: حكم الإسلام في الغناء .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون :
أخ كريم رجاني أن أعالج في هذا الدرس موضوع الغناء ، لذلك اخترت فصلاً من إحياء علوم الدين ، بل اخترت فصلاً من تلخيص إحياء علوم الدين ، التلخيص اسمه تهذيب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين ، هذا الفصل عنوانه السمع ، وسأنقل لكم مختارات من هذا الفصل ، ولكن قبل أن نبدأ في الحديث عن موضوع السماع ، كما ورد في كتاب الإحياء للإمام الغزالي ، لا بد من مقدمة ، أيها الإخوة الأكارم كما قال عليه الصلاة والسلام :
"ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا : لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَِئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ ."*
الإنسان أحياناً يمضي وقتاً طويلاً ويكثر حضور مجالس العلم ، وينوع مجالس العلم ، ويطالع ويطّلع ويستمع ويقرأ ، إن لم يستقم على أمر الله أي شغل في الدنيا ، إن حصلته حصلت كل شيء ، وإن لم تحصله لم تحصل شيئاً ، هذا كلام دقيق ، أي في الدين نجد السعادة ، نجد الطمأنينة في الدين هناك شعور بالتقدم دائماً ، شعور بالتفوق ، شعور بالفلاح وبعض النجاح ، في الدين شعور لا يوصف ، وهو شعور القرب من الله عز وجل ، في الدين شعور أن المستقبل إلى جانبك ، وأن خطك البياني في صعود مستمر ، كل ما في الدين من ثغرات ، كل ما في الدين من مكتسبات ، كل ما في الدين من نجاحات لا يمكن أن تنالها إلا إذا استقمت على أمر الله ، كلام دقيق وخطير أي لنوفر وقتنا ، لنوفر جهدنا ما دام هناك معاصي ، مخالفات ، شبهات فالطريق إلى الله ليست سالكة هذا الكلام إذا أدركته ، وفرت وقتك ، هذا يذكرني بقصة مضحكة ، يروى أن السلطان العثماني قدم إلى الشام ، ووالي دمشق لم يطلق المدافع من أجله ، فأمر بإعدامه ، كما يقال من حلاوة الروح ، سأله قبل أن يقتل ، وهي رواية غير دقيقة ، لماذا لم تطلق هذه المدافع ، قال : هناك سبعة عشر سبباً ، قال : ما هي ؟ قال ليس هناك بارود ، قال : لا تكمل انتهى الأمر ، سبب وجيه ، يعني إذا لا يوجد استقامة لا تكمل ، الطرق كلها مغلقة ، الطرق كلها مسدودة ، الطمأنينة ، السعادة ، التوفيق أن يكون كلامك سديداً ، أن يكون عملك راشداً ، أن تشعر بحلاوة الاتصال ، أن تشعر بطعم الصيام أن تذوق حلاوة الحج ، أي كل ما في الدين من ثمار ، كل ما في الدين من مكتسبات ، من نجاحات لا يمكن أن تنالها إلا إذا استقمت على أمر الله ، حاسب نفسك حساباً عسيراً ليكون حسابك يوم القيامة يسيراً ، اسأل نفسك لماذا الحجاب بينك وبين الله ، لا بد من مخالفات ، لا بد من ظلم للآخرين ، لا بد من تقصير في أداء الحقوق .
فيا أيها الإخوة الأكارم :
النبي عليه الصلاة والسلام قال في حجة الوداع :
" إن الشيطان يئس أن يعبد في أرضكم "
أي أن تقوم الوثنية مرة ثانية هذا مستحيل ، ولت الوثنية إلى غير رجعة، ولكن رضي فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم ، مادام هناك مخالفات في الجوارح ، ما دام هناك شبهات في كسب المال ، ما دام هناك شبهات في إنفاق المال ، ما دام هناك إطلاق البصر فيما حرم الله ، ما دام هناك سماع مالا يرضي الله ، ما دامت هذه الجوارح لم تستقم بعد على أمر الله فالطريق إلى الله ليست سالكة ، هذا الكلام أسوقه لكم ليكون الوقت مستثمراً استثماراً كبيراً ، وإلا مهما ذهبت و مهما أتيت و مهما عدت ومهما استمعت ، اقرأ ما شئت واستمع إلى من شئت ، مادام هناك مخالفات فهناك حجب بينك وبين الله لا تذوق طعم الإيمان إلا إذا استقمت مع الله ، ولا تذوق حلاوة القرب إلا إذا استقمت على أمر الله ، لا يلقى النور في قلبك فترى فيه الحق حقاً والباطل باطلاً إلا إذا استقمت على أمر الله ، سُقْتُ هذا الكلام كمقدمة ليكون السير إلى الله واضحاً ، أي يجب أن تصل إلى درجة أن تكون لك حساسية كبيرة في طريق الإيمان ، هذه مخالفة حجبتك عن صلاة الظهر ، هذه النظرة حجبتك عن الاتصال بالله ، هذا المبلغ المشبوه قطعك عن الله ، فلذلك من ذاق حلاوة القرب ، ومن ذاق طعم الإيمان ، ومن ذاق حلاوة الإيمان لحرصه الشديد على دوام هذه الصلة يبالغ في استقامته على أمر الله ، وأقول لكم كلمة : ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه و دنياه ، أي صفقة فيها شبهة ، أقول لك اركلها بقدمك ، صداقة فيها شبهة اقطعها وأنت الرابح تجارة فيها شبهة ابتعد عنها وأنت الكاسب ، فلذلك نحن سقنا هذا الموضوع موضوع الغناء لأنه ابتلي به معظم المسلمين ، ففي أكثر بيوت المسلمين الأغاني تصدح ، أي كيف يجتمع قرآن مع الغناء ؟ كيف يجتمع اتصال بالله مع سماع الغناء ؟ أنا لا أقول شيئاً من عندي ، أنقل لكم ما ورد في كتاب السماع من كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي الحامد الغزالي ، في مقدمة هذا الفصل يقول : إنّ الغناء يلهي القلب عن التفكير في عظمة الله ، أي هذا الموضوع الآن أنك أنت في الدنيا عليك مهمة خطيرة فأي شيء ألهاك عن مهمتك الخطيرة فهو حكماً حراماً بمعنى أنّ الإنسان إذا عمل بالخسيس ونسي النفيس انطبق عليه قول الله عز وجل :
( سورة التكاثر )
عمل بالخسيس ونسي النفيس ، أنت في الدنيا مخلوق لمهمة عظيمة وهي أن تعرف الله ، وأن تعرف منهجه ، وأن تستقيم على أمره ، وأن تتقرب إليه لتنال سعادة الدنيا والآخرة ، إذاً أي شيء ألهاك عن هذا الهدف النبيل وعن هذا القصد الجليل فهو عقبة كئود في طريق سعادتك، فإذا أردنا أن نعلل وأن نبين لماذا الغناء نهانا النبي عنه ؟ لأنه لهو ، تصور إنسان غاص في أعماق البحار وتجشم الأخطار ورأى في قاع البحار لآلئ وأصداف فترك اللآلئ وجاء بالأصداف ، مئة صدفة لا تساوي لؤلؤة واحدة ، قلت لكم سابقاً : من طبيعة الإنسان أن يحب ، هذا طبع ثابت في الإنسان ، المشكلة ليست في أن تحب أو لا تحب ، لا بد من أن تحب ، ولكن المشكلة في من تحب ، قلت لكم سابقاً : ليست المشكلة في أن تؤمن أو لا تؤمن ، لا هذا الموضوع غير مقبول ، المشكلة متى تؤمن لأنّ فرعون آمن عند الموت ، قال تعالى :
( سورة ق )
إذا كنت من بني البشر فلا بد من أن تحب ، لأنّ الحب غذاء القلب ، وإذا كنت من بني البشر فلا بد من أن تتعلم ، لأن العلم غذاء العقل ، وإذا كنت من بني البشر فلا بد من أن تأكل ، لأنّ الأكل غذاء الجسم ، أنت بحاجة إلى أغذية ثلاثة : إلى طعام وشراب تغذي به جسمك ، وإلى علمٍ تغذي به عقلك ، وإلى حب تغذي به قلبك ، ويجب أن تتوازن ، لأنّ شريعة الله عز وجل شريعة متوازنة ، يجب أن لا يقع الخلل ، أن لا تحب على حساب عقلك ، وأن لا تعقل على حساب قلبك ، وأن لا تهتم بجسمك على حساب دينك ، لابد من التوازن ، إذاً أول شيء ، مثلاً من باب التوضيح ، لو أنّ طالباً عنده امتحان خطير بعد عشر ساعات ، أي الساعة الثامنة في صبيحة اليوم التالي عنده امتحان في مادة خطيرة في عام تخرجه ، واشتهى أن يأكل وجبة من الطعام التي لا توجد إلا في مركز المدينة ، فارتدى ثيابه وركب السيارة العامة ، وانتظر إلى أن جاءت السيارة العامة ، وزاحم الناس بمنكبيه ، وبقيت هذه السيارة تمشي ساعة أو أقل ، إلى أن وصل إلى مركز المدينة ، وانتقل إلى طرف مركزها ، ووقف في طابور طويل ليشتري هذه الحلوى أو هذا الطعام الذي اشتهاه ، ثم عاد أدراجه إلى البيت أي أنفق ثلاث ساعات ، ماذا فعل ؟ لم يفعل شيئاً ، أكل طعاماً ، لكن نقول له : هذا الوقت الخطير أنت استهلكته في سبب تافه ، فأول شيء في الغناء أنت مخلوق لهدف عظيم ، فإذا ألِفت سماع اللهو فهو اسمه لهو لأنه يلهي عما خُلِقت له ، وحينما دُعي النبي عليه الصلاة والسلام إلى اللهو قال : وهو طفل صغير أنا لم أُخلقْ لهذا ، هذا سبب ، السبب الثاني كما يذكر صاحب الإحياء أنّ الغناء يغريك بالشهوات وبالمعاصي ، لأنّ الغناء كما يقال رُقيَةُ الزنى ما الغناء ؟ وصف لمحاسن المرأة في معظمه ، إذاً كأن الغناء كما يقول بعض العلماء رقية الزنى ، إذاً من جهة يعطل عليك مهمتك الخطيرة ، ومن جهة يدعوك إلى معصية الله ، هذه الأسباب الموجبة لتحريم الغناء ، لكن مثلاً ما ينشده المنشدون وهم في طريقهم إلى الحج قيل :
بشرها دليلها وقال : غداً ترين الطلح والجبال
أي إذا كان هناك حادي يحدو الإبل وله بعض الأناشيد التي يذكر فيها الكعبة والمطاف والمسعى وعرفات ومنى وقبر النبي ، فهذا الشعر الذي ينشده الحادين ليثيروا مشاعر الحجاج هذا ليس عليه شيء ، أنت لو حضرت عقد قران وأنشد المنشدون بمدح سيد الأنام لا شيء عليك ، لو ابتهل المبتهلون بأصوات عذبة شجية حركوا مشاعرك لا شيء عليك ، ليس هذا هو الغناء ، هذا شعر كما قال الفقهاء حسنه حسن وقبيحه قبيح، فهذا من الشعر الحسن لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
" عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً ."*
وأحياناً تفعل بك أبيات في مدح رسول الله ما لا تفعل الخطب الطويلة، وأحياناً تفعل بك أبيات في الابتهال لله عز وجل ما لا تفعل بك الكتب العريضة ، فهذا ليس من الغناء أن تستمع إلى مدح النبي عليه الصلاة والسلام وأنت في عقد قران ، وأنت في مولد لذكرى سيد الأنام ، فهذا ليس من الغناء الذي حرّمه الشرع إطلاقاً ، معانٍ سامية ، مشاعر القرب مشاعر الحب ، مشاعر الوجد ، مشاعر التوبة ، مشاعر الندم ، مشاعر القرب من الله عز وجل ، هذا ليس معنياً في درسنا إطلاقاً ، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام كان له حادٍ أي يا حادي الركبان متى وصلت البان ، أرح هناك العيس ، كان له حادٍ اسمه أنجشة يحدو الإبل فقال عليه الصلاة والسلام :
"عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَجُلٌ يَسُوقُ بِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ فَاشْتَدَّ فِي السِّيَاقَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالْقَوَارِيرِ ."*
وفي حديث سلمة بن الأكوع قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا ، وكان عامر رجلاً شاعراً فنزل يحدو القوم ويقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فألْقِيَنْ سكِينـــةً علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
فقال عليه الصلاة والسلام : من هذا السائق ؟ من هذا الحادي ؟ فقالوا: عامر بن الأكوع ، فقال : يرحمه الله ، أي أحياناً هناك منشد يشجي مشاعرك ، مرة ثانية ليس هذا هو الغناء المحرم ، هذا يسمو بك ، هذا يحرك مشاعرك نحو الله عز وجل ، هذا يحرك مشاعرك نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا يحملك على أن تتوب ، وكما قيل :
إلى متى أنت باللذات مشـغول وأنت عن كــل ما قدمت مسؤول
تعصي الإله وأنت تظهر حبـه ذاك لعمــري في المقام بديـــع
لو كان حبك صادقاً لأطعــته إنّ المحـــب لمن يحب مطيـع
أيا غافلاً تبدي الإساءة والجهلا متى تشكر المولى على كل ما أولى
عليك أياديه الكرام وأنت لا تراها كأن العيـــــن حولاء أو عميا
لأنت كمزكوم حوى المسك جيبه ولكنه المحـــروم ما شمه أصلاً
أيا عبــــدنا ما قرأت كتابنا أما تستحـي منا ويكفيك ما جرى
أما تختشي من عُتْبِنا يوم جمعنا أما آن أن تقلـع عن الذنب راجعاً
وتنظر ما به جاء وعدنا
إلى آخر الأبيات ، فأبيات تثير لواعج الشوق إلى الله عز وجل ، أو مشاعر التوبة أو مشاعر الاستغفار ، أو مشاعر الندم ، هذا ليس من الغناء الذي حرّمه الشرع ، هذا شعر يسمو بالإنسان ، أي ما يلقى في الموالد من مدائح ، من ابتهالات ، من وصف للنبي عليه الصلاة والسلام هذا لا شيء عليه ، وقد نقل عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: أما استماع الحدائي ونسيج الأعرابي فلا بأس به ، النبي عليه الصلاة والسلام حينما أهديت امرأة إلى زوجها في عهد النبي عليه الصلاة والسلام قال : قولوا :
أتيناكم أتينــاكم فحيونا نحييـكم
ولو الحبة السمرة لما جئنا لواديكم
أي هذا يقال في الأفراح ، هناك أشعار تنمي في الإنسان الزهد ، قيل:
ياغادياً في غفلة ورائـح إلى متــى تستحسن القبائح
وكم إلى كم لا تخاف موقفا يستنطــق الله به الجوارح
واعجباً منك وأنت مبصر كيف تجنبت الطريق الواضح
شيء يدعو للتوبة ، يدعو للندم ، يروى أنّ أحدهم سأل الإمام أحمد بن حنبل عن هذه القصائد الرقيقة التي فيها ذكر الجنة والنار ، قال : يا إمام أي شيء تقول فيها ، هذه القصائد الرقيقة التي فيها ذكر الجنة والنار ؟ أي شيء تقول فيها ، فقال : مثل أي شيء ، فقال السائل :
إذا ما قـال لـي ربـي أما استحييت تعصـيني
وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيـــان تأتيني
فقال ابن حنبل : أعد أعد عليّ ، فأعدت عليه ، فقام ودخل بيته وردّ الباب فسمعت نحيبه من داخل البيت وهو يقول :
إذا ما قـال لـي ربـي أما استحييت تعصـيني
وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيـــان تأتيني
فهذه الأشعار في وصف سيد الأنام ، في الابتهال إلى الله ، في وصف معاني القرب ، في وصف لواعج المحب ، هذه الأشعار ليست من موضوعنا في شيء ، لكننا نسوق لكم هذه الحقيقة ، من الثابت أن طبع الناس طبع موحد ، أي كل بني البشر يطربون بالشيء الجميل ، لو أنّ شاباً قال لك : أنا مهما نظرت إلى النساء الحسناوات لا أتأثر بجمالهن أبداً بماذا تجيبه ؟ نقول هذا كلام غير صحيح ، لأن طبعك طبع أي إنسان ، وطبع الإنسان يميل إلى المرأة فهذا كلام مرفوض وإذا كان فعلاً صادق أي أنه مريض ويحتاج إلى معالجة ، إذا قال : أنا لا أتأثر ، معناها هناك كذب ، وإذا كان صادقاً معناها يحتاج إلى معالجة ، فعندما قال ربنا عز وجل :
( سورة النور )
أن يقول قائل : أنا لا أتأثر أبداً ، نقول هذا كلام فيه كذب ، وإذا كان صحيحاً فأنت من طبع آخر ، لست من بني البشر ، فلذلك إذا قال قائل : أنا أستمع إلى كل المغنيات ولا أتأثر أبداً نقول لك : هذا كلام فيه كذب ، ولو كنت صادقاً فيما تقول فأنت بحاجة إلى معالجة لأن طبع البشر واحد
طبعاً يتفاوتون بفواصل قليلة جداً ، أما طبيعة الإنسان لو أنه سمع أو شاهد امرأة حسناء لتحول من جهة إلى جهة ، فكيف يقول القائل : نحن نستمع ولا نتأثر ، هذا الكلام جوابه إما أنكم تكذبون وإما أنكم مرضى ، فالذي نهى الله عنه ما نهى عنه إلا لأنه ضار ، وما نهى عنه إلا لأن طبع البشر كلهم واحد في هذا ، الآن دخلنا في الموضوع ، هذا الذي قلناه قبل قليل هو مباح ولا شيء على صاحبه ، لكن ما هي الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة التي تحرم الغناء ، قال من كتاب الله قوله تعالى :
( سورة لقمان )
هذه الآية في لقمان رقم ستة ، قال ابن مسعود : هو الغناء ، وأعلى تفسير عند أعلام المفسرين هو تفسير الصحابة ، وابن مسعود من أصحاب رسول الله ، وعن سعيد بن يسار قال : سألت عكرمة عن لهو الحديث فقال : هو الغناء ، هذا صحابي آخر ، وكذلك قال الحسن وسعيد ابن جبير وقتادة أصحاب النبي عليهم رضوان الله قالوا : إنّ لهو الحديث هو الغناء ، الدليل الثاني :
( سورة النجم )
معنى سامدون عن ابن عباس وأنتم سامدون أي وأنتم تغنون أي الناس سكرى بالغناء ، سائقو السيارات ، سائقو المركبات ، في المكاتب ، في البيوت ، في المتاجر ، في المزارع ، وأنتم سامدون ، يريدون الحق وهم سامدون ، معنى سامدون يغنون عن عكرمة وقال مجاهد : هو الغناء سمد فلان إذا غنى هذا الدليل الثاني ، وأما الدليل الثالث فقوله عز وجل:
( سورة الإسراء)
عن سفيان الثوري عن مجاهد واستفزز من استطعت منهم بصوتك قال: هو الغناء والمُدَامُ ، هذه ثلاثة أدلة من كتاب الله ، ليس من فهمنا له بل من فهم أصحاب رسول الله ، أما السنة :
" عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ فَوَجَدَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : أَتَبْكِي أَوَلَمْ تَكُنْ نَهَيْتَ عَنِ الْبُكَاءِ قَالَ : لاَ وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ ."
هذا دليل من السنة ، الآن أدلة من أصحاب رسول الله ، قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الذقن ، وقال ابن مسعود : إذا ركب الرجل الدابة ولم يسمِ لبسه الشيطان ، وقال : تغنى ، فإن لم يحسن قال : تمنى ، تجد المسافر إما أنه يغني أو يستمع إلى الغناء أو يتمنى ، يعيش في أحلام كلها دنيوية ، وسأل رجل القاسم بن محمد عن الغناء فقال : أنهاك عنه وأكرهه لك ، قال : أحرام هو ؟ قال: انظر يا بن أخي إذا ميز الله الحق من الباطل ففي أيهما يكون الغناء ، ذات مرة أعجبني من رجل ، هناك دليل بسيط جداً ربما تتكلم ساعات طويلة عن مضار التدخين والسرطانات وضيق الشرايين والجلطة في القلب والأوعية وأدلة وصور ، قال له : بالله عليك إذا أمسكت دخينة لتشربها هل تقل بسم الله الرحمن الرحيم ، هل تسمِ ؟ فإذا أنهيتها هل تقول الحمد لله رب العالمين ، ائت لي بإنسان يسمي إذا بدأ ويحمد الله إذا انتهى ، إذاً هذه من الخبائث ، هذا دليل سريع ، سيدنا عمر بن عبد العزيز كتب إلى مؤدب ولده : ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدأها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن ، وعن الفضيل بن عياض : الغناء ركية الزنى والضحاك يقول : الغناء مفخدة للقلب مفختة للرب ، ويزيد بن الوليد يقول : يا بني أمية إياكم والغناء فإنه يزيد الشهوة ويهدم المروءة ، سئل أبو علي عن سماع الملاهي وعن رجل يقول هي لي حلال لأني قد وصلت إلى درجة لا تؤثر فيّ اختلاف الأحوال فقال : نعم لقد وصل إلى صقر ، طبعاً هناك تفسيرات كثيرة ولكن أردت أنا أن أميز بين نوعين من الشعر في مدح رسول الله وليس معه معاجم ، ولا آلات له ، هذا لا شيء عليه ، أو في الابتهال إلى الله أو في التوسل ، وشعر آخر فيه وصف المحاسن ، وفيه إثارة للشهوات ، هذا الغناء الذي حرمه الشرع ، طبعاً كما قلت في مطلع الدرس أنك لا تستطيع أن تتصل بالله إذا كنت مقيماً على معصية، لا تستطيع أن تتصل بالله إلا إذا طهرت جوارحك من كل مخالفة فكل ثمار الدين ، كل عطاءات الدين ، كل السعادة التي ترجوها من الدين كل ما عند الله عز وجل لا تناله إلا بطاعتك ، لذلك قالوا الاستقامة عين الكرامة ، هذا الموضوع أحد الإخوة الأكارم رجاني أن أعالجه في هذا الدرس ، عالجته بطريقة مختصرة فيه جانب مشرق ، لا شيء عليه وفيه جانب آخر فيه كل شيء ، بل فيه قطيعة مع الله عز وجل وأؤكد لكم إذ قال بعضهم أن القرآن و الغناء لا يجتمعان في قلب إنسان ، إما أن يكون قلبه مشبعاً بالغناء ، و إما أن يكون قلبه مشبعاً بالقرآن ، ويحك ألغير كتاب الله تتغنى ، وأقول لكم مرة أخيرة إن ذواقي الغناء في العالم لو اجتمعوا والله الذي لا إله إلا هو ، لا يرقون في طربهم وفي استمتاعهم في أغانيهم إلى درجة المؤمن حينما يطرب في كتاب الله ، أي أنت إذا أعرضت عن الغناء لن تبقى محروماً من نعمة النغم ، يأتيك طرب بكتاب الله لا يوصف هذا مصداق قول النبي عليه الصلاة والسلام :
" ماترك عبد شيئاً لله ، إلا عوضه الله خيراً منه في دينه و دنياه "
و أما الحديث عن أعلام المسلمين فاخترت لكم في هذا الدرس الإمام أبو حنيفة النعمان ، إمام الأئمة الفقهاء ، و سنأخذ فقرات من فضائله و من محنه فترون أن هؤلاء الذين تركوا هذا الذخر الكبير من الفقه كيف كان ورعهم ، لا تنسوا أن الإمام أبا حنيفة النعمان رضي الله عنه كان ورعاً إلى درجة لا تصدق ، أنا مرة ذكرت لكم أنه ألزم نفسه أن يدفع ديناراً ذهبياً لكل يمين يحلفها في البيع و الشراء و هو صادق ، كل يمين يحلفها و هو صادق ألزم نفسه أن يدفع ديناراً صدقة ، كان يؤدب نفسه تأديباً كبيراً ، كان واقفاً مرة في ظل بيت مع شخص يتحادثان ، أمسكه من يده و تنحيا عن الظل إلى الشمس فالشخص استغرب ، لماذا فعلت هذا ؟ قال : هذا بيت مرهون عندي وإني أكره أن أنتفع بظله ، كان ورعه إلى هذا المستوى ، فلذلك :
"ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلد "
أجمل ما في حياة هذا الإمام العظيم هو إكرامه لطلبة العلم ، كان أبو حنيفة كما يروي من ألّف عنه طويل الصمت كثير التفكر دقيق النظر في الفقه ، لطيف الاستخراج في العلم والبحث ، لا يطلب على تعليمه ، وإن كان الطالب فقيراً أغناه ، وأجرى عليه وعلى عياله حتى يتعلم ، فإذا تعلم قال له : لقد وصلت إلى الغنى ، فإذا تعلم قال : لقد وصلت إلى الغنى الأكبر وهو معرفة الحلال والحرام ، وكان كثير العقل قليل المجادلة ، أي أنه كان يدعم طلابه الفقراء حتى يتعلموا ، فإذا تعلموا قال: هذا هو الغنى الأكبر ، أن تعرف الحلال والحرام ، أكبر تلميذ من تلاميذه هو الإمام زُفَر والإمام محمد وأبو يوسف ، أكبر تلميذ من تلاميذه هو أبو يوسف ، يقول أبو يوسف : كنت أطلب الحديث وأنا مُقِل المال ، وأنا فقير فجاء لي أبي وأنا عند الإمام فقال لي : يا بني لا تمدّن رجلك معه فإنّ خبزه مشوي وأنت محتاج ، أي اتركه فنحن بحاجة إليك ، فقعدت عن كثير من الطلب ، تركت المجالس واخترت طاعة والدي ، فسأل عني الإمام وتفقدني وقال حين رآني : ما خلّفك عني يا بني قال : طلب المعاش يا سيدي ، فلما رجع الناس وأردت الانصراف دفع إلي صرة فيها مائة درهم وقال : أنفق هذا فإذا تمً إنفاقه أعلمني والزم الحلقة ، فلما مضت مدة دفع إلي مائة أخرى وكلما تنفد كان يعطيني بلا إعلام كأنه كان يخبر بنفادها ، حتى بلغت حاجتي من العلم أحسن الله مكافأته وغفر له ، هذا تلميذه أبو اليوسف صار من أعلام الفقهاء ، لأنه حينما أخذه والده وأبعده عن مجالس العلم وتفقده أبو حنيفة رضي الله عنه وسأل عنه وأمده بمصروفه حتى صار الإمام أبا يوسف ، ويروى أنّ الحسن بن زياد كان فقيراً وكان يلازمه الإمام وكان أبوه يقول له : لنا بنات وليس لنا ابن غيرك فاشتغل بهن يا بني ، فلما بلغ الخبر الإمام أجرى عليه رزقاً ، وقال : الزم الفقه فإني ما رأيت فقيهاً معسراً أبداً ، لأنه عرف الحق ، عرف الحلال والحرام ، عرف ما ينبغي وما لا ينبغي ، ما يجوز وما لا يجوز ، ألطف كلمة هي فإني ما رأيت فقيراً معسراً ، وروى الموفق بسنده إلى مكي بن إبراهيم أحد شيوخ البخاري قال : كنت أتجر فقدمت على أبي حنيفة فقال لي : يا مكي أراك تتّجِر ، التجارة إذا كانت بغير علم دخل فيها فساد كبير ، تفقهوا قبل أن تتّجروا ، لأنكم إذا اتّجرتم من دون تفقه ضللتم وأكلتم الحرام ووقعتم في الربا وأنتم لا تدرون ، قال : التجارة إذا كانت بغير علم دخل فيها فساد كثير ، فلمَ لا تتعلمُ العلم ولمَ لا تكتب ، فلم يزل بي حتى أخذت في العلم وكتابته وتعلمه فرزقني الله منه شيئاً كثيراً ، فلا أزال أدعو لأبي حنيفة في دبر كل صلاة وعندما أذكره لأن الله ببركته فتح لي باب العلم ، ملخص هذه القصص أن العلم هو الغنى الحقيقي ، وأنه كما قال أبو حنيفة : ما رأيت فقيراً معسراً ، لأنه عرف الحق ، ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ، وهو كان يقول : من طلب العلم تكفل الله له برزقه ، أي حينما تقتطع من وقتك الثمين وقتاً لحضور مجالس العلم كي تتفقه ، فإن الله سبحانه وتعالى يبارك لك في بقية وقتك الحقيقة أن الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه ورحمه الله تعالى وقع في مآزق حرجة جداً وهذه المآزق تؤكد فهمه الدقيق وحسه المرهف وسرعة بديهته ، أي النبي عليه الصلاة والسلام كان على المنبر فسأله أحد الأعراب قال : يا رسول الله متى الساعة ؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام كان سريع البديهة فرد عليه بسؤال آخر : وماذا أعددت لها ، من محن أبي حنيفة دخل عليه أحد الخوارج في أيام الخليفة مروان بن محمد ، الخوارج فرقة ضالة احتلت الكوفة بقيادة الضحاك بن قيس الشيباني ، فقد دخل الضحاك ومعه جماعة على الإمام رحمه الله تعالى وطلب منه أن يتوب ، لماذا ؟ لأنّ الخوارج يكفّرون بالصغيرة ، يعني أي إنسان فعل ذنباً صغيراً فهو كافر ، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يعتقد هذا ، فدخل عليه الخوارج على بيته مقتحمين وأمراه أن يتوب وإلا قتلاه ، فقال الإمام : ممّ أتوب ، ماذا فعلت حتى أتوب ؟ وأعاد عليه الضحّاك الأمر بالتوبة ، فقال له الإمام : ممّ أتوب ؟ قل لي ، قال من رضاك بالتحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ، أنت رضيت بالتحكيم ، فقال له الإمام : هل لك أن تناظرني ؟ قال : نعم ، قال الإمام : إذا اختلفنا فمن نجعل بيننا ؟ قال فلاناً ، فقال له الإمام : أترضى به أن يكون حكماً بيننا ؟ قال : نعم ، قال الإمام للضحاك لقد رضيت بالتحكيم أنت ، أي أعطاه إجابة هاك رضيت بالتحكيم ، أتناظرني ، فقال له : نعم فإذا اختلفنا قال له : نحكّم فلاناً ، ترضى به أرضى به ، هاك قد رضيت بالتحكيم فلمَ تطلب مني أن أتوب من قبول التحكيم ، هذه سرعة بديهة ، هناك محنة ثانية دخل عليه وفد الخوارج وقد شهروا سيوفهم وقالوا : هاتان جنازتان بباب المسجد ، أما إحداهما فجنازة رجل شرب الخمر حتى كظته وحشرج بها فمات ، والأخرى امرأة زنت حتى إذا أيقنت بالحمل قتلت نفسها ، طبعاً لو قال : إنهما شخصان مسلمان لقتلاه ، شهرا عليه السيوف ، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه : من أي المِلل كانا ، ما ملتهما ؟ هل من اليهود ، قال : لا ، قال : أمن النصارى ؟ قال : لا ، قال : أمن المجوس ، قال : لا ، هما مسلمان ، قال : هذا هو الجواب فلما وصلا معه إلى هذه النقطة قالا : ليس هذا نسألك ، هل هما في الجنة أم في النار ؟ قل لنا طبعاً أن تقول فلان في الجنة أو في النار هذا ليس من شأنك ، لكن لا شك أنّ الإنسان إذا مات كافراً فهو إلى النار بنص القرآن الكريم ، لكن إذا رأيته يعصي ليس من شأنك أن تحكم عليه لأنه قد يتوب ويسبقك ، الآن يعصي وأنت لا تعصي ، اطلب من الله التثبيت ، اطلب من الله له الهداية ، واطلب لنفسك التثبيت ، أما إذا عيّرت عاصياً بمعصيته ربما تاب من معصيته وابتلاك الله بها ، لأنّ التعيير ذنب كما تعرفون ، الذنب شؤم على غير صاحبه ، إن ذكره فقد اغتابه ، وإن رضي به فقد شاركه في الإثم ، وإن عيّره ابتُلي به ، فنحن نقول : من آمن بوجود الله عز وجل ولم يطعه نقول : هذا الإيمان لا يكفي لنجاته لا في الدنيا ولا في الآخرة هذا كلام صحيح ، لقوله تعالى :
( سورة النساء )
أي أنت أيقنت أنّ الماء ضروري ولم تقبل عليه فمت عطشاً ، وفي الحقيقة ما قيمة هذا الإيمان ؟ لكن أن تقول : فلان كافر ، هذا ليس من شأن الإنسان ، فلما قالوا : أهما في الجنة أم في النار ؟ قال : أما إذا أبيتم فإني أقول فيهما ما قال إبراهيم عليه السلام في قوم كانوا أعظم جرم منهما قوله تعالى :
( سورة إبراهيم )
وأقول ما قال عيسى بن مريم قال تعالى :
( سورة المائدة )
وأقول ما قال نوح قال تعالى :
( سورة الشعراء )
وأقول ما قال نوح قال تعالى :
( سورة هود )
خمس أقوال لأنبياء كبار ، هذا هو الأدب لله عز وجل ، إذا كنت في طاعة فقبّل الأرض شكراً لله تعالى على أن هداك ، وعلى أن قواك وأعانك على طاعته ، الدليل قول سيدنا يوسف قال تعالى :
( سورة يوسف )
فإذا استقام أحدنا على أمر الله فلا يعتد باستقامته وإنما يشكر الله عز وجل ، أقول لك مرة ثانية : إذا كنت مستقيماً على أمر الله ، إذا كنت غاضاً لبصرك ، متحققاً من دخلك منفقاً مالك في سبيل الله ، تحضر مجالس العلم ، تحب الله ورسوله ، تحب المؤمنين ، تنفق من مالك في مرضاة الله عز وجل ، قبّل الأرض واشكر الله عز وجل على أن هداك وأعانك اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وإن رأيت ضالاً وعاصياً فادعو له بالهدى والتوفيق هذا الموقف الكامل ، أما أن تعيّره بمعصيته فهذا ذنب يستحق العقاب ، وربما كان عقابه أنّ الله سبحانه وتعالى يتوب عليه ويبتليك به ، فالإنسان كلما كان أكثر تأدباً مع الله عز وجل كلما كان أقرب إلى الله ، وقلت لكم مرة سيدنا عمر حينما بلغه أنّ أحد أصدقائه كان في الشام يشرب الخمر ويعصي الله أرسل له رسالة تقطر رقة وعطفاً ، أحمد الله إليك غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب ذي الطول ، فقيل أنّ هذا الصديق العاصي قرأها وصار يبكي إلى أن تاب فلما بلغ عمر رضي الله عنه ما كان من حال صديقه قال: هكذا اصنعوا مع أخيكم إذا ضلّ كونوا عوناً له على الشيطان ولا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم ، إذا أخطأ أحد ما عليك قبوله وتطييب خاطره وإعانته على نفسه ورحمته ، وإياك والقسوة عليه فيزداد بعداً عن الله عز وجل ، قال لهم : ما دام سيدنا عيسى هكذا قال ، قال تعالى:
( سورة المائدة )
من أنا ؟ سيدنا عيسى وسيدنا داود وسيدنا نوح وسيدنا رسول الله ، المحنة الرابعة دعا أبو جعفر أبا حنيفة النعمان ليتولى القضاء فامتنع ، فطلب إليه أن يرجع إليه القضاة فيما يُشكل عليهم ليفتيهم فامتنع ، فأنزل عليه العذاب بالضرب والحبس أو الحبس وحده على اختلاف الروايات، الحقيقة لما حضر أبو حنيفة إلى بغداد خرج ممتقع الوجه وقال إنّ هذا دعاني إلى القضاء فأعلمته أني لا أصلح ، وإني لأعلم أنّ البينة على المدّعي واليمين على من أنكر ، أقسم له أني لا أصلح للقضاء ، قال له: إن كنت صادقاً في قولي يصلح له فلان ، إن كنت صادقاً في قولي فأنت عليك أن تولي الأولى ، وإن كنت كاذباً في هذا اليمين فلا يصح لك أن تولي كاذباً القضاء ، أي بطريقة من الطرق خرج من هذه المحنة التي لو أنّ الإنسان ابتلي بها قاضيان إلى النار وقاضٍ إلى جهنم بعضهم قالوا أي كلهم على خطأ ، طبعاً إلا من عصم الله عز وجل ، ألم يقل له بأن حجر عَبَدَ الله خمسين عاماً ثم ضج بالشكوى إلى الله ، قال : يا رب عبدتك خمسين عاماً وتضعني في أس كنيف ، قال له : تأدب يا حجر إذ لم أجعلك في مجلس قاضٍ ظالم ، قصته الشهيرة مع أحد خصومه الكبار الذين أرادوا أن يوقعوا به وأن ينهوه عند المنصور ، كان في حضرة المنصور وسأله هذا القاضي قال له : يا أبا حنيفة إذا أمرني الخليفة بقتل امرئٍ أأقتله أم أتريث فلعله مظلوم ، فإن قال له اقتله فقد أغضب الله عز وجل ، وإن قال له : لا تقتله فقد أغضب المنصور فكان سريع البديهة قال : الخليفة على الحق أم على الباطل أجبني ؟ وكان الخليفة جالساً فقال له : على الحق ، قال له : فكن مع الحق ، فلما خرج قال : أراد أن يقيدني فربطته ، هذا من مواقفه الذكية ، بعض أقواله بشكل سريع قال : من لم يمنعه العلم عن محارم الله ولم يحجزه عن معاصي الله فهو من الخاسرين ، كما قلت أول الدرس كل هذا العلم محاضرات كتب ، مطالعات ، حضور ندوات مناقشات ، أشرطة ، كل هذا العلم في النهاية إذا لم يمنعك عن معصية الله فأنت من أكبر الخاسرين ، لماذا لأن ندم الذي لم يتعلم أقل منك ، أي تعلمت وحدت عما تعلمت ، هذا أول قول ، القول الثاني : إن لم يكن أولياء الله في الدنيا والآخرة من العلماء فليس لله ولي ، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلمه ، ولي جاهل لا يوجد ، ولي أجدب لا يوجد ، ما دمت ولياً لله فلا بد من أن يعلمك الله عز وجل لأن الله ما اتخذ ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلمه ، بل إن الإيمان لقب في ثلاث خصائص ، خاصة علمية ، وخاصة أخلاقية ، وخاصة جمالية ، فأنت كمؤمن لا بد من أن تكون عالماً ، أنت منطلق من مبادئ ، من قيم ، من حقائق ، من مسلمات ، من إيمان راسخ أنّ لهذا الكون إلهاً ورباً ومسيراً هو واحد في ذاته وصفاته وأفعاله كامل في أسمائه ، هذا القرآن كلامه ومعك على ذلك ألف دليل ودليل ، وهذا النبي رسوله مؤمن وجاهل لا يوجد ، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلمه ، هذه أول صفة ، الصفة الثانية ، الخاصة الثانية في الإيمان أو في المؤمن الخاصة الأخلاقية ، مؤمن غدار لا يوجد لا يوجد مؤمن محتال ، الحد الأدنى للإيمان الأخلاق ، وهناك أحاديث كثيرة جداً كلها صحيحة ، الإيمان كله أخلاق ، كنا قوم أهل جاهلية فلما بعث الله فينا رجل نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه دعانا إلى الله لنعبده ونوحده وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، الصفة الأولى بالمؤمن صفة علمية، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلمه ، الصفة الثانية صفة أخلاقية ، غدر ، إفك ، افتراء إيقاع بين الناس ، ليس هذا من صفات المؤمن ، المؤمن إنسان أخلاقي ، وقّاف عند حدود الله والصفة الثالثة جمالية ، فالمؤمن له ذوق ، نظيف ، عنده أذواق عالية ، يطرب لا للغناء وإنما للقرآن ، أجمل ما في المرأة حشمتها ، أذواقه في اختيار أهله ، في اختيار طعامه نظيف ، في كل شيء نظيف ، ففي الإيمان صفة أخلاقية وعلمية وجمالية ذوقية ، قال : إن لم يكن أولياء الله في الدنيا والآخرة علماء فليس لله ولي ، من تعلّم العلم للدنيا حرم بركته ولم ينتفع به أحد ومن تعلمه للدين بورك له في علمه ورسخ في دينه وانتفع الناس منه ، لذلك يقول الإمام الغزالي :
أردنا العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون لله الإمام أبو حنيفة سئل عن رجلين كبيرين عظيمي الشأن ، قال : أيهما أفضل ؟ قال : والله ما قدري أن أفضِّل بينهما ، قدري أن أدعو لهما وأن أجلّهما فقط ، رحم الله عبداً عرف حده فوقف عنده ، أنت لا تملك الحق أن تميز بين اثنين أعلى منك ، فلان هذا أحسن من فلان ، ما شأنك بهذا ؟ أنت لست في مستواهما ، فلما سئل أيهما تفضِّل ؟ قال : والله ليس هذا من شأني ، أنا شأني أن أدعو لهما وأن أجلهما ، أما أن أحكم بينهما فو الله ليس هذا من شأني ، كان هناك أمير من أمراء الكوفة سأله مرة : يا أبا حنيفة لو تعذرنا ، لو تغشيتنا ، فو الله نحن نحبك ، تعال لعندنا نغديك ونكرمك ، ونحتفل بك ، لو تغشيتنا يا أبا حنيفة فيمن يغشانا ، أي أنّ بابنا لا يُغلق أبداً ، الناس مقبلون علينا زرافات ووحدانا ، وأنت لا نراك ، فقال له رحمه الله : لأنك إن قربتني فتنتني وإن أقصيتني أحزنتني ، إن قربتني فتنتني في ديني ، وإن أقصيتني أحزنتني ، وليس عندك ما أرجوه إطلاقاً ، ما أرجوك له، طلبي هو الآخرة ، طلبي الجنة ، طلبي مرضاة الله عز وجل ، فليس عندك شيء أرجوك له ، وليس عندي شيء أخافك عليه ، لم تعطني شيء تخاف أن تذهب مني ، ليس لي عندك حاجة ، حاجتي عند الله عز وجل ، وليس لك عندي حاجة تخاف أن تذهب مني ، قال له : ولِمَ أتغشاكم وليس لي عندكم شيء أخافكم عليه ، وليس عندك شيء أرجوه منك ، قال له : وإنما يغشاك من يغشاك ليستغني بك عمن سواك ، وأنا غني بمن أغناك ، فلِمَ أغشاك فيمن يغشاك ، ليس لي مصلحة عندك ، ألم يقل أحد الخلفاء لأحد العلماء بالحرم المكي : سلني حاجتك ؟ قال له: والله إني أستحي أن أسأل غير الله في بيت الله ، هذا غير معقول فهنا بيت الله عز وجل ، فلما التقى به خارج الحرم قال له : سلني حاجتك ؟ قال له : والله ما سألتها من يملكها ، أفأسألها ممن لا يملكها ، فلما ألح عليه قال له أريد منك الجنة ، قال له : هذه ليست عندي ، فأجابه : إذاً ليس لي عندك حاجة ، فأنا أريد هذه .
والحمد لله رب العالمين
[quote]