفين من المشاة ولم يستطيعوا توسيع سيطرتهم، ذلك أن كثيراً منهم عادوا إلى بلادهم بعد أن أوفوا قسمهم بالاستيلاء على بيت المقدس(22)، وبذلك أصبحت ممالك الصليبيين كالجزر وسط محيط من الأعداء، ومع ذلك كتب لها الاستمرار مائتي سنة حتى تم اقتلاع آخرها!! بسبب الإمدادات والحملات التي كانت تأتيهم بين فترة وأخرى، وبسبب ضعف المسلمين وتشرذمهم، وعدم استغلالهم لفرصة انسياب وانتشار الصليبيين على مساحات واسعة من الأرض بأعداد قليلة ليقضوا عليهم، ولكن المسلمين تأخروا حتى قويت شوكة الصليبيين وأصبح من الصعب اقتلاعها.
وتتابع سقوط مدن فلسطين الأخرى، فقد كانت يافا قد سقطت أثناء حصار بيت المقدس على يد سفن جنوية في 15 يونيو 1099م، وسيطر الصليبيون على شرق بحيرة طبرية (منطقة السواد) في مايو 1100م، واستولوا على حيفا عنوة في شوال 494 هـ - أغسطس 1100م بمساعدة أسطول كبير من البندقية، وملكوا أرسوف بالأمان وأخرجوا أهلها منها، وملكوا قيسارية 17 مايو 1109م بالسيف وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها وذلك في 17 مايو 1101م(23). وهكذا فرض الصليبيون هيمنتهم على فلسطين غير أن عسقلان ظلت عصية عليهم وكان المصريون (الفاطميون) يرسلون لها كل عام الذخائر والرجال والأموال، وكان الفرنج يقصدونها ويحاصرونها كل عام فلا يجدون لها سبيلاً، ولم تسقط عسقلان بأيدي الفرنج إلا في سنة 1153م-548هـ، وكان أهلها قد ردوا الفرنج مقهورين في ذلك العام، وعندما آيس الفرنج وهموا بالرحيل أتاهم خبرأن خلافاً وقع بين أهلها فصبروا. وكان سبب الخلاف أن أهلها لما عادوا قاهرين منصورين ادعى كل طائفة أن النصرة كانت من جهتها، فعظم الخصام بينهم إلى أن قتل من إحدى الطائفتين قتيل، واشتد الخطب وتفاقم الشر، ووقعت الحرب بينهم فقتل بينهم قتلى!! فطمع الفرنج، وزحفوا إلى عسقلان وقاتلوا «فلم يجدوا من يمنعهم فملكوه»(24)!! ترى... كم هي الهزائم التي تأتي من أنفسنا أو نصنعها بأنفسنا؟! {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}(25).
وهكذا تأسست مملكة بيت المقدس الصليبية، ونشير استطراداً إلى تأسيس الفرنج لمملكة صليبية رابعة هي طرابلس في 11 ذي الحجة 503هـ -12 يوليو 1109م بعد حصار دام سبعة أعوام.
استمرار الصراع (نظرة عامة)
من الصعب أن ندخل في تفصيل الأحداث سنة بسنة وحادثاً بحادث، خصوصاً أن منهجنا يميل إلى الاختصار ووضع اليد على النقاط المهمّة الحساسة في سياق حديثنا عن التجربة التاريخية للحل الإسلامي على أرض فلسطين، غير أن استكمال الصورة ومعرفة مجمل الظروف في تلك الفترة يقتضي الإشارة إلى المعطيات التالية التي ظهرت خلال الثلاثين سنة التي تلت الاحتلال الصليبي لبيت المقدس:
- كان عدد الصليبيين محدوداً وقد فرضوا هيمنتهم من خلال قلاع منتشرة كجزر معزولة في العديد من مناطق الشام.
- استمر الصراع والنزاع بين المسلمين، واستعان بعضهم بالصليبيين على خصومهم، مما أضعف الموقف الإسلامي، وجعل الصليبيين يلعبون في بعض الأحيان دور الشرطي، ويستفيدون من ذلك في زيادة نفوذهم وتقوية شوكتهم.
ومن ذلك الصراع بين طغتكين وبكتاش بن تتش على دمشق، حيث استعان بكتاش 498هـ بالفرنج على خصمه، ولحق به «كل من يريد الفساد»، غير أن ملك الفرنج لم يعطه سوى التحريض على الإفساد، ثم استقام الأمر لطغتكين(27). وعندما وقعت معركة بين الفاطميين والفرنج بين عسقلان ويافا سنة 498هـ ساعدت الفاطميين قوة من دمشق من 300 فارس وساعدت جماعة من المسلمين بقيادة بكتاش بن تتش الفرنج(28). وعندما جاء جيش السلطان من العراق سنة 509هـ إلى الشام لجهاد الصليبيين بقيادة برسق بن برسق خاف حكام دمشق وحلب على نفوذهم من أن يزول فتعاونوا بقيادة طغتكين مع فرنج أنطاكية ضد جيش السلطان. ثم ما لبث طغتكين نفسه أن قاتل فرنج بيت المقدس واستعاد رفنية بعد أن استولى الفرنج عليها(29)...، إنه القتال المرتبط بالمصلحة، فمرة يلبس ثوب الجهاد في سبيل الله، ومرة يلبس ثوب الدفاع عن «الحق» (الكرسي) تحت حجج الوراثة أو الكفاءة... حتى لو اقتضى ذلك التحالف مع الأعداء.
- استمر جهاد المسلمين ضد الفرنج (الصليبيين) دون توقف، وإن كان هذا الجهاد قد افتقر إلى حسن الإعداد والتنظيم، كما تعدد القادة المسلمون الذين يأتون ويذهبون، كما تعددت محاور الصراع والاشتباك مع الفرنج في بلاد الشام، وافتقر المسلمون إلى قاعدة كبيرة قوية تكون منطلقاً دائماً للجهاد، وكثيراً ما كان القتال بين مدينة أو قلعة إسلامية -تحاول الدفاع عن نفسها أو توسيع نفوذها- وبين الفرنج.
وتداول المسلمون والصليبيون النصر والهزيمة في المعارك، ولم يكن يمضي عام دون معارك وتبادلوا احتلال المدن والقلاع، ولم يكن من الصعب على المسلمين أن يدخلوا في وسط فلسطين ويخوضوا المعارك عند الرملة أو يافا أو غيرهما. غير أن الصليبيين ظلوا يحتفظون بنفوذهم وهيمنتهم في المناطق التي استولوا عليها.
وظهر عدد من المجاهدين المسلمين الذين كانت قدراتهم محدودة ولم يتمكنوا من توحيد قوى المسلمين لجهاد الفرنج، غير أنهم حافظوا على جذوة الجهاد، وألحقوا بالفرنج خسائر كبيرة وأفقدوهم الاستقرار والأمان وقتلوا أو أسروا العديد من قادتهم وزعمائهم(30). فمثلاً كان بين معين الدولة سقمان وشمس الدولة جكرمش حرب، ولمّا حوصرت حرَّان من قبل الفرنج سنة 497هـ تراسلا وأعلم كل منهما الآخر أنه قد بذل نفسه لله تعالى وثوابه فسارا واجتمعا بالخابور في عشرة آلاف من التركمان والترك والعرب والأكراد فالتقوا بالفرنج عند نهر البليخ، وهزم الفرنج فقتلهم المسلمون «كيف شاؤوا»، وأسر بردويل وفدى بخمسة وثلاثين ديناراً و 160 أسيراً من المسلمين وكان عدد قتلى الفرنج يقارب «12» ألفاً(31).
وفي سنة 507 هـ اجتمع المسلمون من الموصل وسنجار ودمشق وقاتلوا الفرنج عند طبرية وانتصروا عليهم وأسروا ملكهم «بغدوين» دون أن يعرف فأخذ سلاحه وأطلق وكثر القتل والأسر في الفرنج. ثم جاء مدد من جند أنطاكية وطرابلس فقويت نفوس الفرنج وعادوا للحرب فأحاط بهم المسلمون من كل ناحية وصعد الفرنج إلى جبل غربي طبرية ومكثوا 26 يوماً دون أن ينزلوا للقتال، فتركهم المسلمون وساروا إلى بيسان ونهبوا «بلاد الفرنج» بين عكا إلى القدس وخربوها، ورجع المسلمون. وعاد مودود بن التونتكين صاحب الموصل مع طغتكين إلى دمشق، وهناك في صحن المسجد في يوم الجمعة وثب عليه باطني فجرحه أربع جراحات وقُتل الباطني، وأبى مودود أن يموت إلا صائماً، وكان خيراً عادلاً كثير الخير. ويقال إن طغتكين هو الذي تآمر عليه. وكتب ملك الفرنج إلى طغتكين بعد قتل مودود كتاباً جاء فيه: «إن أمة قتلت عميدها يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها»(32)!!
- المسلمون من سكان فلسطين الأصليين استمروا في سكنهم للبلاد التي احتلها الفرنج، ولكن قسماً منهم هجروها إلى شرق الأردن ودمشق، وأنفوا من التعاون مع الصليبيين. ولذلك تعطلت الزراعة في أكثر المدن الساحلية الفلسطينية. وقد عمل هؤلاء على محاربة الصليبيين وقدموا خدمات للمسلمين المهاجمين، وانضموا إلى كتائب المسلمين في بلاد الشام وساعدوهم كأدلاء في فلسطين، ويقول المؤرخ الصليبي وليم الصوري عنهم «إنهم علموا عدونا كيف يدمرنا لأنهم يملكون معلومات كافية عن حالتنا»(33).
وكان من أبرز قادة المسلمين المجاهدين الأوائل أقسنقر البرسقي الذي ولاه السلطان محمد سنة 508هـ الموصل وأعمالها وأمره بقتال الفرنج، وخاض أقسنقر المعارك ضد الصليبيين في شمال الشام، ودخلت -بالإضافة إلى الموصل والجزيرة وسنجار- مدينة حلب سنة 518هـ تحت زعامته فتوسعت جبهته المعادية للصليبيين، غير أنه قُتل رحمه الله سنة 520هـ على يد الباطنية في الموصل وكان أقسنقر مملوكاً تركياً خيراً يحب أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة، يحافظ على الصلوات في أوقاتها ويقوم الليل(34).
- الدولة الفاطمية في مصر بقيادة وزيرها الأفضل بدر الجمالي أرسلت حملات عديدة إلى فلسطين وحاولت الدفاع عن مناطق نفوذها على الساحل، غير أن حملاتها لم تكن بمستوى ما تزخر به مصر من قدرات وإمكانات، ويظهر أن حملاتها اتخذت طابعاً استعراضياً، وافتقرت إلى التنسيق الجاد مع القوى الإسلامية في الشام(35). وكان الحكم الفاطمي قد افتقد مصداقيته الجهادية الإسلامية عندما راسل الفرنج وهم يزحفون باتجاه بيت المقدس عارضاً التحالف ضد السلاجقة وتقاسم النفوذ في الشام. ومهما يكن، فإن الدولة الفاطمية كانت في طور الأفول، وكانت تعاني من عوامل الضعف والانهيار.
جهاد عماد الدين زنكي 521 - 541هـ
انفتحت صفحة جديدة لجهاد الصليبيين بظهور عماد الدين زنكي بن أقسنقر وبدء عهد الدولة الزنكية في الموصل وحلب، فقد تولى عماد الدين زنكي أمر ولاية الموصل وأعمالها سنة 521هـ بعد أن ظهرت كفاءته في حكم البصرة وواسط وتولَّى شحنكية العراق(36)، وفي محرم سنة 522هـ تمت له السيطرة على حلب. وأخذ عماد الدين يخوض المعارك تلو المعارك ويحقق الانتصارات على الصليبيين، وعلق ابن الأثير بعد أن تحدث عن انتصار عماد الدين على الفرنج في معركة كبيرة وملكه حصن الأثارب وحصاره حارم سنة 524هـ... «وضعفت قوى الكافرين، وعلموا أن البلاد قد جاءها مالم يكن لهم في حساب، وصار قصاراهم حفظ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك الجميع»(37).
واستمرت جهود زنكي في توحيد قوى المسلمين في غزو الصليبيين، فملك زنكي حماة وحمص وبعلبك، وسرجي، ودارا، والمعرة، وكفر طاب، وقلعة الصور في ديار بكر، وقلاع الأكراد الحميدية، وقلعة بعرين، وشهرزور، والحديثة، وقلعة أشب وغيرها من الأكراد الهكارية(38).. . وفي سنة 534هـ حاول زنكي الاستيلاء على دمشق مرتين دون جدوى، فقد كانت دمشق المفتاح الحقيقي لاسترداد فلسطين من جهة الشام، غير أن القائم بأمر الحكم هناك معين الدين أنز راسل الصليبيين للتحالف ضد زنكي ووعدهم أن يحاصر بانياس ويسلمها لهم ووافقوا، ولكن زنكي ذهب إليهم قبل قدومهم لدمشق فلما سمعوا ذلك لم يخرجوا. ومع ذلك فإن معين الدين حاصر بانياس بمساعدة جماعة من الفرنج ثم استولى علىها وسلمها للفرنج(39)!!
غير أن أشهر ما يذكر من الفتوح لزنكي هو فتحه للرها وإسقاطه للمملكة الصليبية التي قامت بها، فقد حاصرها أربعة أسابيع وفتحها عنوة في 6 جمادى الآخرة 539هـ، وفتح ما يتبع هذه المملكة من أعمال في منطقة الجزيرة، وفتح سروج وسائر الأماكن التي كانت للفرنج شرقي الفرات ما عدا البيرة(40).
قتل عماد الدين زنكي -بعد أن حمل راية الجهاد أكثر من عشرين عاماً- في منتصف سبتمبر 1146م- 5 ربيع الأول 541هـ غدراً على يد جماعة من مماليكه بينما كان يحاصر قلعة جعبر(40)، وكان عمره زاد عن ستين سنة وعلى ما ذكر ابن الأثير فقد كان زنكي شديد الهيبة في عسكره ورعيته، عظيم السياسة، لا يقدر القوي على ظلم الضعيف، وكانت البلاد قبل أن يملكها خراباً من الظلم وتنقل الولاة ومجاورة الفرنج، فعمّرها وامتلأت أهلاً وسكاناً «وكان زنكي من خيار الملوك وأحسنهم سيرة وشكلاً، وكان شجاعاً مقداماً حازماً، خضعت له ملوك الأطراف، وكان من أشد الناس غيرة على نساء الرعية، وأجود الملوك معاملة، وأرفقهم بالعامة»(43). واشتهر عماد الدين بعد مقتله بلقب «الشهيد».
لقد عمل عماد الدين زنكي في أجواء صعبة من نزاع بين أمراء وزعماء السلاجقة أنفسهم، وبينهم وبين الخليفة العباسي في أحيان أخرى، ومن أجواء الحكم الوراثي، ونزعة الكثيرين للسيطرة والزعامة حتى ولو على مدينة أو قلعة واحدة، كما عاش فترة كانت القوى الصليبية لا تزال تملك الكثير من القوة والحيوية. ومع ذلك فقد استطاع عماد الدين أن يضع الأسس لقاعدة انطلاق جهادية كبيرة وقوية تمتد من شمال الشام إلى شمال العراق، كما كسر شوكة الصليبيين في مواقع كثيرة، ويسر سبل الجهاد والعمل الجاد لتحرير الأرض، وقدم نموذجاً للحاكم والمجاهد تحت راية الإسلام، وقوى الأمل باسترجاع المقدسات. غير أن أفضل أثر تركه -على ما يظهر لنا- هو ابنه نور الدين محمود.
جهاد نور الدين محمود 541هـ-569هـ
بعد استشهاد زنكي، وحسب الأعراف الوراثية في ذلك الزمان، انقسمت دولته بين ابنيه: نور الدين محمود الذي تولى حلب وما يتبعها وسيف الدين غازي الذي تولى الموصل وما يتبعها.
ولد نور الدين محمود -بعد حوالي عشرين عاماً من سقوط القدس في أيدي الصليبيين- في 17 شوال 511هـ -فبراير 1118م، وكان أسمر طويل القامة، حسن الصورة، ذا لحية خفيفة، وعليه هيبة ووقار. تزوج سنة 541هـ من ابنة معين الدين أنز ورزق ببنت وولدين، وتوفي رحمه الله في 11 شوال 569هـ-15 مايو 1174م(44).
وبحكم نور الدين انفتحت صفحة جديدة رائعة من صفحات الجهاد الإسلامي في بلاد الشام، وطوال 28 عاماً من حكم نور الدين كان واضحاً في ذهنه هدفه الأساسي في تحرير واسترداد بلاد المسلمين، وتوحيدها تحت راية الإسلام.
ومنذ تلك اللحظة أخذ يبذل الأسباب ويعد العدة والعتاد ويوحد جهود المسلمين ويرتقي بهم في جوانب الحياة المختلفة وذلك وفق تصور إسلامي متكامل لإعادة أمجاد المسلمين وطرد الاحتلال الصليبي من بلادهم...
ودخل المعركة وفق فهم إسلامي شامل سليم يؤكد على عقائدية المعركة مع الصليبيين فهي صراع بين حق وباطل وبين إسلام وكفر.
- وأن المعركة تعني كل المسلمين دون نظر إلى قوميات وعصبيات وجنسيات.
- وأنه لا سلام نهائي حتى يسترجع المسلمون كل شبر من أراضيهم.
- وأنه لا بد من الإعداد المتكامل للأمة -حتى تكون على مستوى الجهاد- إيمانياً وثقافياً وتربوياً واجتماعياً وجهادياً وعسكرياً.
- وأنه لا بد من توحيد الجهود تحت راية الإسلام في مواجهة العدو الصليبي.
معالم النهضة الإسلامية
وفي سبيل ذلك قام نور الدين محمود بإحياء نهضة إسلامية أكدت على تكامل الحل الإسلامي، وقد تم التعبير عنها من خلال:
1- القيادة الإسلامية الصادقة
وتمثلت في شخصه وأشخاص من حوله من القادة والمسؤولين والعلماء. فقد كان للتكوين النفسي والشخصية المميزة لنور الدين محمود أثرهما الكبير في وجود قيادة إسلامية واعية، جادة، مجاهدة.
قال ابن الأثير: «طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام، وفيه إلى يومنا هذا، فلم أرَ بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين»(45). فلقد كان «ذكياً، ألمعياً، فطناً، لا تشتبه عليه الأحوال، ولا يتبهرج عليه الرجال»، ولم يتقدم لديه إلا ذوو الفضل، والقدرة على الإنجاز الأمين المسؤول للعمل، ولم ينظر في تقديمه للرجال إلى المكانة الاجتماعية أو للجنس والبلد(46).
كما عرف نور الدين بتقواه وورعه فقد كان حريصاً على أداء السنن وقيام الليل بالأسحار. فكان ينام بعد صلاة العشاء ثم يستيقظ في منتصف الليل فيصلي ويتبتل إلى الله بالدعاء حتى يؤذن الفجر. كما كان كثير الصيام(47).
وتميز بفقهه وعلمه الواسع فلقد تشبه بالعلماء واقتدى بسيرة السلف الصالح، وكان عالماً بالمذهب الحنفي، وحصل على الإجازة في رواية الأحاديث وألف كتاباً عن الجهاد(48).
وكان ذا طبيعة جادة، كما رزقه الله قوة الشخصية فكان «مهيباً مخوفاً مع لينه ورحمته» ومجلسه «لا يذكر فيه إلا العلم والدين والمشورة في الجهاد» «ولم يسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا رضى صموتاً وقوراً»(49).
وكان زاهداً متواضعاً فقد «كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه من غير اكتناز، ولا استئثار بالدنيا»، وعندما شكت زوجته الضائقة المادية أعطاها ثلاثة دكاكين له بحمص وقال «ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه، ولا أخوض في نار جهنم لأجلك»(50).
قال له الشيخ الفقيه قطب الدين النيسابوري يوماً «بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام، فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف». فقال له نور الدين «يا قطب الدين!! ومن محمود حتى يقال له هذا؟ قبلي من حفظ البلاد والإسلام؟ ذلك الله الذي لا إله إلا هو»(51).
وعلى اتساع نفوذه وسلطانه جاءه التشريف من الخلافة العباسية وتضمن قائمة بألقابه التي يذكر بها على منابر بغداد تقول «اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين وعدته، ركن الإسلام وسيفه قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضي الإمامة وأثيرها، فخر الملة ومجدها شمس المعالي وملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محي العدل في العالمين، منصف المظلوم من الظالمين، ناصر دولة أمير المؤمنين»!! فأوقف هذا كله واكتفى بدعاء واحد هو «اللهم وأصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي»(52).
وعرف باتساع شعبيته وحب الناس له حتى في البلاد التي لا يحكمها، وكان يستشعر إحساساً عظيماً بالمسؤولية تجاه الزمن أن يضيع وتجاه الدم المسلم أن يراق والكرامة الإسلامية أن تهدر والأرض الإسلامية أن تستباح فكان يصل في عمله الليل بالنهار. وكان لا يهمل أمراً من أمور رعيته(53).
وحباه الله تكويناً عسكرياً فذاً حمل من خلاله تكاليف الجهاد الشاقة 28 عاماً بنفسية جهادية صادقة(54).
2- التزام أحكام الإسلام وتطبيقها
حرص على تطبيق أحكام الإسلام على الجميع، وكان قدوة في الالتزام بها، وطبقها على مسؤولي الدولة وقادتها، وكما حرص على رد الحقوق إلى أصحاب المظالم وكان يقول «حرام على كل من صحبني أن لا يرفع قصة مظلوم لا يستطيع الوصول إليَّ»، وفي توحيده لبلاد المسلمين كان يحرص على عدم إراقة دماء المسلمين ولذلك كان ذا صبر وحكمة وتأن في ذلك، لقد كان رحمه الله يحفظ الشريعة المطهرة ويقف عند أحكامها(55).
ورغم اضطراره للاصطدام بالعديد من زعماء المدن والقلاع المسلمين في سعيه لتحقيق الوحدة أو لتحالفهم مع الفرنج...، إلا أن دم المسلم كان عنده عظيماً، وكان «لا يقصد ولاية أحد من المسلمين إلا لضرورة، إما ليستعين على قتال الفرنج أو للخوف عليها منهم»(56). وعندما تحالف حكام دمشق مع الصليبيين سنة 544هـ جاهد الصليبيين دون إيذاء المسلمين وضياعهم، وقال «لا حاجة لقتل المسلمين بعضهم بعضاً وأنا أرفههم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين». لقد شاهد الدماشقة حرمته حتى تمنوه، ودعوا الله أن يكون ملكهم(57).
وعندما رفع عليه أحدهم قضية إلى القاضي، استدعاه القاضي فقال: السمع والطاعة «إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا»، إني جئت ها هنا امتثالاً لأمر الشرع». وفي مرة أخرى دعي للقضاء فاستجاب ولما ثبت أن الحق مع نور الدين وهب لخصمه ما ادعاه عليه(58).
لقد ألغى رحمه الله الضرائب التي تزيد عن الحد الشرعي رغم ما كانت تدر من دخل كبير على ميزانية الدولة ورغم ما يمكن تبرير وجودها -عند البعض- بظروف البلاد والحرب(59). وكان يقول «نحن نحفظ الطريق من لص وقاطع طريق... أفلا نحفظ الدين ونمنع ما يناقضه»(60). وكان أشهى شئ عنده كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة يتبعها(161).
3- البناء الإيماني والتربوي والثقافي
وفي هذا المجال استقدم العلماء العاملين وأفسح لهم مجال العمل والدعوة، وسعى في بناء المدارس والمساجد وأوقف عليها الأوقاف، وحارب البدع والأضاليل... فانتشر نور الإيمان والعلم بين الرعية. وأحيا سمت احترام العلماء وتوقيرهم فرغم أن الأمراء والقادة لم يكونوا يجرؤون على الجلوس في مجلسه دون أمره وإذنه... فإنه كان إذا دخل العالم الفقيه أو الرجل الصالح قام هو إليه وأجلسه وأقبل عليه مظهراً كل احترام وتوقير(62). وكان يقول عن العلماء إنهم «هم جند الله وبدعائهم نُنصَر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم فإن رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا»(63). لقد كانت بلاد الشام خالية من العلم وأهله، وفي زمانه صارت مقراً للعلماء والفقهاء والصوفية(64). وكان يسمع نصيحة العلماء ويجلها ويقول «إن البلخي إذا قال لي: محمود، قامت كل شعرة في جسدي هيبة له ويرقُّ قلبي»(65).
4- الإعمار والبناء الحضاري والاجتماعي:
عرف نور الدين بشخصيته التي تهتم بأحوال المسلمين وتحيي معاني التكافل والتعاون والتضامن بينهم وترفع عنهم معاناتهم وأحوالهم الصعبة... فلقد عمل على كفالة الأيتام وتزويج الأرامل وإغناء الفقراء وبناء المستشفيات والملاجئ ودور الأيتام والأسواق والحمامات والطرق العامة، وتوطين البدو وإقطاعهم الأراضي حتى لا يؤذوا الحجاج. لقد ارتقى بالخدمات التي تقدم للمسلمين فأحبه الشعب وأصبحت صلته بالشعب متينة قوية...، وسرت هذه النفسية البناءة المحبة للخير إلى نفوس رجاله فأصبحوا يتسابقون في خدمة الناس وبناء المدارس والمستشفيات والملاجيء ووسائل الخدمات المختلفة(66).
5- البناء الاقتصادي:
رتب نور الدين ديوان الزكاة في عهده ونظم جبايتها وتوزيعها وفق الأسس الشرعية، وشجع التجارة بتأمين طرق المواصلات ورفع الضرائب التي تثقل حركة التجارة، وسعى في كل ما يقوي الدولة ويدعم بنيانها الاقتصادي(67).
6- البناء الجهادي العسكري:
فلقد سعى في إحياء المعاني الجهادية في النفوس وتربية الأمة على معانيها وتكريس عزة المسلمين ومنعتهم وقوتهم، وبذل الجهد في توفير العدة والعتاد واختيار القادة المناسبين، وحماية المدن وبناء الأسوار والحفاظ على أرواح المسلمين، وتميز بحزمه وقوته في ذلك وكان رده عنيفاً جداً على الأعداء إذا انتهكت حرمات المسلمين، ومن ذلك أنه لم يكد يمر على استلامه للحكم شهر واحد حتى هاجم الصليبيون الرها ظانين أن الحاكم الجديد ضعيف ولكن نور الدين هاجم الصليبيين وقتل ثلاثة أرباع جيشهم الذي هربت فلوله وقد عرفت من يكون هذا القائد الجديد، وحصل مرة أن هاجم الصليبيون نور الدين وجزءاً من جيشه على حين غفلة فأقسم نور الدين أن لا يستظل بسقف حتى ينتقم للإسلام وكان انتقامه رهيباً في معركة حارم إذ قتل منهم الآلاف(68).
حتى الرياضة استفاد منها في مجال الإعداد الجهادي فلقد كانت الحرب تجري في ذلك العصر على الخيول... ولبناء هذه المهارة في التحكم بالخيول وحركتها كان يلعب بمهارة كبيرة لعبة الكرة من فوق الخيول (البولو)(69)!!
لقد حرص على تعبئة طاقات الأمة للجهاد... وهو في بذله لأسبابه لم ينس دعاء الضعفاء والعجائز والمحتاجين فكان يحسن إليهم ويذكر أنه ربما ينتصر ببركة دعائهم.
بهذا البناء المتكامل والإعداد الجاد المتزن دخل نور الدين مرحلة التغيير الجذري على الساحة السياسية ليحقق أمرين سار بهما في اتجاهين متوازيين هما:-
- تحقيق الوحدة الإسلامية وتعبئة قواها في بوتقة واحدة.
- تحطيم القوى الصليبية تدريجياً: بإضعاف هيبتها، وإنهاك قواها، والتحرير التدريجي لأرض المسلمين الواقعة تحت سيطرتها... وذلك بانتظار استكمال الوحدة الإسلامية لتحقيق نصر حاسم ونهائي على هذه القوى الصليبية.
أولاً: جهود الوحدة الإسلامية:
ولقد حرص نور الدين على تحقيقها بقدر كبير من الصبر والحكمة والأناة وحرص شديد على عدم إراقة دماء المسلمين، وقد حرص على استمالة القوى الإسلامية المتعددة في الشمال وشمال العراق وكسب صداقتها، كما كان يكشف بطريقة عاقلة واعية حقيقة أولئك الزعماء والحكام -الذين يقفون حجر عثرة أمام الوحدة الإسلامية- أمام رعيتهم، وكان الناس يقارنون بين جهاده وبين تخاذل حكامهم، وبين إصلاحاته وبين إفساد حكامهم، وبين ولائه لله سبحانه ولرسوله وللمؤمنين وبين ولاء حكامهم لمصالحهم وشهواتهم وللصليبيين!!، فأخذ الناس يتمنون حكمه عليهم.... ولذلك فقد وجد كل ترحيب شعبي عند انضمام أي من بلاد المسلمين إليه.
ضم نور الدين حمص إليه سنة 544هـ -1149م، غير أنه كان يتوق لضم دمشق التي كانت تقف بينه وبين الصليبيين في فلسطين، وكان الحكم في دمشق يسعى بالدرجة الأولى للحفاظ على نفسه فمرة يجاهد الفرنج، ومرة يصانعهم ويهادنهم، ومرة يتحالف معهم إذا خاف من قوة إسلامية ما. ووفق تخطيط متأنٍ يهدف إلى السيطرة على دمشق دون إراقة الدماء، وإلى كسب أهل دمشق إلى صفه، وإلى منع نظام الحكم من الاستعانة بالفرنج عليه إذا قصدهم، استطاع نور الدين أن يفتح دمشق في صفر 549-25 إبريل 1154م، وقد جاء هذا الفتح بعد أن توفي معين الدين أنز 1149م، وبعد أن ضعف الحكم بدمشق، ووقع تحت النفوذ الصليبي الذي فرض الإتاوات على دمشق وكانت رسلهم تدخل البل ويأخذونها منهم(70).
وتوالت سيطرة نور الدين على مدن وقلاع الشام حتى خضعت معظمها له، غير أنه كان يدرك أن السبيل الفعال لتحرير فلسطين واقتلاع الحكم الصليبي منها لا يكون إلا بالسيطرة على مصر ودخولها ضم الن الجبهة الإسلامية المتحدة، ووضع الصليبيين بين فكي الكماشة.
وقد جاءت الفرصة لنور الدين بالسيطرة على مصر عندما استعان أحد المتنافسين على الوزارة واسمه شاور بنور الدين على غريمه ضرغام سنة 559هـ، وعرض على نور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر ويكون قائده الذي يرسله مقيماً بمصر، ويتصرف بأمر نور الدين. أرسل نورُ الدين أسدَ الدين شيركوه الذي هزم ضرغام وقتله، ولكن شاور غدر بشيركوه واستعان بالفرنج لإخراجه، فجاؤوا وحاصروا شيركوه ورفاقه في بلبيس ثلاثة أشهر حتى جاءتهم أخبار انتصارات نور الدين وملكه (حارم) فعرضوا الصلح والعودة إلى الشام فوافق ولم يكن يعلم ما فعله نور الدين بالشام(71).
واشتد التنافس بين نور الدين وبين الصليبيين على مصر، وخصوصاً أن الدولة الفاطمية كانت في ضعف شديد وفي طور الاحتضار. فأرسل نور الدين أسدَ الدين شيركوه إلى مصر في ألفي فارس في حملة ثانية في ربيع الآخر 562هـ، واستطاع هزيمة الفرنج وجيش مصر بالصعيد، وملك الإسكندرية بمساعدة أهلها وذهب للصعيد فملكه، غير أنه اضطر للعودة إلى دمشق في ذي القعدة بعد أن اشترط على الفرنج ألا يأخذوا ولو قرية واحدة من مصر فوافقوا(72).
وتمت السيطرة لنور الدين على مصر في الحملة الثالثة التي قادها أيضاً أسد الدين شيركوه في ربيع الأول 564هـ، ففي ذلك الوقت كان الفرنج بسبب تحالف (شاور) معهم قد تمكنوا من البلاد المصرية وأصبح لهم نفوذ كبير، وتسلموا أبواب القاهرة وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم «وحكموا على المسلمين حكماً جائراً وركبوهم بالأذى العظيم» وطمع الفرنج بملك مصر فجاءت حملة بقيادة ملك بيت المقدس احتلت بلبيس عنوة فقتلت وأسرت ثم حاصرت القاهرة، وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيثه وأرسل في الكتب شعور النساء وقال هذه شعور (جمع شَعْر) نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج. فأرسل نور الدين حملته الثالثة فلما قارب أسد الدين مصر خرج الفرنج خائبين، وانتهت الحملة بسيطرة أسد الدين على مصر وقتل الوزير شاور، وتولى أسد الدين الوزارة مكانه في يناير 1169م في 17 ربيع الآخر 564هـ، غير أن أسد الدين توفي بعد شهرين في 22 جمادى الآخرة فولي صلاح الدين يوسف الأيوبي الوزارة مكانه(73).
وبأمر من نور الدين أسقط صلاح الدين الخلافة الفاطمية، وتمت الخطبة للخليفة العباسي المستضيء في ثاني جمعة من محرم 567 هـ-10 سبتمبر 1171م «فلم ينتطح في ذلك عنزان»، ومات الخليفة الفاطمي العاضد في 10 محرم دون أن يعلم بذلك(74). وهكذا، ضمت مصر اسمياً للخلافة العباسية وأصبحت تحت القيادة الفعلية لنور الدين.
وفي 566هـ -1170م ضم نور الدين الموصل والمناطق التي تتبعها إلى حكمه(75)، كما ضم نور الدين اليمن إلى حكمه سنة 569هـ-1173 عندما أذن لصلاح الدين بفتحها فأرسل إليها أخاه توران شاه بن أيوب حيث تمت له السيطرة عليها(76)، وبذلك امتدت الجبهة الإسلامية المتحدة من العراق إلى الشام فمصر واليمن مما أنذر بقرب القضاء على الصليبيين.
ثانياً: تحطيم القوى الصليبية:
خلال فترة حكمه التي امتدت من 1146-1174م لم تتوقف المعارك وحروب الجهاد بين نور الدين والصليبيين، وفي الوقت الذي كان يدعم فيه حكمه ويوحد جهود المسلمين كان يقوم بالاستيلاء التدريجي على الممالك الصليبية ويضعف قوتها يوماً بعد يوم وهو يعد للمعركة الفاصلة معهم، وخلال تلك الفترة استطاع نور الدين في جهاده الإسلامي استرجاع وتحرير حوالي 50 مدينة وقلعة مما كان تحت سيطرة الصليبيين.
فمنذ بداية حكمه أحكم السيطرة على منطقة الرها وصفَّى الأملاك التي كانت تتبعها (تل باشر، سميساط، قلعة الروم، دلوك، الراوندان، قورس، مرعش، إعزاز، عينتاب، البيرة...) وذلك خلال الفترة بين 1146 - 1151م.
كما استعاد وحرر جميع الأراضي التي كانت تتبع إمارة أنطاكية شرقي نهر العاصي (1147- 1149م) وقتل في أحد معاركها (أنب 29/يوليو/1149) أمير أنطاكية ريموند، وزعيم الباطنية المتعامل معهم ضد المسلمين علي بن وفا. وقام بدور أساسي في تحطيم الحملة الصليبية الثانية (1147-1148) التي شارك فيها ملك فرنسا لويس السابع وإمبراطور ألمانيا كونراد الثالث والتي تعتبر نقطة تحول خطيرة في تاريخ الحروب الصليبية حيث كسرت هيبة الصليبيين ورفعت الروح المعنوية لدى المسلمين(77).
واستمرت الحروب سجالاً، ووقعت العديد من المعارك الهامة، أدت إلى إضعاف النفوذ الصليبي وضم مناطق جديدة لنور الدين على حساب الصليبيين.. حتى أحكم نور الدين إحاطة مملكة بيت المقدس الصليبية. ولا يتسع المجال لذكر المعارك والوقائع كلها ولكنا نكتفي بالإشارة إلى إحداها وهي التي وقعت عند تل حارم في رمضان 559هـ- 11 أغسطس 1164م.
ففي سنة 558هـ كان نور الدين قد انهزم من الفرنج تحت حصن الأكراد، وهي المعركة التي عرفت بـ «البقيعة»، حيث كبسهم الفرنج فجأة وأكثروا فيهم القتل والأسر، ونجا نور الدين في اللحظة الحاسمة وهرب، ونزل قرب حمص وهناك أقسم «والله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام» ثم أرسل إلى حلب ودمشق وأحضر الأموال والثياب والخيل والسلاح فأعطى الناس عوض ما أخذ منهم جميعه وعاد العسكر «كأن لم تصبه هزيمة»(78).
ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خروجه للجهاد وإنفاقه عليه قال له بعضهم «إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح، فغضب من ذلك وقال «والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنّما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ وأصرفها على من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال، كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم»؟!(79)
وعرض الفرنج الصلح، لكن نور الدين رفض.واجتمع جيشا المسلمين والفرنج بعد أن حشدا حشوداً ضخمة عند حارم. وقبيل القتال انفرد نور الدين بنفسه تحت تل حارم وسجد لله ومرَّغ وجهه وتضرع «يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك»... «إيش فضول محمود في الوسط»!!.. وقال «اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً. من محمود الكلب حتى يُنصر»؟!! يحقر نفسه ويتذلل إلى الله سبحانه(80).
والتحم الفريقان في 11 أغسطس 1164، وانكشفت المعركة الكبرى عن كارثة هائلة حلت بالصليبيين إذ قتل منهم عشرة آلاف وأسر عشرة آلاف أو أكثر، وكان من بين الأسرى أمير أنطاكية وأمير طرابلس وحاكم قيليقية البيزنطي وأسر جميع الأمراء عدا أمير الأرمن. وفي اليوم التالي استولى نور الدين على حارم...، وكان ذلك فتحاً كبيراً(81).
وفي عام 1173م-569هـ كان نور الدين قد أعد عدته للهجوم النهائي على بيت المقدس وتحرير أرض الإسراء من النفوذ الصليبي حتى إنه قد جهز منبراً جديداً رائعاً للمسجد الأقصى يوضع فيه بعد الانتصار على الصليبيين بإذن الله، وراسل في ذلك عامله على مصر صلاح الدين الذي تلكأ بسبب الظروف الخاصة التي تواجهه في مصر والتي يرى أنها تحتاج إلى صبر وأناة وإعداد. ولم يرض نور الدين بذلك التأخر فقرر الذهاب إلى مصر وترتيب أمورها بنفسه إلا أن المنيَّة عاجلته، فتوفي رحمه الله في 15/مايو/1174م الموافق 11 من شوال 570هـ(82).
وهكذا انطوت صفحة رائعة من صفحات الجهاد أيام الحروب الصليبية إلا أن الصفحة التي تلتها كانت مشرقة ومؤثرة في مسار التاريخ تلك هي صفحة صلاح الدين الأيوبي.
جهاد صلاح الدين الأيوبي 569-589هـ
رفع الراية -من بعد نور الدين محمود- صلاح الدين الأيوبي وقد سار على خطى سلفه نور الدين، فقد ترسم المنهج الإسلامي والحل الإسلامي في تحطيم القوى الصليبية وتحرير الأرض المقدسة.
جاء صلاح الدين وقد وجد أن نور الدين قد هيأ الظروف المناسبة لاسترداد الأرض المقدسة فاستغلها أحسن استغلال وقطف ثمارها اليانعة بعد سنوات من حكمه.
ولد صلاح الدين يوسف بن أيوب 532هـ - 1137م بقلعة تكريت وكان أبوه والياً عليها، دخل هو وأبوه وعمه في خدمة نور الدين محمود، وشارك عمه أسد الدين شيركوه في حملاته الثلاث على مصر، وولي الوزارة في مصر وعمره 32 سنة.
يوصف صلاح الدين بأنه كان حسن العقيدة، كثير الذكر، شديد المواظبة على صلاة الجماعة، ويواظب على السنة والنوافل، ويقوم الليل. وكان يحب سماع القرآن وينتقي إمامه، وكان رقيق القلب خاشع الدمعة إذا سمع القرآن دمعت عيناه، شديد الرغبة في سماع الحديث، كثير التعظيم لشعائر الله. وكان حسن الظن بالله .كثير الاعتماد عليه عظيم الإنابة إليه.
وكان صلاح الدين عادلاً رؤوفاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي، وكان كريماً. وكان حسن العشرة، لطيف الأخلاق، طاهر المجلس لا يذكر أحد بين يديه إلابخير، طاهر السمع...، طاهر اللسان، طاهر القلم فما كتب إيذاء لمسلم قط.
وكان شجاعاً شديد البأس والمواظبة على الجهاد عالي الهمة، قال يوماً وهو قرب عكا «في نفسي أنه متى ما يسر الله تعالى فتح بقية السواحل قسمت البلاد، وأوصيت وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت».
ومات صلاح الدين ولم يكن لديه من الأموال ما تجب فيه الزكاة، واستنفدت صدقة النفل جميع ما ملكه، ولم يخلف في خزائنه من الفضة والذهب إلا 47 درهماً ناصرية، وديناراً واحداً ذهباً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا مزرعة... عزم على الحج في السنة التي توفي فيها ولكنه تعوق بسبب ضيق ذات اليد وضيق الوقت(83).
صراع على خلافة نور الدين:
لما مات نور الدين بويع لابنه من بعده بالملك وهو الصالح إسماعيل، وكان صغيراً في الحادية عشرة من عمره، وجُعل أتابكه شمس الدين بن المقدم... «فاختلف الأمراء وحادت الآراء وظهرت الشرور وكثرت الخمور.... وانتشرت الفواحش... وطمعت الأعداء من كل جانب في المسلمين»(84) وعندما هاجم الفرنج المسلمين واجههم ابن المقدم عند بانياس لكنه ضعف عن مقاومتهم، فبذل لهم أموالاً جزيلة وهادنهم، كما خرجت أرض الجزيرة من ملك الصالح إسماعيل، كما استبعد الأمراء المتحكمون في الصالح بني الداية وسجنوهم وهم من أقرب الأمراء المقربين إلى نور الدين (شمس الدين بن الداية ومجد الدين بن الداية رضيع نور الدين...) وكان كل ما سبق سبباً في غضب صلاح الدين على الأمراء المتحكمين في الملك الصالح، بل واعتبر نفسه أحق الناس بالإشراف على تربية وخدمة الملك الصالح(85).
وهكذا فتحت أنظمة الحكم الوراثي، وانعدام المؤسسات «الدستورية» الشورية، والتنازع على السلطة وحب الرئاسة...، فتحت المجال أمام مرحلة جديدة من الصراع والخلاف بين المسلمين أخرت المعركة الفاصلة التي كان يعد لها نور الدين. واضطرت صلاح الدين أن يخوض معركة الوحدة من جديد ولم يتم له ذلك إلا بعد أكثر من 12 سنة.
ففي ربيع الأول 570 هـ -نوفمبر 1174م ضم صلاح الدين دمشق سلماً، ثم ضم حمص دون قلعتها في 10 ديسمبر 1174، ثم ملك حماة وقلعتها 28 ديسمبر 1174، ثم عاد فسيطر على قلعة حمص، ثم استولى على بعلبك في رمضان من نفس العام فصار أكثر الشام بيده، وكان صلاح الدين طوال ذلك الوقت محافظاً على ولائه الظاهر للصالح بن نور الدين والدعوة له في المساجد وسك العملة باسمه، ولكن بعد أن وقعت معركة بين صلاح الدين من جهة وبين جند حلب والموصل الزنكيين من جهة أخرى وانتصر فيها صلاح الدين، قطع حينئذ صلاح الدين الخطبة وسك العملة للملك الصالح، وتسمَّى هو بملك مصر والشام وأقره الخليفة على ذلك. ثم استولى صلاح الدين في نفس العام (570هـ) على قلعة بعرين(86).
وفي السنة التالية 570هـ استولى صلاح الدين على بزاعة ومنبج وإعزاز(87)، وفي 577هـ توفي الملك الصالح إسماعيل في حلب ولم يكمل العشرين عاماً(88)، وفي 578هـ عبر صلاح الدين الفرات وملك منطقة الجزيرة (الرها - حران - الرقة...) وملك سنجار(89)، وفي 579هـ ملك صلاح الدين آمد وتل خالد وعينتاب(90)، وملك حلب في صفر من نفس العام حيث نزل عنها عماد الدين بن مودود بن زنكي مقابل سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج، وبملك صلاح الدين حلب -بعد حصارها مرات عديدة- «استقر ملك صلاح الدين بملكها وكان مزلزلاً فثبت قدمه بتسلمها...»(91)،كما فتح صلاح الدين قلعة حارم(92). وفي سنة 581هـ ملك صلاح الدين ميافارقين، واستلم شهرزور وولاية القرابلي وجميع ما وراء نهر الزاب(93). وأخيراً دخلت الموصل وما يتبعها في حكم صلاح الدين في 582هـ - 1186م(94).
استمرار الجهاد:
ولم تخل هذه المرحلة 569-582هـ، 1174-1186م من معارك عنيفة(95) مع الصليبيين أسهمت في المحافظة على هيبة المسلمين، والتعرف على إمكانات العدو ونقاط ضعفه، واستدراك جوانب النقص عند المسلمين، وعدم إعطاء العدو فرصة للتقوِّي والتمدد والانتشار، إلا أن صلاح الدين لم يدخل في معركة فاصلة مع الصليبيين.
ونمر هنا على أهم الوقائع مع الصليبيين في تلك الفترة، ففي سنة 570هـ هزم المسلمون الأسطول الصليبي القادم من صقلية والذي هاجم الإسكندرية بخمسين ألف رجل هزيمة كبيرة(96). وفي 573هـ هاجم صلاح الدين الفرنج من جهة مصر حتى وصل عسقلان وفتحها وأسر وقتل وأحرق، ثم انساح جند صلاح الدين لما رأوا أن الفرنج لم يظهر لهم عسكر وسار صلاح الدين للرملة وهناك فاجأهم الفرنج وهزموهم ورجع صلاح الدين في نفر يسير ومشقّة شديدة(97)، وكان درساً قاسياً له. وفي نفس العام حاصر الفرنج حماة وحارم وفشلوا، وهزم الفرنج في العام التالي عند حماه(98). وفي 575هـ أغار صلاح الدين على مناطق سيطرة الفرنج وخرب الحصن الذي أقاموه بمخاضة الأحزان قرب بانياس، ووقعت معركة شديدة انتصر فيها المسلمون ونجا ملك الفرنج وأسر عدد من قادتهم: ابن بيرزان صاحب الرملة ونابلس وهو أعظم الفرنج محلاً عند الملك، وأ