الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . أيها الإخوة المؤمنون ؛ فقرة الفقه المتعلقة بالعبادات التي وعدتكم بها بالدرس الماضي لا تزيد عن عشر دقائق ، إن كانت في كل درس فهذا أعون على إتقان الصلاة التي هي عماد الدين ، وكتاب "مراقي الفلاح " ، كتاب في العبادات فقط ، وفي الفقه الحنفي فقط ، كتاب موجز ، ومبوَّب ، ومقنَّن ومرقَّم ، والقراءة فيه سهلة ، وله متن وله شرح ، فإذا استعصى عليك شيءٌ في المتن ، رجعتَ به إلى الشرح ، ففي الوضوء يقول مؤلف الكتاب طبعاً استناداً إلى استنباطات العلماء :
أركان الوضوء أربعة ، وهي فرائضه : الأول : غسل الوجه ، وحدُّه طولاً ، من مبدأ سطح الجبهة ، إلى أسفل الذقن ، وحدُّه عرضا ما بين شحمتي الأذنين . والثاني : غسل اليديين مع المرفقين ، ليس إلى المرفقين بل مع المرفقين ، فالمرفق داخل في غسل اليد . والثالث : غسل الرجلين مع الكعبين . والـرابع : مســح ربع الرأس .
سبب الوضوء : استباحة ما لا يحل إلا به ، فهل تحل الصلاة بغير وضوء ؟ لا ، فإنها لا تحلُّ إلا به، لاستباحة الصلاة ، واستباحة الطواف ، وهذا حكمه الدنيوي ، وحكمه الأخروي الثواب في الآخرة. الوضوء عبادة ، فإذا قام الإنسان ليتوضأ ، وقال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، دخل في عبادة . وشرط وجوبه : 1ـ العقل 2ـ والبلوغ 3ـ والإسلام 4 ـ والقدرة على استعمال الماء الكافي ، فإذا كان الإنسان لا يقدر على استعمال الماء ، أو يقدر والماء غير كافٍ فعندئذٍ يتيمَّم 5 ـ ووجود الحدث 6ـ وعدم الحيض 7ـ والنفاس ، فلولا الحدث لما وجب الوضوء 8 ـ وضيق الوقت . في بعض الصلوات ؛ كصلاة العيدين ، أو صلاة الجنازة ، إذا كان الوقت ضيقاً حيث تفوته الصلاة إذا ذهب ليتوضَّأ جاز له التيمم ، لضيق الوقت . إذاً شرط وجوبه : العقل ، والبلوغ ، والإسلام ، والقدرة على استعمال الماء الكافي ، ووجود الحدث ، وعدم الحيض ، والنفاس وضيق الوقت . شروط صحته ثلاثة : 1ـ عموم البشرة بالماء الطهور ، يعني أن يبلغ الماء كل الأماكن التي نص عليها الشرع بالماء الطهور 2ـ وانقطاع ما ينافيه من حيض ونفاس ، وحدث 3ـ وزوال ما يمنع وصول الماء إلى الجسد ، يعني طلاء الأظافر يمنع وصول الماء ، والشحم يمنع وصول الماء ، والعجين يمنع وصول الماء . وعندنا شروط الوجوب ، كما عندنا شروط الصــحة . هذا فصل قصير ، وبعدها ننتقل إلى موضوع آخر . يجب غسل ظاهر اللحية الكثة ، واللحية نوعان ؛ طبعاً الذقن غير اللحية ، وكثيرون يظنون أنّ الذقن هي اللحية ، فيقال : ما له ذقن ، أو لم يربِّ ذقنه ، فكل واحد منا له ذقن ، الذقن شيء ، واللحية شيء ، ويستعمل العامة خطأً الذقن بدل اللحية ، إذًا فمن كانت له لحية كثة ، يعني غزيرة الشعر ، يجب غسل ظاهرها ، والشرع لم يكلَّفكَ بغسل أصول اللحية ، عندئذ تحتاج إلى تنشيف على الهواء ، وهذا أمرٌ صعب ، فوق الطاقة ، وعليه غسل ظاهر اللحية الكثة في أصح ما يُفتى به ، ويجب إيصال الماء إلى بشرة اللحية الخفيفة ، فإذا كانت اللحية خفيفة وجب أن يصل الماء إلى البشرة ، أيْ إلى أصل اللحية ، ولا يجب إيصال الماء إلى المسترسل من الشعر عن دائرة الوجه ، فإذا كان لك شعر مسترسل لا يجب إيصال الماء إليه ، ولا إلى ما انكتم من الشفتين ، إذا ضمَّ إنسان شفتيه فهناك جزء من الشفتين من داخل الفم ، فالجزء الذي يعد من داخل الفم لا يجب إيصال الماء إليه ، ويجب تحريك الخاتم الضيق ، وإيصال الماء إلى أصل اللحية الخفيفة ، وغسل ظاهر اللحية الكثة ، يعني الكثيفة ، وعدم وجوب إيصال الماء إلى ما استرسل من الشعر الخارج عن دائرة الوجه ، فهذه معلومات جانبية متعلقة بالموضوع . شيء آخر : لو ضره غسل شقوق الرجلين ، إذا كان في الأرجل شقوق ، يعني مذبوحة من الشتاء ، وهي مؤلمة ، ويؤذيها الماء وضره غسل شقوق رجليه جاز إمرار الماء على الدواء الذي وضعه فيها . وبعد ؛ شخص واحد له لحية كثة توضأ فرضاً وحلقها ، لا يقال له : أعد الوضوء ، ولا يعاد المسح ، ولا الغسل على موضع الشعر بعد حلقه ولا الغسل بعد قص ظفره ، وشاربه . فإذا طرأ بعد الوضوء ، قص ظفر ، أو قص شارب ، أو حلق شعر لم يصل الماء إليه عند الوضوء ، فالشرع متساهل لا يجوز أن تعيد الوضوء في هذه الحالات ، يعني معلومات لطيفة ويحتاجها كل إنسان ، وهذا مما يعين على إتقان الوضوء ، لا زلنا في موضوعات أخرى ، وإن شاء الله نتابعها في الدرس القادم ، هذا ويسن في الوضوء ثمانية عشر شيئاً ، نقرؤها الآن مجرد قراءة ، وربما عدنا إليها في الدرس القادم . يسن في الوضوء ثمانية عشر شيئاً : 1ـ غسل اليدين إلى الرسغين 2- والتسمية ابتداء 3 - والسواك في ابتدائه ولو بالإصبع عند فقده ، فالسواك من سنن الوضوء ، لم تجد السواك فبالإصبع 4 - والمضمضة ثلاثا ولو بغرفة واحدة ، طبعاً عندنا سنة التكرار ، وسنة المضمضة ، فإذا أخذت غرفة يمكن أنْ تتمضمض فيها ثلاث مرات ، فالمضمضة تحريك الماء بالفم مرة أولى ، ثم مرة ثانية ، ثم مرة ثالثة ، إذاً والمضمضة ثلاثا ولو بغرفة واحدة 5 - والاستنشاق بثلاث غرفات ، قطعاً لأن الاستنشاق ليس عندك عضلات بالأنف تحركها ثلاث مرات ، فلابد من المرة الأولى ، والثانية ، والثالثة ، أما بالفم فممكن ، إذاً يجوز أن تتمضمض ثلاث مرات بغرفة واحدة ، ولا يجوز أن تستنشق ثلاث مرات بغرفة واحدة ، فثلاث مرات ثلاث غرفات 6 - والمبالغة في المضمضة والاستنشاق ، المبالغة تعني إيصال الماء إلى كل أنحاء الفم ، وإيصال الماء إلى أقصى الأنف المبالغة لغير الصائم 7ـ وتخليل اللحية الكثة بكف ماء من أسفلها ، والتخليل يعني : بالأصابع ، الأصابع مبتلة تخلل اللحية الكثة ، بكف ماء من أسفلها 8 - وتخليل الأصابع 9 - وتثليث الغسل ، كل عضوٍ ثلاثًا ثلاثًا ، أول مرة تدلك ، والثانية إسالة الماء ، والثالثة التأكد من التنظيف 10- واستيعاب الرأس بالمسح مرة ، ويجوز مسح ربع الرأس ، أما السنة فكامل الرأس 11- ومسح الأذنين ولو بماء الرأس ، فهذا ممكن ، أن تمسح الأذنين بماء الرأس نفسه ، طبعاً تُدخل إصبعك إلى داخل الأذن ، وتمررها بتجاويفها وخطوطها ، ثم ظاهر الأذن والرقبة 12- والدلك . أحدث شيء سمعته من طبيب جزاه الله خيراً أن هناك عصيات بالمستقيم اسمها العصيات الزرق، هذه متواجدة بالمستقيم ، ولها وظائف حيوية ، ومحظور عليها لأسباب يصعب شرحها أن تنتقل إلى داخل الجسم أو إلى الدم ، فإذا دخلت في الفم بسبب عدم الاحتراز منها ، عدم إتقان الغسل ، إذا دخلت إلى الفم ووصلت إلى الدم سببت أمراضًا وبيلة . فالأحاديث الشريفة تحضُّنا على المبالغة بالطهارة ، فإذا دخل إنسان المرحاض وجب أن يبالغ في تنظيف يديه ، ولا سيما الأنامل عند الأظافر ، عند هذه الثنيات ، فلو أن عصية زرقاء دخلت إلى الفم ولم يكن المتوضأ قد اعتنى بتغسيل يديه ، فهذا يسبب له أمراضاً ، يجب أن تعلموا أن أوامر النبي الكريم مبنية على حقائق علمية لأن الله سبحانه وتعالى أوحى له بذلك :
( سورة النجم : 3 ـ 4 ) . 11- ومسح الأذنين ولو بماء الرأس ، 12- والدلك ، 13- والولاء ، كشخصٍ غسل وجهه ، فرنَّ جرس الهاتف ، وتكلَّم ربع ساعة ، ثم رجع وأكمل غسل يديه ، فلم تتوفَّر الموالاة ، بل صار في الوضوء انقطاع ، فيجب أن يتوضأ مرة واحدة ،14- والنية ، 15- والترتيب ، فالإنسان أحيانًا ينسى فيغسل رجليه قبل يديه ، فاختلَّ الترتيب وخالف السنة كما نص الله تعالى في كتابه ، 16- والبداءة بالميامن ، في كل شيء تبدأ باليمين ، 17- ورؤوس الأصابع ، ومقدم الرأس 18- ومسح الرقبة إلى الحلقوم ، إذًا الميامن ، والترتيب ، والنية ، والولاء ، والدلك ، ومسح الأذنين بماء الرأس ، واستعياب الرأس كله ، وتثليث الغسل ، وتخليل الأصابع ، وتخليل اللحية الكثة من أسفلها ، والمبالغة في المضمضة ، والاستنشاق لغير الصائم ، والمضمضة ثلاثًا بغرفة واحدة أو بثلاث غرفات ، أما الاستنشاق فبثلاث غرفات قطعاً ، والسواك ولو بالإصبع ، والتسمية ابتداءً ، وغسل اليدين إلى الرسغين ، وهذه ثمانية عشر شيئاً هي سنن الوضوء ، وفي الدرس القادم إن شاء الله نتحدث عن آداب الوضوء وهي أربعة عشر أدبًا .
***
كتاب إحياء علوم الدين : وبعدُ فإلى بعض الفصول المختارة من إحياء علوم الدين ، ولا زلنا في الموضوع الكبير ، وهو العلم . الدرس اليوم "وظائف المعلم" ، تحدثنا عن آداب المتعلم ، واليوم وظائف المعلم ، فإذا وضعك الله عز وجل وأكرمك في مقام التعليم فعليك واجبات ، ابحث عن واجباتك قبل أن تبحث عن حقوقك قبل أن نبدأ بالواجب الأول هناك مقدمة لطيفة . اعلَمْ أن للإنسان في علمه أربعة أحوال ، كحاله في اقتناء الأموال ، إذ لصاحب المال حالةُ استفادةٍ فيكون مكتسباً ، إذًا أولاً كسب المال ، وحالُ ادخار لما اكتسبه ، فيكون به غنياً عن السؤال ، وحالُ إنفاقٍ على نفسه فيكون منتفعاً ، وحالُ بذلٍ لغيره فيكون به سخياً متفضلا ، وهو أشرف الأحوال . شيء جميل : اكتساب ، وادخار ، وإنفاق على نفسه ، وإنفاق على غيره ، والإنفاق على الغير هو أشرف الأحوال ، هو السخاء ، هو الفضيلة ، وكسب المال ضرورة ، وادخاره شح ، وإنفاقه على النفس أنانية ، وكسبه ضرورة ، فلا بد أن نعمل ، فادخاره شح ، وإنفاقه على الذات أنانية ، أما إنفاقه على الآخرين فهذه فضيلة ، فكذلك العلم يُقتنَى كما يُقتنَى المال ، فله حال طلب واكتساب ، وحال تحصيل يغني صاحبه عن السؤال ، وحال استبصار ، وهو التفكر المحضُ والتمتع به ، وحال تبصير ، وهو أشرف الأحوال . إذًا أوّلاً تَعَلُّم ، وبعدما تعلمت ، جمعت حقائق كثيرة ، ومعلومات كثيرة ، وفهمت شيئاً كثيراً من كتاب الله ، ومن سنة رسول الله ، فشعرت بالغنى ، هذا الادخار ، تأملت فيما تعرف ، وتبصرت فيما حصّلت ، فشعرت بالراحة ، الآن أنفقته على نفسك ، فاعملْ به ، واستفد منه ، أما حينما تعلِّمه غيرك ، فهو أشرف الأحوال . فمن عَلِمَ وعمل وعلّم فهو الذي يدعَى عظيمًا في ملكوت السماوات والأرض ، عَلِم وعمِل وعلّم ، هذه سورة نقرؤها كل يوم عشرات المرات
( سورة العصر : 1 ـ 3 ) . عَلِمَ وعمل ودعا ، علم وعمل وعلّم ، وإذا واجهته معارضات ولاقى تضيقًا ، صبر ، فلا يترك طلب العلم بسرعة ، واللهِ أنا لا أريد هذه العمل ، لأنّ بها وجع رأس فلا أريدها، علم وعمل وعلّم وصبر ، فإذا توافرت هذه كلها فيسمَّى عظيماً في ملكوت السماوات والأرض ، اسمعوا التشبيه اللطيف ، قال : فإنه كالشمس تضيء لغيرها وهي مضيئة في نفسها ، وكالمسك الذي يطيِّب غيره وهو طيب ، والذي يعلِّم ولا يعمل به ، كالدفتر الذي يفيد غيره وهو خال من العلم ، والدفتر الفارغ تملؤه علمًا فيفيدك ، أما الدفتر فهو جاهل ويبقى جاهلاً ، وكالمِسن الذي يشحذ غيره ولا يقطع ، والإبرة تكسو غيرها وهي عارية ، والمصباح يضيء لغيره وذبالته تحترق ، فالذي يتعلم ويعمل ويعلّم ، كالشمس ، والمسك ، والذي يتعلم ويعلم ولا يعمل كالشمعة تحرق نفسها وتضيء غيرها ، لذلك نسأل الله أنْ الله يجعلنا من الصادقين في طلب العلم ، وأنا أدعو بدعاء دائماً ، اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعدَ بما علمت مني ، يعني أنَّ واحدً علَّمتُه ويسبقني ، واللهِ هذه صعبة ، وشيء مؤلم ، تعلِّمه حديثًا يطبقه ويسعد به إلى الأبد ، وأنت لا تطبقه ، تُعلمه آيةً ويطبقها بحذافيرها ، فيجلب منها خير الدنيا والآخرة ، وأنت لا تطبِّقها ، واللهِ هذا الشقاء كلُّه، لذلك سئل النبي الكريم : مَنْ أندم الناس ؟ - أندم اسم تفضيل – قال رجل دخل الناس بعلمه الجنة ، ودخل هو بعلمه النار ، وفي صحيح البخاري حديثٌ يقصم الظهر ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : قِيلَ لأُسَامَةَ لَوْ أَتَيْتَ فُلانًا فَكَلَّمْتَهُ قَالَ إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لا أُكَلِّمُهُ إِلا أُسْمِعُكُمْ إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ وَلا أَقُولُ لِرَجُلٍ أَنْ كَانَ عَلَيَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالُوا : وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ ، قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ : يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ *. [ أخرجه البخاري ] لذلك : وعالم بعلمه لم يعمــــلن معذب من قبل عباد الوثن اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد مني بما علمتني ، اللهم أعوذ بك أن أكون عبرة لخَلْقك ، اللهم إني أعوذ بك أن أتجمل بشيء يشينني عندك ، اللهم إني أعوذ بك أن أقول للناس قولاً في رضاك ألتمس به أحدًا سواك ، القول جيد ، القول في رضى الله عز وجل ، لكن القائل يلتمس به أحدًا سواك ، لذلك أيها الإخوة الأكارم ، الإخلاصَ ، الإخلاصَ ، فقليل من العمل ينفع مع الإخلاص ، ومع غير الإخلاص لا ينفع لا قليل العمل ولا كثيره ، لذلك : يا معاذ أخلص دينك يكفِكَ القليلُ من العمل ، أخلص دينك . وبعد هذه مقدمة نقول : الوظيفُة الأولى للمعلم الشفقُة على المتعلمين ، وأن يجريهم مجرى بنيه ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ ، أُعَلِّمُكُمْ إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ ، وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا ، وَأَمَرَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ ، وَنَهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ ، وَنَهَى أَنْ يَسْتَطِيبَ الرَّجُلُ بِيَمِينِهِ *. ( أخرجه ابن ماجه ) إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ ، حتى الشيء الثابت الذي لا يأتيه الباطل ، أنا رحمة النبي عليه الصلاة والسلام لأمته والخلق جميعاً أشد من رحمتهم لأنفسهم .
( سورة التوبة : 128 ) إذا تحدَّاك إنسان ، وقابلك مقابلة سيئة ، وأنت تقتدي برسول الله فكيف تواجهه ، جاءه جبريل قال أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك ، لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين ، يقصد أهل الطائف ، قال : لا اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحِّد الله ، فرحمته فوق رحمتنا لأنفسنا ، وفوق رحمتنا لأولادنا ، هذا شيء ثابت ، إنما أنا مثل الوالد لولده ، إذاً على المعلم أن يقصد إلى إنقاذ المتعلمين من نار الآخرة ، وهي أهم من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدنيا ، فإذا كان نشب بالبيت حريق ، والابن بالحمام ، والحريق من أطراف البيت كله ، فإنَّ الأم أو الأب يقتحم أحدهما النار لينقذ ابنه ، فإنقاذ الأب ابنه من نار الدنيا ليس بشيء أمام إنقاذ النبي عليه الصلاة والسلام أتباعه من نار الآخرة ، فهذه نار مؤقتة ، قد يكون الحريق من الدرجة الأولى ولكنه يشفى بإرادة الله ، والدرجة الثانية يشفى أيضًا ، وبالدرجة الثالثة قد يعيش مشوَّهًا ، أما نار الآخرة فليس لها حل ، لذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية ، والمعلم سبب الحياة الباقية ، وبالنسبة للدنيا إذا دلَّك شخص على شغلة مربحة وربحت منها فأنت مدِينٌ له ، لقد حكى لي أخ ، وهو واللهِ صادق عندي ، أنَّه اشترى بيتًا أنزل صاحبُه السعر سبعين ألفًا ، أنا مبدئِيًّا ما صدقت ، خفَّض سبعين ألفًا ، قال لي : نعم والله ، سألت ما السبب ؟ قال لي : إنَّ صاحب البيت في بداية عمله التجاري دَلَلْتُه على مصلحة ربح منها الملايين ، فلم ينس هذا المعروف ، إذًا فتخفيض سبعين ألفًا مبلغ يسير ، لكنها ثروة طائلة جاءت نتيجة مساعدة سابقة وإرشاد ، فقد دعمه ووجهه ، فإذا نزل له في سعر بيت سبعين ألفًا فمبلغ بسيط مقارنة بالمليون ، فإذا أصاب شخصًا في الدنيا خيرٌ عن طريق شخص آخر فتراه مدينًا له طوال حياته ، فإذا كانت المساعدة والدلالة تتعلق بالحياة الأبدية وبالجنة التي عرضها السماوات والأرض ، إذْ لا فناء ، ولا كبر ، ولا مرض ، ولا هم ، ولا حزن ، ولا قلق ، فَعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ اللَّهُ : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ )* [ أخرجه البخاري ] إذا دخل شخص بيتًا فخمًا بمصيف جميل ، فقال: وَاللَّهِ إنّه جميل ، فقال لك صاحبه : خذه ، وهو يساوي مليونين ونصف ، إنّه لك ، مع السيارة ، وهذا دخل شهري قدْرُه عشرة آلاف ليرة ، ألا تشعر أنك صغرت أمامه ، والمعلم في الدنيا هو السبب في دخول الجنة ، لذلك قالوا : حق المعلم أعظم من حق الوالدين ، ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم ، إذا ترك لك الأبُ مائة مليون ، أجلْ هناك آباء تركوا مائة مليون ، فإذا مات الابن انتقلت التركة إلى غيره ، فمهما كان عطاء الأب غزيرًا يفقده الابنُ بالموت ، أما عطاء المعلم فهو إلى أبد الآبدين ، لا ينفد خيرُه ، والمعلم سبب الحياة الباقية ، ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم ، وإنما العلم هو المفيد إلى الحياة الأخروية الدائمة ، أعني معلم علوم الآخرة ، لا رياضيات ولا هندسة ، معلم علوم الآخرة ، فإذا عرفت الله عز وجل ، واستقمت ، وعملت الأعمال الصالحة هذا الذي يعلمك ، فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاك ، نعوذ بالله منه ، تتعلم من أجل الوجاهة ، والمنصب والرياسة وترأستَ المجتمعات ، وتصدَّرتَ المجالس ، فإذا كان هذا هو العلم ، فهذا هلاك بهلاك ، هذه الوظيفة الأولى للمعلم ، أن يعلم المتعلمين كأبنائه . الوظيفة الثانية : أن يقتديَ بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه ، فلا يطلب على العلم أجراً ، ولا يقصد به جزاء ولا شكوراً ، بل يعلمه لوجه الله تعالى ، وطلباً للتقرب إليه، وأن يكون هذا العمل خالصاً لوجه تعالى ، لا يريد جزاء ، ولا شكوراً ، لا تلميحاً ، ولا تصريحاً، ولا مادة ، ولا معنى ، ولا شيئًا من هذا ، ولا يرى لنفسه مِنَّة عليهم ، هنا تبرز المشكلة ، إنّه لم يطلب منهم شيئًا ، ولكنه شعر بذاته أن له فضلاً عليهم ، وهذا أكبر عيب هذا ، قال العلماء : ولا يرى لنفسه منَّة عليهم ، وإن كانت المنّة لازمة عليهم ، وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ إذا علَّمتَ إنسانًا وقبل أنْ يتعلم منك واستجاب لك ، فهو ذو فضل عليك ، وليس لك فضل عليه ، لو ما تعلم منك ، فلو أنّه لم يتعلم على يديك ، فقد حُرِمتَ الأجر عند الله ، لكن هؤلاء الذين استجابوا لك واستمعوا وطبقوا وسعدوا كلهم في صحيفتك ، فهم سبب سعادتك ، كالتاجر الذي فتح محلاً فخمًا ، ثم لم يدخله أيُّ زبون ، فما قيمة المحل ؟ فهنا الإمام الغزالي رَضِي اللَّه عَنْه يقول : لا يكفي ألاّ يطلب أجرًا ولا أن يحس أن له فضلاً عليهم ، فهو مخطئ ، بل لهم الفضل عليك ، لأنهم استمعوا ، واستجابوا ، وإن كانت المنَّة لازمة عليهم ، بل يرى الفضل لهم إذ هذَّبوا قلوبهم ، فأنتَ تتقرب إلى الله تعالى بزراعة العلوم فيها ، وهذه الأمثال جميلة . قال : كالذي يعيرك الأرض لتزرع فيها لنفسك ، فقال لك : خذ الأرض وازرعها ، والمحصول لك ، فمنفعتك بها تزيد على منفعة صاحب الأرض ، فكيف تقلده منَّة ، وثوابك في التعليم أكثر من ثواب المتعلم عند الله تعالى ، ثواب المعلم عند الله أكثر من ثواب المتعلم ، إذاً من له الفضل على الآخر ، المتعلم له الفضل ، إذْ لولاه لمَا نلت هذا الثواب ، فلا تطلب الأجرة إلا من الله تعالى كما قال عز وجل :
( سورة هود : 29 ) . فإن المال وما في الدنيا كلها خادم للبدن ، والبدن مركب النفس ومطيتها ، والمخدوم هو العلم ، قال العلماء : إذ به شرف النفس ؛ فمن طلب بالعلم المال ، كان كمن مسح أسفل حذائه بوجهه لينظفه ، إذا طلب أحدٌ على دعوته إلى الله منفعةً ماديةً أو معنوية كمن مسح حذاءه بوجهه لينظفه ، الحذاء خادم ، والوجه مخدوم ، لكنك جعلتَ المخدوم خادمًا ، والخادم مخدومًا ، وهذا هو الانتكاس على أم الرأس ، وسوف نتابع هذه الوصايا . ثم عليك أنْ تترفع عن الدنيا ، اجعل الدين في السماء ، ولا تمرغه في الوحل ، هناك أناس مرَّغوه في الوحل ، وأساءوا إليه إساءة كبيرة ، فلا تطلب على دعوتك إلى الله ولا على تعليمك أجراً ، واحتسب الأجر عند الله تعالى ، وإذا كنت طموحًا فاترك الأجر لله عز وجل، وإليك بعض الأحاديث الشريفة . عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّه، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ *. [ أخرجه البخاري ] . وبصراحة أريد أنْ أقول لكم ، إذا كان الدين عندك حضور مجالس علم فقط، فليس عندك روحانية ، ولا تشعر بسرور ، واعلم أنّ الإيمان له حلاوة ، فإذا أكلَ الإنسانُ أكلة طيبة وهو جائعٌ ، ألا يسعد بها ؟ بلى ، فالإيمان له حلاوة ، قال عليه الصلاة والسلام : ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ ، الأولى : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، كيف ذلك ؟ مثلاً دعاك شخصٌ وأنت لم تصلِّ الظهر ، تعتذر حتى تصلي الظهر أولاً ، اعتذِرْ عن كل شاغلة لتصلي الظهر بإتقان ورويَّة وإلاّ فأنت في غنى عن دعوته ، مثالٌ آخر ؛ دخلتَ أنت وصديق محلاًّ ، وهذا المحل لا يجوز أن تدخله ، تقول : استحييت منه فدخلتُ ، يعني أنّ هذا الصديق أغلى عليك من الله ورسوله ، وإذا قلت أنا لا أدخل ، وهذا خطأ ، وكان الأولى ألاّ تدخل ، وأنت حين تضحي بصداقات الناس من أجل إرضاء الله عز وجل فقد عملتَ صوابًا ، ولن يتخلَّى الله عنك ، فهو وليُّك ، وعندما تؤثر صديقًا على محبة الله ، وتؤثر مبلغًا من المال على رضى الله عز وجل ، فقد جعلتَ منفعتك مقدمة على طاعة الله و مرضاته ، لكنّك إذا كان الله ورسول أحبَّ إليه مما سواهما ، فتقول : معاذ الله ، كما قال سيدنا يوسف حين دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله رب العالمين .
( سورة يوسف : 23 ) . فالمؤمن صاحب مبدأ ، وله مواقف ، فقد يلين الجبل ، ولا يلين هو ، فمواقفه صلبة، لأنه يحب الله ورسوله أكثر مما سواهما ، أما بعض الأشخاص إذا دعي إلى حفلة مختلطة يقول : واللهِ استحييت ، وأنا أرى أنّ مجاملة الآخرين لا بد منها ، ولا بد من مسايرتهم ، وأرجو الله أنْ يغفر ذنوبنا ، هذا يعني أنّ محبة الناس ومجاملتهم مقدمة على محبة الله و رسوله ، إذا كانت لك علاقة ربوية قلت : هكذا يريد شريكي ، فالدرهم والدينار أحب إليك من الله ورسوله ، قال لي شخص : الحمد لله ، إني أصلي الصلاة في وقتها وفي المسجد ، ولكن أسأل الله أنْ يصلح شريكي في المطعم فإنّه يقدِّم خمرًا ، أصلحه الله و هداه ، قلت له : انسحب ، فقال : أنسحب ؟ أرباحه طائلة ، لكني لا أذهب إلى المطعم أبداً ، والحمد لله ، الأمرُ برقبته ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، واللهُ عز وجل يضع المؤمن في ظروف ، وهذه الظروف يخلقها الله خلقًا ، ليظهر الإنسانُ على حقيقته ، فيما إذا كان الدرهمُ والدينا أحبَّ إليه من الله ورسوله ، أو أن الَله ورسوله أحبُّ إليه من الدرهم والدينار ، يقول : الضرورات تبيح المحظورات ، العلماء قالوا : هذه الضرورات إذا خِفْتَ فَقْدَ الحياة ، أو فَقْدَ أحد الأعضاء ، فعندئذ الضرورات تبيح المحظورات ، يقول المؤمن : واللهِ آكلُ خبزًا يابسًا ولا آخذ مالاً حرامًا ، أرضى أنْ آكُل خبزاً فقط ، ولا آخذ هذا المال الحرام ، نجحت حينئذٍ ، وبعدها سوف نعطيك الرضا ، والرحمة ، والتجلي والمال ، فالله عز وجل : ( سورة العنكبوت : 2 ) . لا يمكن لإنسان أنْ ينجو من الفتنة ، فربنا عز وجل عنده محكٌّ ، لتَتَكَلَّمْ بما شئت ، كأنْ تقول : أنا أحب الله ، ومحبة لا يعلمها إلا الله ، ثم تمر أمام فتاة جميلة فتنظر إليها و تحدق ، فأين الذي في قلبك من محبة الله ؟ لا توجد مادة في قانون أرضي تحاسبك ، تنظر ، أوْ لا تنظر، أما ربنا فيحاسبك إذا نظرت وضربَ على اسمك بأنك لستَ له محبًّا ، ورسبتَ في الامتحان ، فاحذرْ فإنَّ علاقتك مع الله عز وجل ، ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، فإذا آثرتَ محبة الله ورسوله جمعت الدنيا والآخرة ، لذلك : من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً . أمّا الثانية : وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ ، في دنياكَ أشخاص تحبهم لله ، لا هو زبون ، ولا صديق ، ولا قريب ، ولا صهر ، ولا جار ، ولا عنده سيارة فتركبها ، ولا حالته المادية جيدة ، فيدعونا لمائدته ، ليس مِن علاقة بينك وبينه ، إلا علاقة الأخوة في الله ، تشعر نحوه بمحبة آسرة ، وتعقيبًا على هذه الظاهرة ذكر لي شخصٌ فقال : واللِه إذا مضى يومٌ ولم أرَ صديقي الذي صادقتُه لله فإنّي لا أهنأ ، وإذا رأيته أشعر بسعادة عارمة ، إذًا علامة المؤمن الصادق أنْ يحب إخوانه في الله محبة عجيبة ، خالصةً لله ، لا يطمع في مالهم ، ولا في مناصبهم ، ولا في أي شيء ، بل رآه مؤمناً فأحبَّه ، ورآه أخلاقياً فأحبه ، جاء في الحديث القدسي عَنْ مُعَاذٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَأْثُرُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ فِيَّ ، وَيَتَجَالَسُونَ فِيَّ ، وَيَتَبَاذَلُونَ فِيَّ *. [ أخرجه أحمد ] . وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ فِيَّ ، وجبت ، وَيَتَجَالَسُونَ فِيَّ ، انظُر مليًّا ، فهذه مجالسة لله ، دونما مصلحة دنيوية صغرتْ أو كبرتْ ، وَجَبَتْ مَحَبَّتِي ، أنت الآن ضيف الله عز وجل : إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإن زوارها هم عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني ، وحق على المزور أن يكرم الزائر ، "وجبت محبتي للمتحابين فيّ ، والمتجالسين فيّ ، والمتزاورين فيّ ، والمتبادلين فيّ ، والمتحابون فيّ جلالي على منابر من نور ، يغبطهم عليها النبيُّون يوم القيامة . "وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ" . في أحيان كثيرة تجد الإنسان المسلم يفضل أنْ يأكل تحت المطر ، إذا كان خارج بلد ، و لا يدخل مطعمًا فيه معصية ، يفضل أنْ يأكل شطيرة (سندويشه) ، يأكل ما خَشُنَ في طاعة الله ، ولا يأكل أفخر المأكولات في مكان يعصى الله فيه ، فهذه علامة المؤمن ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ، هذا مقياس لنا جميعاً ،أن تنفر من كل ما هو جاهلي ، ومِن كل ما هو غير أخلاقي ، وأنا أشبه هؤلاء بشخصٍ سقط في كنيف ثم خرج أو أُخرِج و دخل حماما ، واغتسل ساعة ثم تعطَّر بالعطورات ذات الأرج الفوَّاح ، ولبس الثياب النظيفة ، وصفَّف شعره ، ثمّ ما لبث أنْ رأى السياقات بمياهها السوداء ، أيشتهي أنْ ينزل إلى الكنيف مرة ثانية ؟ فلو حَنَّ إلى الكنيف لكان مجنونًا حقًّا ، وهكذا المؤمن بعد أنْ أنقذه اللهُ من القاذورات ، والسفالات ، والسخافات ، ومنكل ما يشين الإنسانَ ، كالمزح الفاحش ، والغرور ، وبذاءة اللسان ، والضلالة ، فإذا أنقذك الله عز وجل من القاذورات والبذاءات ، وطهَّر قلبك بالإيمان ، فأنت ذو حظٍّ عظيم ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ، وإذا تحقَّق للمرء هذه الهداية فإنّه يقول : واللهِ لو قطعت إرباً إرباً ، فلن أعود إلى ما كنت عليه ، هذا شيء يعلمه كل منكم ، تكره أن تعود إلى ما كنت عليه ، هذا الحديث أُحبُّ أن تحفظوه ، وتتمثلوه دائماً ، إذًا ألخِّص وأكرِّر: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، فإنْ كنتَ في زيارة لبعض أرحامك ووجدتَ ما لا يرضي الله عز وجل مِن منكر ، إذًا تودِّع ، والسلام عليكم ، وهذا تعليم و تنبيهٌ بمَن كنتَ في زيارتهم. ثانيا : وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ ، فلا تقيم مودة و صداقة خالصةً إلاّ إذا كانت قائمةً على رضا الله تعالى ، فهذا الذي ينمو بذرُه ، ثم يكون منها شجرة ، ثم تكون هذه الشجرة ؛ شجرة المحبة والمودة مثمرةً ثمرًا يانعًا ، فإنها تعود ثمراتها بخيرٍ على الفرد و المجتمع ، و بهذا يكون ظلُّ الإسلام ظليلاً ، و يتحقق لنا المعنى السامي للحديث ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّه، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ، هذه صفات المؤمن الحق . ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ ، حاسبه الله تعالى حساباً يسيراً يوم القيامة ، وأدخله الجنة برحمته ، فأعطى المال و عفا عن أهل الإساءة ، ووصل رحمه ، و ردَّ على الإساءة بإحسان ، فسيدنا ابن مسعود رَضِي اللَّه عَنْه فَقَدَ مالاً ، فتوجه إلى الله عز وجل وقال : اللهم إن كان الذي أخذ هذا المال عن حاجة فبارك له فيه ، وإن كان قد أخذه بطراً فاجعله آخر ذنوبه يا رب ، وآخر بالغ في الإساءة لصحابي فقال له : إن كنتَ صادقًا فيما تقول فغفر الله لي ، وإن كنتَ غير صادق فغفر الله لك ، فالمؤمن يترفَّع عن مستوى المشاحنة ، والخصومات ، ويعلو عن كلِّ ما فيه عيبٌ وشين ، ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ ، فقد سما في معارج القبول ، فأنت رجلٌ منَّ الله عليك بنعمةٍ كبرى هي نعمة الهداية ، والسلوك الأخلاقي الإيجابي ، وأقرى الضيف ، وكذلك من أدَّى ، وأعطى على النائبة ، فهذا برئ من الشح ، فلا يسمى شحيحاً ، وبرئ من الكبر من حمل حاجته بيده ، ودخل بها على أولاده ، فقد يذهب الإنسان إلى السوق يشتري خضارًا ويحمل حملاً ثقيلا ، فهذا فخر ، أنت عندئذٍ بريء من الكبر ، فاحملْ حاجتك بيدك ، لقد برئ من الكبر من حمل حاجته بيده ، الثالثة : بئء من النفاق من أكثر من ذكر الله ، فإذا أكثرت من ذكر الله ، فأنت بريء من النفاق، وبريء من الشح من أدى زكاة ماله ، وأقرى الضيف ، وأعطى على النائبة ، وبريء من الكبر من حمل حاجته بيده ، وبريء من النفاق من أكثر ذكر الله .
والحمد لله رب العالمين ..
[quote]
مقبول حسون الادارة
عدد المساهمات : 2413 تاريخ التسجيل : 08/12/2009
موضوع: ـ الوضوء ( أوصاف الوضوء ) . السبت مارس 27, 2010 3:41 pm
ـ الوضوء ( أوصاف الوضوء ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في الدرس الماضي إلى أوصاف الوضوء ، والوضوء على ثلاثة أقسام : الأول : فرض ، يعني من أراد أن يصلي وهو محدث فالوضوء فرض ، فعلى المحدث للصلاة ، ولو كانت نفلاً ، أو فرضًا أو سنةً ، أو نفلاً ، أو تطوعًا ، فإن كان المصلي محدثاً ، فالوضوء لها ولصلاة الجنازة ولسجدة التلاوة فرضٌ ، والوضوءُ فرض لِمَسِّ القرآن ، ولو لمراجعة آية . والثاني واجب : وأما الوضوء الواجب ، فللطواف بالكعبة ، وكما يتضح لكم ، أن الفرض إذا تركه الإنسان لأيِّ سببٍ يأثم ، وإن تركه تهاوناً أَثِم ، وإن تركه إنكاراً كَفَر ، ومن ترك الصلاة استخفافاً بحقها كفر ، أمّا من ترك الصلاة تهاوناً فَسَقَ . والثالث : مندوب - دققوا أيها الأخوة كيف كان السلف الصالح يتخذون من الوضوء أدباً ، حتى يرفع من طاهرة نفوسهم - فيُندَب للنوم على طهارة ، فإذا أردت أن تذهب إلى النوم فالوضوء مندوب لك ، لأنّ النوم على طهارة يجعل النائم يغيب في منامات سعيدة ، فيرى نفسه يقرأ القرآن ، أو في مجلس علم ، وقد يرى نفسه في زيارة الحبيب المصطفى ، وما دام قد نام على طهارة فلنْ يأتيه كابوس في النوم ، عند الكوابيس يستيقظ ، وكأن الشيطان قد مسّه ، هذه المنامات الموحشة ، التي تفزع منها النفس ، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتوضأ إذا ذهب إلى النوم ، ويتوضأ إذا استيقظ منه ، ، فمثلاً أنْ يستيقظ من النوم مباشرةً إلى الأكل صباحاً ، فهذا تأباه النفوسُ الطيِّبة ، ولا يجوز له ، فالوضوء بعد النوم ، يعني أنْ يغسل يديه ، وكذلك إزالة بعض المفرزات من عينيه ، وإزالة بعض الزبد على فمه ، وغسل أنفه ، وتنظيف ما تراكم فيه ، فإذا استيقظ الإنسان من النوم وتوضأ ، فهذا من السنة بعدَ الاستيقاظ من النوم ، كما يُسنُّ المداومة عليه ، والمسلم إذا توضّأ وصلى الضحى وخرج من بيته ، ثم انتقض وضوؤه في أثناء الطريق ، ووصل إلى مكتبه ، أو وصل إلى مكان عمله فليتوضأ ، وهذا الوضوء مندوب للمداومة عليه وعلى استمراريته ، وكذلك في الصيف مثلاً فرجلٌ متوضئ ودخل مسجد ، والبحرة فيها ماء زلال ، واشتهى أنْ يتوضأ ، مع أنّه متوضئ ، فهذا مندوب ، الوضوء على الوضوء ، دخل إلى المسجد الحرام وهو متوضئ وتوضأ فهذا مندوب ، وبعد غيبة ، فإذا كان الإنسان في غيبة ندب له الوضوء ، وبعد كذب ، فإذا وقع الإنسان في كذب فعليه أن يتوضأ ، لأن نفسه تنجست ، فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ * . [ أخرجه أحمد ] فلا يخون المؤمن ولا يكذب ، وكذلك بعد كذب وغيبة ونميمة ، تكلَّمن في شخص، وشعرنا بوحشة وبحجاب ، وانقطعت الصلة مع الله عز وجل ، أول عمل أنْ نتوضأ ، وبعد كل خطيئة أيضًا ، والوضوء يلازم التوبة ، والتوبة طهارة الباطن ، والوضوء طهارة الظاهر ، وبعد إنشاد شعرٍ ، وكما قال بعض الشعراء : أعذب الشعر أكذبه ، قال تعالى :
( سورة الشعراء : 224 ـ 226 ) إذاً إنشاد الشعر يندَب له الوضوء ، فهناك شعر فيه غزل ، فيه هجاء ، فيه وصف لمحاسن امرأة، شعر من هذا القبيل ، عليك أن تتوضأ منه ، وكذلك قهقهة خارج الصلاة ، اللهم صلِّ عليه ، كان جلُّ ضحكه تبسمًا ، وهناك ضحكة مجقجقة ، كأنْ يضحك الشخصُ يكاد ينقسم نصفين ، من فَرط ارتفاع صوته ، فهذا الضحك يُندَب أن تتوضأ منه ، وغسل ميت ، فكل من ساهم في غسل ميت، أو حمله عليه أن يتوضأ ، مع أن الميت طاهر ، والمؤمن لا ينجس ، ولكن هذا توجيه صحي ، يعني قد تكون الوفاة بسبب مرض سارٍ ، وقد تكون الوفاة قد نتج عنها بعض المفرزات التي فيها بعض الجراثيم ، فمن ساهم في غسل ميت ، أو حمله فعليه أن يتوضأ ، وهذا توجيه صحي كما نوَّهت ، ولوقت كل صلاة ، أذن العصر وأنت متوضئ فمندوب أن تتوضأ لكل صلاة ، وقبل غسل الجنابة ، مندوب أن تتوضأ قبل غسل الجنابة ، وللجنب عند أكل ، وشرب ، ونوم ، جنب لم يغتسل ، وقام ليشرب أو ليأكل فعليه أن يتوضأ ، إذًا أكلٌ وشربٌ ونوم ووطء ، ولغضب كذلك ، فإذا غضب الإنسان وتوضأ فقد يذهب عنه الغضب ، وهذا مفهوم ومجرَّب ، أو يسكت عنه الغضب ، كما قال الله عز وجل :
( سورة الأعراف : 154 ) وهذا من أروع تشبيهات القرآن الكريم ، وكذلك يتوضَّأ لقراءة قرآن ، أو حديث شريف ، أو قراءة ، فهذا مندوب ، أمَّا المسُّ ففرض ، فشخص حافظ القرآن أحبَّ أنْ يقرأ القرآن، أو أنَّ المصحف مفتوح ، فله أنْ يقرأ دون أن يمسَّ المصحف ، ومن دون أن يتوضَّأ ، لكن المندوب أن يتوضأ إذا قرأ القرآن ، ولقراءة الحديث الشريف كذلك ، تعظيماً لهذا العلم الشريف ، وروايته ، ودراسة العلم الشرعي ، كأن يحضر مجلس علم ، أو أحبّ أنْ يتدارس مع غيره موضوعًا شرعيًّا فليتوضأ تعظيماً لهذا العلم ، والوضوء مندوب للأذان ، وللإقامة وللخطبة، ولزيارة النبي عليه الصلاة والسلام ، وللوقوف بعرفة ، وللسعي بين الصفا والمروة ، وكذلك أكل لحم جزور ، فالفقهاء في هذه المسألة وقفوا عند النص ، فالنبي الكريم كان مع الصحابة الكرام في دعوة ، ويظهر أن رجلاً من الحاضرين صدرت منه رائحة كريهة ، وكان الصحب الكرام قد صلوا الظهر ، وتناولوا لحم الجزور ، يعني الجمل ، ثم دخل وقت العصر ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : كل من أكَلَ لحمَ جزورٍ فليتوضأ ، فالنبي لفطنة عالية ، ولكمال عظيم فيه أراد ألا يخذل هذا الذي سوف يبادر إلى الوضوء ، فقال : كل من أكل لحم جزور فليتوضأ ، فقال الصحب الكرام : يا رسول الله كلُّنا أكلنا لحم جزور ، فقال : فليتوضأ جميعكم ، والفقهاء هنا وقفوا عند الظاهر ، وإذا مس امرأة ، والإمام الحنفي قال : لا مانع ، ويقصد زوجته ، أما المرأة الأجنبية فيُنتقض إسلامُه ، وليس وضوؤه ، ولكن إذا مس امرأته فعلى المذهب الحنفي لا يتوضأ، وعلى المذهب الشافعي يتوضأ ، فأيهما أكثر حيطة ؟ المذهب الشافعي ، وإذا أردتَ أن تخرج من خلاف العلماء وأنت حنفي المذهب ، وأردت أن تصلي بالناس ، وبينهم من هو شافعي المذهب ، فإذا أردت أن يطمئن الناس لك ، فلتتوضَّأ لتخرج من خلاف العلماء ، والوضوء يسع كل المصلين ، أما عدم الوضوء فيسع الأحناف فقط ، فمن أجل أن تسع كل الناس توضأْ واخرج من خلاف العلماء ، هذه مندوبات الوضوء ، ولا بأس بعد هذا الشرح المسهب من إعادة موجزة: أوصاف الوضوء : الفرض والواجب والمندوب . الوضوء على ثلاثة أقسام : الأول : فرض على المحدث للصلاة ولو كانت نفلا ، ولصلاة الجنازة ، وسجدة التلاوة، ولمس القرآن ولو لمراجعة آية . والثاني : واجب للطواف بالكعبة . والثالث : مندوب ؛ للنوم على طهارة ، وإذا استيقظ منه ، وللمداومة عليه ، وللوضوء على الوضوء ، وبعد كذب وغيبة ونميمة ، وكل خطيئة ، وإنشاد شعر ، وقهقهة خارج الصلاة ، وغسل ميت وحمله ، ولوقت كل صلاة ، وقبل غسل الجنابة ، وللجنب عند أكل ، وشرب ، ونوم ، ووطء ، ولغضب ، وقرآن ، وحديث ، وروايته ، ودراسة علم وأذان ، وإقامة ، وخطبة، وزيارة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ووقوف بعرفة ، وللسعي بين الصفا والمروة ، وأكل لحم جزور ، وللخروج من خلاف العلماء إذا مس امرأة . ***
من إحياء علوم الدين وبعد هذه العجالة إلى بعض ما جاء في إحياء علوم الدين من صفات العلماء الذين يعلِّمون الناس العلم الشريف . الوظيفة السادسة : أن يقتصر المعلم مع المتعلم على قدر فهمه ، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفر ، أو يخلِّط عليه عقله ، أو يشوشه ، اقتداءً في ذلك بسيد البشر عليه أتم الصلاة والسلام ، ماذا قال : نَحْنُ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنِ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ ، وَنُكَلِّمَهُمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ " ، والله هذا الحديث جميل ، فليبث إليه الحقيقة إذا علم أنه يستقل بفهمها ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَنْتَ مُحَدِّثٌ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ فِتْنَةً * (الجامع الصغير عن ابن عباس) عليك أنْ تنتقي من الأحاديث ما هو واضح ، وأنا أنصح أن الخلافيات يجب ألا نبحث فيها ، لماذا؟ فهناك أشياء متفق عليها في الإسلام، لا يختلف عليها اثنان على وجه الأرض ، وهذه ما أكثرها في كتاب الله ، والقرآن كله متفق عليه ، التفكر في الكون ، وعظمة الله عز وجل ، من خلال خلقه ، الاستقامة على أمر الله ، وتطبيق آيات القرآن ، فهناك آلاف الموضوعات التي إذا حدثت الناس بها اجتمعت قلوبهم ، وتوحدت كلمتهم ، والتفُّوا حولك ، من دون أن تبحث في خلافيات لا تقدم ولا تؤخر ، لذلك النبي الكريم قال : مَا أَنْتَ مُحَدِّثٌ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ عَلَى بَعْضِهِمْ فِتْنَةً * (الجامع الصغير عن ابن عباس) وهذا حديث آخر لم يذكره الإمام الغزالي ، وَقَالَ عَلِيٌّ : حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ * (رواه البخاري) وقال علي رَضِي اللَّه عَنْه وأشار إلى صدره : إن هاهنا لعلوماً جمَّة ، لو وجدت لها حَمَلَةً ، مثلاً كأنْ تقول لفاسق : إنّ هذه المصيبة لرقي الإنسان ، فأعظم الناس بلاء الأنبياء ، هذا كلام ليس صحيحًا لواحد فاسق ، يقول لنفسه : فأنا مبتلى ، وأنا مثل الأنبياء إذًا ، هذا الفاسق لا تقل له هذا الكلام ، قل له : المصيبة عقاب من الله عز وجل ، ما من عثرة ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم ، ويعفو الله عن كثير ، فإذا خاطبت فاسقًا فبادِره بهذا التوجيه ، وإن دخلت على أخ مؤمن راقٍ تائب منيب تقي نقي ، مريض فلا تقل له : ربما فعلت ما فعلت ، وهذه عقوبة ، بل قل لهذا الأخ المؤمن : هذا ابتلاء لرقي المؤمن . عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ ،عَنْ عَمَّتِهِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعُودُهُ فِي نِسَاءٍ فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَشَفَاكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ *. [ أخرجه أحمد ] . ما أصاب عبد مصيبة إلا بإحدى خلتين ؛ بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بتلك المصيبة ، أو بدرجة لم يكن الله ليبلِغه إياها إلا بتلك المصيبة . فمثلاً إذا قام شخصٌ يدعو عند عقد قران ، فليدعُ بما يناسب عقد القران ، وهناك أدعية تناسب عقد القران ، كما أن هناك أدعية تناسب الزفاف ، وللمناسبات الحزينة أدعية ، والإنسان ينتقي الدعاء المناسب ، والوقت المناسب ، وللرجل المناسب ، كما قال سيدنا علي : ما كل ما يعلم يقال، وما كل ما يقال له رجال ، ولكنْ إذا وجد الرجال فقدْ آن الأوان ، ويجب أن تقول ما يمكن أن يقال ، وفي الوقت الذي يقال فيه ، وللرجل الذي يستوعب هذا القول ، وهذه هي الحكمة ، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً . وعن سيدنا عيسى أنه قال : لا تعلق الجواهر في أعناق الخنازير ، والجواهر هنا تعني الحكمة ، فإذا حدثت بها مَنْ ليس أهلاً لها فكأنك علَّقتَ الجواهر في أعناق الخنازير ، قيل : كِلْ لكل عبد بمعيار عقله ، وزِنْ له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك ، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار ، وسئل بعض العلماء عن شيءٍ فلم يجب ، فقال السائل : أما سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : مَنْ كَتَمَ عِلْمًا مِمَّا يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ أَمْرِ الدِّينِ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنَ النَّارِ *. [ أخرجه ابن ماجة عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ] . فقال له العالم : اترك اللجام واذهب ، يبدو أنه رآه ليس في مستوى هذا السؤال ، فقد يفتنه إنْ أجابه ، وقال تعالى :
( سورة النساء : 4 ) . استنبط بعضهم من هذه الآية ، أن العلم أثمن من المال ، فإذا كان المال لا ينبغي أن نؤتيه السفهاء ، فالعلم أثمن منه ، فلا ينبغي أن تعلِّم السفهاء كلاماً ليس في مستواهم ، يتخذونه حجة للحذلقة والاستعلاء على الناس وتغرير الناس وإيهامهم أنهم علماء وهم ليسوا كذلك . الوظيفة السابعة للمعلم النصوح : أن المتعلم القاصر ينبغي أن يلقى إليه الجَلِيَّ اللائقَ به ، والأمور الواضحة ، أما أنْ تعمد إلى كتاب الفتوحات مثلاً لعوام الناس ، واللهِ يكفرون لأن به أشياء دقيقة ، وبعيدة عن أفهام العامة ، وقد لا تقبل لمخالفتها للكتاب ، وقد تكون منسوبة على الشيخ محي الدين ، فقبل أن تقرأ، وقبل أن تدرس محِّصْ ، أما أن تقرأ ما في الكتب من دون تمحيص ، من دون تقييم ، ومن دون تقيد بكتاب الله ، فهذا ليس من صفات العلماء في شيء ، ليس كل شيء قرأناه ننقله للناس ، فهناك أقوال وقصص تقلب الموازين كلها رأسا على عقب ، قال العلماء : ولا تذكر لهذا المتعلم القاصر أن وراء هذا العلم الجليِّ اللائق علماً دقيقاً لا أعلمك إياه ، لأنك لست في مستواه ، قال : عندئذ تفتر همة هذا المتعلم عن الجليِّ ، ويشوش عليه قلبه ، ويوهم إليه البخل به عنه ، إذ يظن كل أحد أنه أهل لكل علم دقيق ، فهذه هذه المصيبة ؛ أن كل إنسان يعتقد أو يتوهم أنه أهل لكل علم دقيق ، فإذا قلت للمبتدئ أن هذه معلومات ساذجة بسيطة ، وعندي معلومات دقيقة لا أحدِّثك بها ، إذا قلت له هذا زهد فيما تعلمه ، وظن نفسه أهلاً لهذا الذي ضننت به عليه ، فشوشت قلبه ، وحيرت فؤاده ، وأوقعته في الفتنة ، وأنت لا تدري . إنّ التجار يعرفون هذه الحقيقة ، إذ عند أحدهم مساطر متنوعة بالأسعار ، فإذا ذهب إلى منطقة فقيرة مثلا ، لا تنفق فيها البضاعة الثمينة ، وعرض ما هو ثمين ، ثم عرض الوسط ، ثم الأدنى ، يتعلق أحدهم بالثمينة وما معه ثمنها ، فلن يشتري إطلاقا ، تلك غالية ولا تباع في المنطقة الفقيرة ، وهذه حينما عرضها مع هذه فقدت رونقها ، فزهد بها ، هذا شيء متبع، والتجار أذكياء ، فلما يعرض التاجر الجيد والغالي لإنسان لا يستطيع أن يدفع ثمنه ، ولا أن يتذوقه تعلق به ، وزهد في الذي دونه ولم يشتر شيئاً ، وهذه الظاهرة في التجارة تنطبق تماما على العلم . فإذا قلت للمتعلم : عندي علم أعمق و أشمل ، وأنت لستَ في مستواه الآن ، زهد في الذي تعلِّمه إيّاه ممَّا هو مستواه ، قال الغزالي : هذه ليست من صفات العلماء الحكماء ، فما من أحد ، سبحان الله إلا وهو راض عن الله سبحانه وتعالى في كمال عقله ، فلا أحدَ من بني البشر إلاّ ويظن أن عقله غير كامل ، كل واحد يرى كمال عقله مائة بالمائة ، و الناس كلهم راضون عن عقولهم ، وساخطون على أرزاقهم ، مع أن تفاوت العقول تفاوت كبير ، كالذرة جنب أُحُد ، ولكن الناس راضون عن عقولهم ، فإذا قلت لهم : أنتم لستم في مستوى هذا الكلام ، قالوا : بل أنت وعليك ذلك ، قال : وأشد الناس حماقة وأضعفهم عقلاً هو أفرحهم بكمال عقله ، قال : وبهذا يعلم أن من تقيد من العوام بقيد الشرع ورسخ في نفسه العقائد المأثورة عن السلف من غير تشبيه ومن غير تأويل ، وحسن مع ذلك إسلامه ، ولم يحتمل عقله أكثر من ذلك ، فلا ينبغي أن يشوش عليه اعتقاده ، شخص له مصلحة ، تفكيره محدود ، مستقيم ، يصلي ، يغض بصره ، مال حلال ، فعليك أنْ تقبل منه هذا الوضع ، وإن أردتَ أكثر فَتَنْتَه ، ليس لديه إمكانية في أنْ يفهم أدق من ذلك ، الصلاة فرض فهو يصلي ، أما الصلاة درجات ، والصلاة الوسطى ، التفات إلى الله بين الصلاتين ، والصلاة لها معوقات ، ولها مثبطات ، ولها هذه التعقيدات ، فلا يفهم عليك ، وعليك أنْ تخاطب كل إنسان على قدر عقله . آخر صفة من صفات العلماء العاملين ، أن يكون المعلم عاملاً بعلمه ، فلا يكذّب قولَهُ فعلُهُ - مفعول به مقدم - فلا يكذب قولَهُ فعلُهُ ، لأنّ العلم يدرك بالبصائر ، والعمل يدرك بالأبصار ، وأرباب الأبصار أكثر من ستة آلاف مليون إنسان ، ولكل إنسان عينان ، ولا تجد بالمائة ألفٍ واحدًا عنده بصيرة ، فأصحاب الأبصار أكثر من أصحاب البصائر ، والناس يرون الظاهر ، وأرباب الأبصار أكثر ، فإذا خالف العملُ العلمَ مُنِع الرشاد ، وكل من تناول شيئاً ما ، مثلاً لو أنّ شخصًا أمسك الكأس وشرب منها ، وقال للناس : لا تشربوا من هذا الماء فإنه سم مهلك ، سخر الناس منه واتهموه ، وزاد حرصهم على ما نهوا عنه ، فيقولون : لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما شرب منه ، فإذا ارتكبتَ مخالفة ، وحاولتَ أنْ تقنع الناس أنّ هذه مخالفة فلن يسمعوا إليك ، ولو أنّ أحدًا منع الناس عن فتِّ البعر لفتوه ، وقالوا : ما نهينا عنه إلا لشيء ، فإذا فتَّه هو ظنَّ الناسُ أنّ هذا شيء ثمين ، إذاً كل إنسان يخالف قولُه فعلَه يغري الناس بالمعصية ، هم لا يزهدون به ، بل إنه يغريهم بالمعصية ، ومثل المعلم المرشد مع المسترشدين مثل النقش من الطين والظل من العود ، فكيف يتنقش الطين بما لا نقش فيه ، ومتى استوى الظل والعود أعوج ، فخُذْ الآن قضيبًا أعوج ، واغرزه في الأرض ، فهل ترى ظلَّه مستقيمًا ؟ مستحيل ، لا بد أن يكون ظله أعوج مثله ، ومتى استوى الظل والعودُ أعوجُ ، متى رأيت هذا ، ولذلك قيل في هذا المعنى : يا أيها الرجل المـعلم غيره هـلاّ لنفسك كان ذا التعليم ابدأ بنفسك فانهَهَا عن غيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم وقال تعالى :
( سورة البقرة : 44 ) . ولذلك كان وزر العالم في معاصيه أكبر من وزر الجاهل ، إذْ يزل بزلته خلقٌ كثير، ويقتدون به ، فإذا كان للعالم غلطة ، أو له معصية ، أو مخالفة ، أو انحراف طفيف ، صار هذا الانحراف سُنَّة ودينًا ، وفلان لا يُناقش ، هذه لا تجوز ، إنّ أكثرَ مِن خمسين شيخًا أفتوا فتاوى خاطئة ، هذا الجهاز كيف تحويه ، أناس كثيرون عندهم مثله عمائم ولِحًى ، فعندما يكون الإنسان ذا مظهر ديني ، ويخالف الشرع ، وصارت مخالفته سنة ، قدوة ، ودينًا ، فهذا الذي يخالف الشرع يغري الناس بالمعصية ، فلو أنّ واحدًا عصى الله عز وجل ومظهره عادي فالخطرُ محدود ، لأنه لا يُتَّخَذ ، قدوة ، بل يسمَّى عاصيًا ، أما أنْ يكون للشخصِ مظهر ديني ، وله مخالفة والعياذ بالله ، فهذا قدوة للناس إلى النار ، لذلك ورد عن النبي الكريم في صحيح البخاري حديثٌ مخيفٌ ، أنّ النبي الكريم وصف شخصًا من وجهاء الدنيا في العلم ، رآءه أهل النار بينهم فقالوا له ، فَعَنْ أَبِي وَائِلٍ ، قَالَ : قِيلَ لأُسَامَةَ لَوْ أَتَيْتَ فُلانًا فَكَلَّمْتَهُ قَالَ : إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لا أُكَلِّمُهُ إِلا أُسْمِعُكُمْ إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ ، وَلا أَقُولُ لِرَجُلٍ أَنْ كَانَ عَلَيَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالُوا : وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ *. [ أخرجه البخاري ] . لذلك قال بعض الشعراء : عالم بعــلمه لم يعمــلَنْ معذبٌ بعلمه قبل عُبَّاد الوثن والنبي الكريم يقول : تعلموا ما شئتم ، فوالله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم ، وقال : كل علم وبال على صاحبه ما لم يعمل به " ، وقال : كل الناس هلكى إلا العالمون ، والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم ، فيجب أن تكون عالماً ، عاملاً ، مخلصاً ، يقظاً ، فلو كنتَ تقود سيارة منذ خمسين سنة ، فكل هذه السنوات وكل الخبرات ، لا تسمح لك أن تغمض عينيك ، وأنت تقودها لأنّك ستصاب بحادث ، يجب أن تكون عالماً ، عاملاً ، مخلصاً يقظاً ، هذا كلام لبيب ناصح ، فمن أجل ألاّ يضيع أحدٌ وقته سدى، ويبذل جهدًا بلا طائل ، ويكون ممن حصل العلم ولم ينتفع به ، فيجب أنْ يكون جامعًا لكل تلك الأوصاف التي سبقت للعلماء ، واللهِ لقد مرَّ معي حديث لا أزال أذكره ، أندم الناس يوم القيامة عالم دخل الناس بعلمه الجنة ودخل هو بعلمه النار ، أربعة أدعية أدعو بها ، وكلما دعوتُ بها شعرتُ أنه على كل مسلم أنْ يدعو بها . اللهم إني أعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك ، اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحدًا سواك ، اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني ، اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك . لا يتجنَّب الناس السوءَ فأعمل معصية ، فيأخذوا منها عبرةً ، ويعاقبني الله عليها ، وأصير حديث سوء للناس ، فيقال : فلان هكذا عمل ، وجرى معه هذا ، قال تعالى : " فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ " (سورة سبأ ، الآية 19) هؤلاء القوم الذين كفروا بالله ، ودمرهم الله عز وجل فجعلهم أحاديث تتلى .
****
وإليكم بعض الأحاديث الشريفة : 1 - ثلاث من نعيم الدنيا ، وإن كان لا نعيم لها ، وكل إنسان يوطِّن نفسه أنّه سيُسَرُّ بالدنيا يكون مخطِئًا ، وطِّن نفسك على ألاّ تُسرّ فعندها ستجد السرور ، هذا من الأقوال المتناقضة فيما يبدو ، إن أسعد الناس بها أرغبهم عنها ، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها ، إنّ الذين وصلوا بدنياهم إلى قممها، في المال والعز والجاه والقوة هم أشقى من فيها ، وأولئك الذين أخذوا منها اليسير ، وعرفوا الله عز وجل ، وقنعوا بما آتاهم ، هؤلاء أسعد الناس فيها ، لِتَكُنْ هذه الكلمة دائمًا في قلبك ، إن أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها ، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها ، ثلاث من نعيم الدنيا وإن كان لا نعيم لها ، مركب سريع وامرأة صالحة ومنزل واسع . 2 - ثلاث من كنوز البر ، إخفاء الصدقة ، إنْ فعلتَ خيرًا فلا تذكره لأحد إطلاقاً ، هل يقول لك الشيطان : أنت منافق ؟ لا يمكن ، إذا قمت بالليل وصليت ركعتين ، وأهلك لم يعلموا ، وزوجتك ما دَرَتْ ، والأولاد ما دروا ، ونِمتَ وما ذكرتَ شيئًا مِن هذا ، هل يقول الشيطان : لستَ مخلصًا، فكتمان الصلاة في الليل ، وكتمان الصدقة ، يثبت للإنسان أنه مخلص ، ثلاث من كنوز البر إخفاء الصدقة ، وكتمان المصيبة ، وكتمان الشكوى ، فإذا كان يقينُ الإنسان على مستوى رفيع ، يعرف أنّ كل الأمور بيد الله عز وجل ، والله يعلم ، والشكوى للناس ما فائدتها ؟ فالذي يلي يشكو للناس تذهب هيبته ، الناس لا يزيدون عن أحد رجلين ، إما محب فيتألم وإما عدو فيشمت . ويعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يـــرحم الآن إذا أصيب أحدٌ بمصيبة وأخفاها ، فقد جعل سيدنا يعقوب قدوة له ، قال تعالى :
( سورة يوسف : 86 ) . تجد شخصًا يثور بسرعة ويضجر ، فيأتي بعض الناس ليزوروه ، فيعيد القصة إعادة مسهبة ، وكل مرة يحسِّنها ، حتى تصير قصة تروى ، أنا أقول لمثل هؤلاء ، اكتُبها على شكل نشرة ، ثم اطبعها ووزِّعها على الناس ، لكنّك تجد آخر مستسلمًا ساكتًا ، يعلم أنَّ العباد كلهم لا شيء بيدهم ، وأنَّ الأمر كله لله ، لذلك لا يشكو إلا لله ، وبعضهم قال : من اشتكى إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله ، ومن اشتكى إلى كافر ، فكأنما اشتكى على الله ، فإذا شكوتَ إلى كافر همَّك أصابك منه الهمُّ ، فيقول : أنا قلت لك منذ زمن أنّ هذا الطريق يعود عليك بالشرِّ ، فهل نفعك الدينُ ؟ لقد كان ينتظر أنْ تصاب فيقول هذه الكلمات ، ولعله يدفع عليها مئات الألوف ، ويقول : ماذا نفعتك الاستقامة ؟ أمَا قلت : إنّ المستقيم ينجيه الله ، قلت لك : هذا كله خلط ، فما صدقتني ، فإذا بُحْتَ بشكواك لمؤمن فلا مانع ، فإنّه يصبِّرك ، ويخفف عنك ، ويذكرك بآيات القرآن الكريم ، وبرحمة الله وحكمته ، وحلمه ، والمؤمن الحقُّ لا يقصُّ لأحد إطلاقا ، مثل سيدنا يعقوب " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون " ، أما إذا قام أحدٌ بالليل وصلى قيام الليل ، ثم دعا : يا رب ألَّمت بي هذه المصيبة فارفعها عني ، فهَذِهِ أرقى أنواع الشكوى إلى الله وحده ، والعوام يقولون الشكوى إلى الله عزٌّ ، والشكوى لغير الله مذلة . إذاً ثلاث من كنوز البر ؛ إخفاء الصدقة ، وكتمان المصيبة وكتمان الشكوى ، يقول الله تعالى : إذا ابتليت عبدي فصبر ولم يشكُني إلى عواده ، أبدلته لحما خيراً من لحمه ، ودمًا خيرًا من دمه ، فإن أبرأتُه أبرأتُه ولا ذنب له ، وإن توفيته فإلى رحمتي ، فَعَوِّد نفسك ، قال : هذه حالها كحال السفن بالبحر ، فإذا هاج البحر قليلاً تجد أنّ السفن الكبيرة مثل الجبل ، والقوارب الصغيرة متأرجحة ، هناك شخص يشبه السفينة الكبيرة ، فالموج متلاطم ، وهي شامخة كالجبل ، وأمّا قوارب فأضعف الموج يكاد يقلبها ، فلا تكن قاربًا خفيفاً ، بل كن سفينة شامخة ، ولا تشكُ مصيبتك لأحد ، فإنَّ الله يعلم ويرى ، والله عز وجل يقدر الليل والنهار ، ويعلم إيمانك ، وير ثقتك به سبحانه ، فإذا كان أصابتك مصيبة ، ولم تشكُها لأحد فهذا يؤكد علمك بالله ، علمك برحمته ، وبحكمته ، وبقدرته وبرأفته ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى لا يخيِّب ظنَّك . 3 - ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ * (رواه البخاري عن عمَّار موقوفًا) طبعاً إذا كان الشخص ميسور الحال وأنفق ، فالإنفاقُ كلُّه مقبول ، وهو واللهِ مشكور ، لكن إذا كان دخلُ الإنسان محدودًا ، وجاءه ضيف من بلد آخر ، واعتنى به ، وأكرمه ، فهذا الإنفاق بالإقتار ، وكذلك أنْ يكون له قريب محتاج للمساعدة من أجل عملية جراحية ، وراتبُه محدود ، فأعان قريبَه ، وضغط المصروف ، هذا الذي ينفق بالإقتار ، لا يعلم كم له من الأجر إلا الله ، فالإنفاق من الإقتار ، وكذلك بذل السلام للعالم ، فأنت مصدر طمأنينة للبشر ، لا تُخِفْ أحدًا ، بعض الأشخاص مخيفون ، المرعبون في النار ، شر الناس من اتّقاه الناس مخافة شره ، هذا شخص يخيفك ، إذا قصصتَ عليه حادثةً وأخطأتَ خطأً ، خشيتَ أنْ يفشيَ سرَّك ، فهو مصدر قلق دائمًا ، والنبي الكريم : لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ * (رواه الترمذي) إذا كان دخَل شخصٌ غير مؤمن إلى بيتك فقد يحسدك على بيتك ، وقد يسمعك كلماتٍ مؤلمةً ، وإذا أطعمت واحدًا قد يحسدك أيضًا على طعامك ، إذًا : لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا ، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ ، أكرِّر : ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ ، فلو فرضن أنّ أحدًا بمحل تجاري ، وأعطى أمرًا للصانع ، ونفّذ الأمر ، لكنه كسر شيئًا ما مثلاً ، فإذا كان مؤمنًا، قال : واللهِ الحقُّ عليَّ ، أنا السبب في كسره ، والخطأ منِّي ، لا مِن الصانع ، أمّا إذا كان غير مؤمن فيمطِره بوابل من السباب ، فلما ينصِف الإنسانُ الناسَ من نفسه فهذا عدل و إحسان ، وهذا السلوك المغلوط يقع فيه الأباء مع أبنائهم ، والأزواج مع زوجاتهم ، فلا يكون منصفًا ، بدعوى أنه أبٌ له مكانة ، وزوج يجب أنْ يُطاع ولو أخطأ ، فعلامة المؤمن أنه ينصف الناس من نفسه ، ما دمتَ مخطئًا فاسكت : ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ ، آخر حديث. 4 - ثلاث من الفجور ؛ إمام إن أَحسنت لم يشكر ، وإن أسأت لم يغفر إذا غلطتَ غلطة ما لها حل ، ولا مغفرة ، وإن أحسنت ، وأحسنت وأحسنت يتعامى عن إحسانك ، وكأنك لم تحسن ، فهذه قبيحة ، فإذا كان لرجل صانع ، أو عنده موظف ، عيَّنوه مدير مدرسة ، أو عيَّنوه معلمًا لصف ، وجاء طالب في الوقت ، وهو منظم ومجتهد ، فأثنِ عليه ، وأسمعه كلمة لطيفة ، أو موظف ليس له أيَّة مشكلة ، فابتسمْ بوجهه، وقل له : أسأل الله أن يعطيك العافية ، والِله أنا مسرور منك ، أنت موطنُ اعتزازٍ عندي ، وأنا أثق بإخلاصك ، وأضربك مثلاً للآخرين ، واللهِ يبقى أسبوعًا متأثِّرًا بهذه الكلمة الطيبة ، أمَّا إذا أحسن أحدُهم وتجاهلتَ إحسانَه فقد حطَّمتَه ، لكنْ إذا أحسن فأثنِ على إحسانه ، لكنَّ النبي الكريم يقول : إمام إن أحسنت لم يشكر ، وإن أسأت لم يغفر ، وجار إن رأى خيرًا دفنه ، وإن رأى شرًّا أذاعه ، قد يمضى على جوارك له ثماني سنوات ، ولم تسمع منه كلمة شرٍّ أبدً ، وذات مرة أخطأت خطأً ، فإذا به يفتح عليك السياقات ، إن رأى خيرًا دفنه ، وإن رأى شرًّا أشاعه ، وامرأة إن حضرتك آذتك بلسانها ، وإن غبت عنها خانتك ، ثلاث من الفجور ؛ إمام إن أحسنت لم يشكر ، وإن أسأت لم يغفر ، وجار إن رأى خيرًا دفنه ، وإن رأى شرًّا أشاعه ، وامرأة إن حضرت آذتك بلسانها ، وإن غبت عنها خانتك . والحمد لله رب العالمين ..
[quote]
مقبول حسون الادارة
عدد المساهمات : 2413 تاريخ التسجيل : 08/12/2009
موضوع: ـ الوضوء ( نوا قض الوضوء ) السبت مارس 27, 2010 3:51 pm
ـ الوضوء ( نوا قض الوضوء )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في موضوع الفقه إلى نواقض الوضوء ، ونواقض الوضوء لا نحتاج إلى أن نقف عندها كثيراً ، بل نكتفي بأن نقرأها ، ونشرح بعضها . أولاً : خروج شيء من أحد السبيلين . ثانياً : ينقض الوضوء ولادة من غير رؤية دم . ثالثاً : نجاسة سائلة من غيرهما ، أيْ من غير السبيلين ، والنجاسة السائلة دم أو قيح . رابعاً : قيء طعام ملء الفم ، فالقيء إذا ملأ الفم ينقض الوضوء . خامساً : دم غلب على الريق أو ساواه ، فإذا خرج من الفم دمٌ غلبَ على الريق ، فهذا ينقض الوضوء . سادساً : النوم ، وليس النوم ذاته ينقض الوضوء ، ولكن النوم يضعف سيطرة الإنسان على أعضائه ، فالنوم ينقض الوضوء لغيره ، لا لذاته . سابعاً : إغماء ، وجنون ، وسَكر ، وقهقهة بالغ يقظان في صلاة ذات ركوع وسجود ، والعلماء قالوا : القهقهة وحدها لا تنقض الوضوء ، ولكن الإنسان يتوضأ إذا تقهقه في الصلاة تأديباً له على استخفافه بهذه العبادة العظيمة .
وعشرة أشياء لا تنقض الوضوء : 1ـ ظهور دم لم يسل عن محله ، فلو فَرَضْنا إنسانًا ثقبت يده بدبوس صغير ، فخرجت نقطة دم لم تسل من محلها فهذا الدم لا ينقض الوضوء . 2ـ وسقوط لحم من غير سيلان دم ، فقد تكون بثورٌ في الجلد ، فإذا نزعت هذه البثور لم ينتقض الوضوء . 3ـ ومن مس امرأة ، على المذهب الحنفي يعني امرأة : زوجته ، فإذا مس امرأة أجنبية فإن إسلامه ينتقض ، فمسُّ الرجل امرأته لا ينقض الوضوء ، في المذهب الحنفي ، والإمام الشافعي يقول : مس امرأة ينقض الوضوء ، والتوفيق بينهما ، أن الإنسان إذا مس يد امرأته وشعر بشيء فعليه أن يتوضأ ، وإذا لم يشعر بشيء فلا عليه إذا لم يتوضأ . إذاً : التقليد في المذاهب وارد ، والتلفيق مرفوض ، التلفيق تصَيُّد الرخص في المذاهب ، والتقليد أن تقلِّد المذهب في العلّة التي شرع هذا الحكم من أجلها ، لذلك بعض العلماء قال : اختلاف الأئمة ليس اختلاف حجة وبرهان ، إنما اختلاف بيئة وزمان ، فلو أن الإمام أبا حنيفة رَضِي اللَّه عَنْه وُجِد في زمان الشافعي ، وفي بيئته لانطبقت أحكامُه على أحكام الإمام الشافعي ، فاختلاف الأئمة ليس اختلاف حجة وبرهان إنما اختلاف بيئة وزمان . وشيء آخر : اختلاف العلماء الفقهاء ، اختلاف رحمة ، فاتفاقهم حجة قاطعة ، واختلافهم رحمة واسعة ، و الاختلاف اختلاف غنى . جاءني رجل قبل الدرس يستفتيني في موضوع ، والإمام مالك قال: أحقًّا لو أن الإنسان أقسم بالطلاق ثلاث طلقات في مجلس واحد لا تنعقد إلا طلقة واحدة ، نعم ، لأن الثانية والثالثة تأكيد للأولى ، فوقع طلقة واحدة ، فاختلاف المذاهب رحمة واسعة ، جاء عالم آخر قال : إن لم تكن الزوجة طرفاً في الموضوع ، وكان زوجها يكره فراقها ، كما يكره مفارقةَ دينه ، فإن هذه اليمين لا تنعقد ، لا ينوي الطلاق ، ولا يقصد الطلاق إطلاقاً ، أراد أن يردعها ، فإنّ هذا الطلاق هو المعلق ، فهناك طلاق منجز ، وطلاق معلق ، وعلى كلٍ اختلاف الأئمة رحمة واسعة . 4ـ وتمايل نائم ، يسمع ما يقال ، فما دام الذي يغمض عينه ويسمع ما يقال فوضوءه لم ينتقض ، طبعاً في حكم : " ونومُ مصلٍّ ، المصلي ينام ؟ فلو فرضنا إنسانًا متعبًا تعبًا شديدًا ، ، وغفل ثواني وهو في القعود فلا ينتقض وضوؤه ما دام مصلياً ، وسوف نتابع هذه الموضوعات في درس قادم إن شاء الله تعالى . * * *
كتاب إحياء علوم الدين وسنقوم فيما يلي بمتابعة فصول مختارة من إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رَضِي اللَّه عَنْه ، ولهذا الإمام كلمة في العلم يقول : العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يُعْطِك شيئاً . تحدثنا في الدرس الماضي عن آفات العلم ، وقد بيَّن الإمام الغزالي أن للعلماء المخلصين؛ وهم علماء الآخرة علامات ، فمن هذه العلامات ألاّ يطلب العالم الدنيا بعلمه ، فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها ، وكدورتها ، وخطورتها ، وانصرامها ؛ أيْ زوالها ، وأن يدرك عظم الآخرة ودوامها ، وصفاء نعيمها ، وجلالة ملكها ، ويعلم أنهما متضادتان ، والموضوع دقيق ، وهذه آيات تقول :
( سورة الرحمن : 46 ) .
( سورة البقرة : 201 ) .
( سورة النحل : 97 ) .
( سورة الجاثية : 21 ) .
( سورة السجدة : 18 ) .
( سورة القصص : 61 ) . من كل هذه الآيات والأحاديث يتضح أن المؤمن سعيد في الدنيا ، فكيف يفسر قول عليه الصلاة والسلام : مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى *. [ أخرجه أحمد عَن أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ ] هذا الحديث قد يحمل على محمل آخر ، هناك في اللغة العربية أسلوبُ استفهامٍ ليس فيه أداة استفهام ، وسيدنا عمر رَضِي اللَّه عَنْه فيما يروي التاريخ حينما رأى امرأة جائعة مع أطفالها، ذهب إلى بيت مال المسلمين ، وقال لخادمه : احمِل على ظهري كيساً ، فقال : أحمله عليك ، أم عنك ، فقال له : احمله علي ، أنت تحمل وزري يوم القيامة ، كلمة "أنت تحمل وزري يوم القيامة " ، هذا كلام بحسب الظاهر تقريبي ، لكن صياغة هذا الكلام ، والسياق العام يؤكد أنه استفهامي ، وكذلك سيدنا موسى حينما التقى بفرعون :
( سورة الشعراء : 20 ) . لا يمكن أن يستقيم السياق على أن تفهم الجملة فهماً تقريرياً ، وهل يُعقل أن يكون النبي ضالاً ؟ " قال فعلتها إذا وأنا من الضالين" يجب أن نفهم هذه الآية فهماً على صيغة الاستفهام ، بعض العلماء قالوا : من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ؟ لا " ولمن خاف مقام ربه جنتان " لكن من طلب الدنيا لذاتها ربما كان هذا فيه ضرر لآخرته ، فعلى هذا المحمل نحمل هذا القول الطويل ، يقول الإمام الغزالي : لو يعلم أنهما كالضرتين ، مهما أرضيتَ إحداهما أسخطتَ الأخرى ، وأنهما ككفتي ميزان ، مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى، وكأنهما كالمشرق والمغرب ، مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر ، وأنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ ؛ فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلئ يفرغ الآخر ؛ فإنه من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها ، فهو فاسد العقل . في أثناء أدائنا العمرة ، لي قريب قال لي : انظر إلى هذا البناء ، بناء يناهز ثلاثين أو أربعين طابقًا ، ما وقعت عيني على بناء أجمل منه ، قال : هذا البناء توفي صاحبُه قبل افتتاحه بأسبوع ، وقيل : هذا البناء كلف صاحبه عشرات الملايين ، وتوفي عن عمر لا يزيد عن سبع وأربعين سنة ، وكان طويل القامة ، وضع في قبر صغير فلم يتسع القبر له ، فضغطوه ضغطاً حتى جاء رأسه ملتويًا مع رقبته ، والبيت الذي كان يسكنه يزيد ثمنه عن عشرات الملايين ، وهكذا حكمة الله عز وجل ، أن ينزل في قبر يضيق عنه طولاً ، فالإنسان حينما يتيقن من زوال الدنيا يلتفت إلى الآخرة ، فإذا طمع فيها فقد أهلكته وهلك . من أقوال السلف الصالح : "إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي ، أن أحرمه لذيذ مناجاتي "، وأحد العلماء الكبار توفي ، فشاهده بعض تلامذته في المنام ، فقال له : يا سيدي ما فعل الله بك ؟ يبدو أن هذا العالم له شأن كبير ، ومؤلفات خطيرة ، وكتب ، وآراء ، وإنتاج علمي ، وسمعة ، وصيت ، وهو نجم متألق ، فقال له يا بني : طاحت تلك العبارات ، وذهبت تلك الإشارات ، ولم يبق إلا ركيعات ركعناها في جوف الليل . فليحذر المرءُ أنْ يصيبه غرور ويقع في غشاشة نفسه ، إذا كان لك صلة بالله حقيقية مبنية على استقامة تامة ، وعلى عمل صالح فهنيئاً لك ، وما سوى ذلك فقد يملأ الإنسان الآفاق بسمعته ، وعند الله لا يساوي جناح بعوضة ، طاحت وذهبت تلك الإشارات ، ولم يبق إلا ركيعات ركعناها في جوف الليل ، قِفْ في الصلاة ، وانظُرْ إلى قلبك ، هل لك صلة بالله عز وجل ، أَلك التفاف نحوه ، وهل تدمع هذه العين لآية تقرؤها ، هل لك عمل خالص لوجه الله لا تبتغي به أحداً إلا رضاء الله عز وجل ، إن كنت تخشى على نفسك بعض الشرك الخفي فاكتم عملك ، إذا استيقظت قبل صلاة الفجر ، وصليت قيام الليل ، ولم تحدث بهذه الصلاة أحداً ، هذا مما يؤكد لك بأنك مخلص ، فإن فعلت عملاً ولم تحدث به أحداً ، فهذا مما يؤكد لك بأنك مخلص، فالإخلاص له طريق ، عبادة في جوف الليل والناس نيام ، وعمل صالح لا يبغي به أحدًا من الناس ، وهذا يؤكد إخلاصك لله عز وجل ، وكلما تعاظم شعورك بإخلاصك كلما ازداد إقبالك على الله عز وجل ، وما أقبل عبدٌ بقلبه على الله عز وجل إلا جعل قلوبَ المؤمنين تنساق إليه بالمودة والرحمة ، وكان اللهُ له بكل خير أسرع . فالإنسان خلاصتُه علاقتُه مع الله عز وجل ، وَحِّدْ ، وإياك أن تشرك ، فإنَّ الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء ، وأدناه أن تحب على جور ، وأن تبغض على عدل ، فإذا نصحك شخصٌ نصيحة ، وهو محق فيها فقلتَ له : أنت مخطئ ، وغضبت ، فقد أشركتَ نفسك مع الله ، أو أنّ شخصًا له انحراف وأحببته على انحرافه، فهذا شرك ، فإذا أحببت إنساناً مع انحراف فهذا أحد أنواع الشرك الخفي . عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ : أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ، قَالَ : قُلْنَا بَلَى، فَقَالَ : الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ *. ( أخرجه ابن ماجه ) وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ بَكَى فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ قَالَ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ فَذَكَرْتُهُ فَأَبْكَانِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ قَالَ نَعَمْ أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ * (رواه أحمد) فهذه انتهى وقتها ، هذه لن تعود إلى قيام الساعة ، ولكن شهوة خفية ، وأعمال لغير الله، فإذا الإنسان آتاه اللهُ عز وجل رقابة صارمة على نفسه ، فقد يلاحظ أحيانًا أنّ له أعمالاً يبتغي فيها غير وجه الله ، بل يريد وجه الناس ، ويُلاحِظ أنّهم لم يشيروا إلى عمله الصالح فينزعج فمثَلُه كمثلِ طبيبٍ عمِل عمليةً جراحيةً ، وبذلَ فيها وقتًا كبيرًا ، وضحّى ، وما تقاضى شيئًا ، فإذا لم يُكتب عنه في الصحيفة تألَّم ، يقول : يكتبون ولو كلمة عني ، وعن مهارتي في العملية ، فحينما يراقب الإنسان نفسه مراقبة صارمة يجد نفسَه أنّ له أعمالاً كثيرة ظاهرُها حسن، وتنطوي على شرك بالله عز وجل ، والله سبحانه وتعالى يقول : أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ، لذلك :
( سورة يوسف : 106 ) . قد تقيم وليمة لا تبتغي بها وجه الله ، هناك أدعية كنت أقولها لكم دائماً : اللهم إنا نعوذ بك أن نقول قولاً في رضاك نلتمس أحداً سواك ، اللهم إنا نعوذ بك أن نتزين للناس بشيء يشيننا عندك ، اللهم إنا نعوذ بك أن يكون أحد أنفع بما علمتنا منا ، اللهم إنا نعوذ بك أن نكون عبرة لأحد من خلقك ، فلا نكون نحن قصة ، يتعلمُ الناس فينا ، إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي ، أنْ أحرمه لذيذ مناجاتي . وتروي كتب الأثر أن مؤمنًا ارتكب مخالفة فخجلت نفسه وأحجمت ، وعاش في جفوة طويلة ، وهو ينتظر أن يعاقبه الله عز وجل . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ *. ( أخرجه البخاري ) وبعدُ فكلُّ واحد منا ، حسب ما سمعتم أنه ما من عثرة ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم ، وما يعفو الله عنه أكثر ، صار عنده قناعة أنّ كل شيء يصيبه بسبب تقصير ، أو ذنب ، أو مخالفة فهذا وقع في مخالفة فانتظر الجواب ، كطالب اقترف ذنبًا ومرَّ بالأستاذ في مكان ضيق فإنّه يحاول أنْ يتوارى ، كمَن يتوقع أنه سيأكل صفعةً على قفاه ، وأحسَّ لها فتجمع ، فهذا المؤمن ارتكب مخالفة وينتظر من الله العقوبة فلم يحصل معه شيء ، مرَّ يومٌ ، وثانٍ ، وثالث ، ولم يحصل له شيء ، وما أحد حاسبه أو أساء له ، ولا أحد أهانه ، وما فقد شيئًا ، تعجب وهو ينتظر العقوبة من الله عز وجل ، ويظهر أنه في ساعة صفاء قام وناجى ربَّه ، قال يا ربي لقد عصيتك ولم تعاقبني ، فقال عبدي قد عاقبتك ولم تدرِ ، ألم أحرمك لذة مناجاتي ، ألا تكفيك هذه ، تريد أخطر ، يكفيك هذا ، فهذه الجفوة لأسبوعين أو ثلاثة ، وصلاةٌ شكلية ، وعباداتٌ شكلية ، وقد شعر بضيق ، وانقباض نفسٍ ، وضاقت عليه الأرض على رحبها ، إنّها عقوبة صارمة .
( سورة التوبة : 118 ) هذا حال يكفي ، حال الجفاء صعب ، لذلك بعض قال الشعراء : فما حبنا سهل و كل من ادَّعـى سهولته قلنا له قـــد جــهلتنا فأيسر ما في الحب بالصب قتله وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنا
وقال أحدهم : لو قال فيهن قف على جمر الغضا ، وهو أشد أنواع الجمر ، لو قال محبوبه : قف على جمر الغضــــــا لوقفت ممتثلاً و لم أتوقـــف أو كان من يرضى بخدي موطئاً لوضعته أرضاً ولم أستنكــف
وقال آخر : هم الأحبة إن جاروا وإن عدلوا فليس لي عنهم معدل و إن عدلوا والله إن فتتوا في حبهم كـبدي باق على حبهم راضٍ بما فـعلوا
لا تنظر إلى نفسك حالَ الرخاء ، ففي الرخاء كلنا نحب الله عز وجل ، والبطولة إذَا لاح شبحُ مصيبة ، أو ضائقة ، أو مشكلة ، أو أصاب شيءٌ الجسد ، أو أصاب الدخل ، أو الأسرة ، أو نقص في الثمرات ، في الطعام ، في مِثل هذه الظروف إذا قلت : الحمد لله رب العالمين ، فأنت مؤمن وربِّ الكعبة ، لأنّ الإمام علي كرم الله وجهه قال : الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين "، فالبطولة أن تحب الله وأنت في وضع صعب النبي الكريم علمنا ، فَعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ *. [ أخرجه مسلم ] أما محبُّ الدنيا فيتكبر في الرخاء ، ويصرخ في الشدة ، فذو دعاء عريض ، في الرخاء يشعر أنّ الأرض لا تسعه ، فالمتكبر أحمق ، وجاهل ، وفي الشدة تجده يئوسًا ، قنوطًا .
( سورة الإسراء : 83 ـ 84 ) . يا ذا العزة والجبروت ، يا ذا الملك والملكوت ، يا من حفظت موسى بالتابوت ، صندوق في النهر ، ونجيت يونسَ من بطن الحوت ، وحفظت الحبيب محمد بنسيج العنكبوت ، والله كلمة لو أقرؤها مائة مرة لا أشبع منها ، يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، فإذا كنت معه مستقيمًا ، وإذا كان قلبك عامرًا بذكر الله ، فينبغي ألاّ تخاف مِن أيِّ جهة في الأرض ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما .
( سورة المائدة ، 12 ) . هذه المعية ليست مطلقة ، بل مشروطة " إني معكم " كن لي كما أريد أكن لك كما تريد ، كن لي بما أريد ، ولا تقل بما يصلحك ، أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد ، كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد ، أتعبتُك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد ، فإذا كان الإنسان يتعامل مع هذه المعاني ، يجد علاقته كلها مع الله عز وجل ، ففي الأرض مليون جهة ، تريد أنْ ترضي زوجتك فتغضب أمُّك ، أو بالعكس ؛ ترضي الوالدة فتغضب الزوجة ، ترضي هذا الابن فيسخط الثاني ، وإذا زرت هذه البنت سخِطتْ الثانية ، إنْ أرضيتَ في الوظيفة مَن هُم أعلى منك أسخطتَ الله عز وجل ، إنْ بَعتَ بسعر معقول فلا تربح ، وإنْ أردتَ أنْ تربح أغضبتَ الله عز وجل ، ففي الحياة أشياء متعاكسة تماما ، وأشدُّ شيءٍ راحةً وأسهله أنْ ترضي الله وحده ، فاعمل لوجه واحد يكفِك الوجوه كلها ، وفي قول آخر : من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها، وفي قول ثالث : ومن أصبح وآخر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه ، وجمع عليه شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، وأوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمك فاخدميه ، ومن خذلك فلا تخذليه ، إنّ أدنى ما أصنع بالعالِم إذا آثر شهوته على محبتي أنْ أحرمه لذيذ مناجاتي ، يا داود لا تسأل عني عالمًا قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي ، يقول مثلاً : ماذا جدَّ معك ؟ أَشتريتَ بيتًا ؟ أم تزوجتَ ؟ وكم دخلك ؟ وما فعلت ؟ أذهبت إلى المحل الفلاني ؟ هل سافرت ؟ أو خرجتَ إلى نزهة ؟ يدعوك إلى الدنيا ، فيصدك عن طريق محبتي ، أولئك قطاع الطريق على عبادي ، فإذا قابلتَ محبًّا للدنيا فهذا من قُطَّاع الطريق على عبادي ، يا داود إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً ، لأنك تسعد بها ، يا داود من رد إليَّ هارباً أكسبته جهبذا ، شخص شارد ضائع ، يعصي الله ثم جئتَ فأكرمته ، وأقنعته ، ودللته وخدمته ، وجئت به إلى الدرس ، وتحمَّلته وأعنتَه ، وذاكرت معه الدرس حتى صارَ مستقيمًا ، استقامة تامة ، بهذا فقد آويتَ لله هاربًا ، فما قولك إذا كان عند شخصٍ ابنٌ غالٍ ، وضاع هذا الابن ، فوجده شخص يعرف أباه ، فأكرمه وأطعمه ، وألبسه ، وردّه إلى أبيه ، فسيقول له الأب : أنت فعلتَ معي معروفًا لا أنساه حتى الموت ، وكثيرًا ما كنت أضرب مثالاً ؛ لو فرضنا ضابطًا في الجيش ، برتبة عالية ، لواء مثلاً ، وعنده مجنَّد ، وهذا المجند رأى ابن هذا الضابط الكبير يغرق في النهر ، فألقى بنفسه في النهر ، وكان على وشك الموت فأنقذه ، وأكرمه ، وردَّه إلى أبيه ، ألا يستطيع هذا المجند أن يتجاوز التسلسل ، ويدخل على هذا الضابط الكبير في كل لحظة يشاؤها ، هذه هي الخلاصة كلها .
( سورة الكهف : 110 ) . إذا أردتَ مثلاً أنْ تدخل إلى أنْ تدخل إلى موظَّف ؛ مدير تربية ، مدير معمل ، إلخ … فلا بد من انتظار ، ومع الانتظار أسئلة ، ما اسمك ، وما الموضوع ، تعالَ غدًا ، فالمقابلة ليست سهلة ، أمّا ربنا عز وجل فيقول : " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا " اعمل بهذه الوصفة ، فباب الله مفتوح على مصراعيه ، والدخول بثمن ، وثمنه العمل الصالح ، وأبواب الأعمال الصالحة : إنكم لن تسعوا الناس بأعمالكم ، العمل يحتاج مالاً ، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ، فسعوهم بأخلاقكم ، الكلمة الطيبة عمل صالح ، وأن تتبسم في وجه أخيك ، وأن تلقاه بوجه طيب عملٌ ، أو أنْ تردَّ الضال إلى أرضه عمل صالح ، وأن ترشد الغريب عمل صالح ، وأن تميط الأذى عن الطريق عمل صالح ، وأن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي عمل صالح ، وأن تعود مريضاً عمل صالح ، وأن تأمر بالمعروف ، وأن تنهى عن المنكر ، وأن تعلم الناس آية من كتاب الله ، فأبواب الأعمال الصالح مفتوحة على مصاريعها ، وهي ثمن اللقاء مع الله عز وجل. قال : فلان ذو قلب ميّت ؛ يعني أنّ موت القلب طلبُ الدنيا بعمل الآخرة ، وقال يحيى بن معاذ : إنما يذهب بهاءُ العلم والحكمة إذا طلب بهما الدنيا " ، العلم والحكمة لهما بهاء ، وهذا البهاء يذهب إذا طلب بهما الدنيا ، وقال عمر رَضِي اللَّه عَنْه : إذا رأيتم العالم محباً للدنيا فاتهموه على دينكم ، فإن كل محب يخوض فيما أحب "، وقال رجل إلى أخ له : "إنك قد أوتيت علماً ، فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب ، فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم "، ويحيى بن معاذ الرازي رحمه الله يقول لعلماء الدنيا : يا أصحاب العلم ، قصوركم قيصرية ، وبيوتكم كسروية ، وأثوابكم ظاهرية ، وأخفافكم جالوتية ، ومراكبكم قارونية ، وأوانيكم فرعونية ، ومآثمكم جاهلية ، ومذاهبكم شيطانية ، فأين الشريعة المحمدية ؟ . قيل لبعض العارفين :"أترى أنّ من تكون المعاصي قرة عينه لا يعرف الله عز وجل"؟ إطلاقاً ، قد يجلس في سهرة وفيها معصية ، فيها سرور بزعمه ، وفيها اختلاط ، يخوض في بحر الغيبة والنميمة ، والغمز واللمز ، ثم قام مرتاحًا ، ونام بكل راحة ، واستيقظ صباحًا مسرورا ، وقال : واللهِ البارحة سهرنا سهرة لا أنساها ، فما دام مرتاح النفس بالمعصية ، فهو لا يعرف الله تعالى أبداً ، هذا لو كان يعرف الله قليلاً لنام متألمًا على هذه المعصية ، لكنّه ما دام لا يتألم فليس به إحساس كالمؤمنين .
( سورة الأنعام : 44 ) . الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ، فقال هذا العارف بالله : لا أشك أن من تكون الدنيا عنده آثر من الآخرة فإنه لا يعرف الله تعالى ، وقال بعضهم ": لا تظنن أن ترك المال يكفي في اللحوق بعلماء الآخرة فإن الجاه أضر من المال " ففي الحياة شهوات غير المال ، الوجاهات شهوات أيضًا يحرص الناس عليها ، وعندما تموت من قلبِ الإنسان كلُّ الشهوات المنحرفة ، وكل أنواع الشرك ، عندئذٍ يتقبَّله الله عز وجل . كان بِشرٌ يقول : "أنا أشتهي أن أحدِّث ، لذلك لا أحدِّث أحداً ، ولو ذهبت عني شهوةُ الحديث لحدَّثتُ "، هذا هو الإخلاص ، وما دمتُ أشتهي أن أحدِّث فلن أحدث أبداً ، فإذا ذهبت عني شهوةُ الحديث حدَّثتُ ، وقال هو وغيره :" إذا اشتهيت أن تحدث فاسكت ، فإذا لم تشتهِ فحدِّثْ " . قال سهل رحمه الله : " العلم كله دنيا ، والآخرة منه العمل به " ، العلم دنيا ، هذا معه مال ، هذا أثاث بيته فخم ، وهذا متعلِّم علمًا ، يتيه به على الناس كالطاووس ، فالعلم كله دنيا ، والآخرة منه العمل به ، والعمل كله هباء ، إلا الإخلاص . وقال بعضهم : "الناس كلهم موتى إلا العلماء ، والعلماء سكارى بعلمهم ، إلا العاملين ، والعاملين كلهم مغرورن إلا المخلصين والمخلص على وجل حتى يدري ماذا يختم له به ". يقول النبي عليه الصلاة والسلام : ولا أدري ما يفعل بي ، يعني هو صلى الله عليه و سلم في وجل ، وكل إنسان لا يخاف ، ولا يكون قلقاً ، بل هو مطمئن بالدنيا ، فهذا في غفلة و ضياع، فالله سبحانه وتعالى لا يجمع على عبده أَمْنَيْنِ وخَوفَيْنِ ، فإنْ أمنه في الدنيا خافه يوم القيامة ، وإن خافه في الدنيا أمنه يوم القيامة ، ومن علامات الإنسان المخلص ، أنه قلق ، يخاف ألاّ يكون مخلصاً ، ويخاف ألا يكون موحِّداً ، يخاف أن يكون عمله مشوباً بنية لا ترضي الله ، وما دام في قلق ، بخ بخ فذلك محض الإيمان ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، لا يَتَعَلَّمُهُ إِلا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا *. [ أخرجه أبي داود ] . لي قريب توفي منذ زمنٍ ، فذهبنا لإجراء المعاملة ، آلمني كثيرًا أنّ على أبوابِ مكتبِ دفنِ الموتى قراء كثيرون ، وكلهم يرجو ويتوسل أنْ تكلِّفه بقراءة القرآن في المساء ، ويقول لك : لباس موحد ، وأصوات عذبة ، يحاول أنْ يغريك ، سبحان الله ، كتاب الله ينزل إلى هذا المستوى عند هؤلاء ، فَلْيَبْحَثْ الإنساُن عن أيِّ عملٍ آخر ، فهذا كتاب الله ، إنه شيء مقدس ، وإنْ كان العلماء أجازوا أن يأخذ الإنسان أجراً على كتاب الله ، لأنه كالمعلِّم قد تفرَّغ للتعليم ، وهو يعلم الأطفال كتابَ الله ، فمِن أين يأكل إنْ لم يتقاضَ أجرًا ؟ لذلك أجاز العلماء له أخذ الأجرة على ذلك ، لكن أن يرجوَ أحدُهم ، ويلحّ ، ويطالب ، ويتحدث عن ميزاته ، ويحسد أخاه الذي كانت هذه المسائية من حصته ونصيبه ، ويتهمه بأشياء كثيرة ، هذا شيء مؤلم ، فكتاب الله ينبغي أن يكون في الأوج . وهذا خبر آخر : إن العبد ليُنشَر له من الثناء ما يملأ ما بين المشرق والمغرب ، وهو لا يزن عند الله جناح بعوضة ، فهذه الأحاديث والأقوال يجب أن تُؤخذ مأخذ الجَدِّ ، فعلى الإنسان أنْ يراقب نفسه ، ويراقب قلبه ، ويتوخى الإخلاص ، أخلص دينك يكفِك القليلُ من العمل، درهم أُنفِق في إخلاص خيرٌ من مائة ألف درهم أُنفِق في رياء ، هذه الصفة الأولى ؛ أنْ يقصد بعلمه اللهَ والدارَ الآخرة ، وألاَّ يقصد العالِمُ الحقُّ بعلمه الدنيا . الصفة الثانية : ومنها ألاّ يخالف فعلُه قولَه ، بل لا يأمر بالشيء ما لم يكن هو أولَ عاملٍ به ، قال تعالى :
( سورة البقرة : 44 ) .
( سورة الصف : 3 ) .
( سورة هود : 88 ) .
( سورة البقرة : 282 ) .
( سورة البقرة : 233 ) .
( سورة المائدة : 108 ) . وفي بعض الأقوال : يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحيِ مني"، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ ، قَالَ : قُلْتُ مَنْ هَؤُلاءِ ، قَالُوا : خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا يَعْقِلُونَ *. [ أخرجه أحمد ] . وقال عليه الصلاة والسلام :" هلاك أمتي عالِم فاجر ، وعابد جاهل ، وشر الشرار شرار العلماء ، وخير الخيار خيار العلماء "، يعني أنّ العلماء الورعين في القمة ، والعلماء غير العاميلن بعلمهم في الحضيض ، ليس ثمَّةَ حلٌّ وسطٌ ، إما في القمة ، أو في الحضيض ، وقد قال الإمام الأوزاعي رحمه الله : شكت النواويس - بعض أنواع الطيور - ما تجد من نتَن جِيَفِ الكفار ، فأوحى الله إليها ، أنّ بطون علماء السوء أَنْتَنُ من هؤلاء ، ويُروَى أن حجرًا ضجَّ إلى السماء ، وقال : يا رب عبَدتُك خمسين عاماً ، تضعني في مرحاض ، فقال له : تأدَّبْ ، إِذْ لم أجعلك في مجلس قاضٍ ظالم ، فَلأَنْ يكون الحجرُ في مرحاض أشرفَ له ألف مرة من أن يكون في مجلس قاضٍ ظالمٍ . يقول أبو الدرداء رَضِي اللَّه عَنْه : "ويلٌ لِمَنْ لا يعلم مرة ، وويلٌ لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات "، لمن لا يعلم مرة ، لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات ، وقال الشعبي : يَطَّلع يومَ القيامة قومٌ مِن أهل الجنة على قوم من أهل النار ، فيقولون لهم : ما أدخلكم النار ؟ ونحن إنما أدخلنا اللهُ الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم إيانا ، نحن بالجنة قاعدين ، والفضل لكم ، أنتم علمتمونا، أنتم وجهتمونا ، أنتم هذّبتمونا ، وأمرتمونا بالصلاة فصلينا ، وأمرتمونا بغض البصر فغضضنا بصرنا ، نحن الآن في الجنة ، لماذا أنتم في النار ؟ فقالوا : إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله ، وننهى عن الشر ونفعله ، صار عملهم وظيفة ، ولقد بلغني عن بعض المطوّعين أنّهم يضربون الناسَ لتخلُّفهم عن الصلاة ، وهم لا يصلون ، وأبعدُ الناس عن الموعظة مَن يعمل في تجهيز الأموات ، فقد يسرق شرشفًا أو أيَّ غرض فيأخذه خلسةً ، ألاً يعتبِر وهو يدفن في اليوم أكثرَ مِن ميت ، فأين العبرة و العظة من نفسه ؟!. وقال حاتم الأصم رحمه الله : " ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علَّم الناسَ علماً فعمِلوا به ، ولم يعمل هو به ، ففازوا بسببه وهلك هو " . وقال مالك بن دينار : " إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب ، كما يزل القطر عن الصفا "، القطر حجر أملس جاءه القطر جل عنه ، كذلك الموعظة من إنسانٍ غيرِ عاملٍ بموعظته ، فلا تؤثر في القلوب . وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله :" مررت بحجر بمكة مكتوب عليه ، اقلبني تعتبر ، قال فقلبته ، فإذا عليه مكتوب أنت بما تعلم لا تعمل ، فكيف تطلب علم ما لم تعلم " . وقال ابن السماك رحمه الله : " كم من مذكِّر بالله ناسٍ لله ؛ وكم مخيفٍ بالله جريء على الله ، وكم من مقرب لله بعيد منه ، وكم من داع إلى الله فارّ من الله ، وكم من تال لكتاب الله منسلخ عن آيات الله ". وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله :"لقد أعربنا في كلامنا فلم نلحن ، ولحنا في أعمالنا فلم نعرب "، وقال الأوزاعي : " إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع ". الآن نتكلم بشيء في قواعد اللغة و إعرابها ، يذهب الخشوع كله ، أحيانًا تجد الإنسان ينهمك في معلومات ظاهرية ويدقق بها ، ويحفظها ، ويعلمها ، وليس مِن خشوع في قلب صاحبه، لذلك أكثرُ المجالس بركةً المجلسُ الذي فيه خشوعٌ للقلب ، وهذه نصيحة لوجه الله ، فإذا كنتَ في مجلس ؛ سهرة مثلاً ، وتتكلم عن الله عز وجل فلا تختم الجلسة بالدنيا ، فكل هذه البركة تذهب ، اجعلْ آخرَ المجلس ذكرًا ، ولينفضّ المجلسُ على طعم طيب ، وعلى سرور ، واستبشار، وتفاؤل . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ ، إِلا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً *. [ أخرجه أبي داود ] وبعد ؛ فجرِّبْ أيَّ موضوع آخر مؤلِم مقنِّط ، يدعو إلى اليأس والقنوط ، والألم ، والضيق، والحسد ، والتنافر ، ثم اذكر آية أو حديثًا ، أو قولاً فيه عِظة ، تجد نفسك قد انتعشت .
سيدنا عمر رَضِي اللَّه عَنْه قيل له في مجلس من مجالسه : واللِه يا أمير المؤمنين ما رأينا رجلاً بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضلَ منك ، وسيدنا عمر تعلمون ما ورد عن رسولِ الله فيه : " لو كان نبيا بعدي لكان عمر " ، لكنّ سيدنا عمر تفرَّس في الحاضرين كلهم ، واستعرضهم واحدًا واحدًا ، ينتظر منهم أيسكتون أم يتكلمون ، وفي أثناء استعراضه لوجوههم تكلم أحدهم ، وقال : لا واللهِ يا أمير المؤمنين ، لقد رأينا من هو خير منك ، فقال له ومن هو ؟ قال : أبو بكر الصديق ، فقال سيدنا عمر للحاضرين : لقد كذبتم جميعاً وصدق هذا ، علّمهم قولَ الحق ، ثم قال : والله إن لأبي بكر ريحاً أطيب من ريح المسك ، وكنت أنا أضل من بعيري ، حين كان لأبي بكر ريح أطيب من ريح المسك كنت أنا أضَّل من بعيري ، لقد كذبتم كلُّكم وصدق هذا ، لو أنهم سكتوا جميعاً لأغلظ لهم القول ، فسيَرُ الصحابة ، سبحان الله ، تنعش القلوب ، وتعطِّر المجالس ، إنّه نموذج فَذٌّ من الكمال الإنساني ، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام : علماء حكماء ، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء . روى مكحول عن عبد الرحمن أنه قال : حدثني عشرة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا : كنا ندرس العلم في مسجد قباء ، إذْ خرج علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: تعلَّموا ما شئتم أنْ تعلموا ، فلن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم " ، تعلّم فالأجر لن يكون حتى تعمل بما علمت . وقال عمر رَضِي اللَّه عَنْه : " إذا زل العالم زل بزلته عالم من الخلق " ، وقال أيضاً : "ثلاث بهن ينهدم الزمان ؛ إحداهن زلة العالم ". وقال ابن مسعود رَضِي اللَّه عَنْه : " أنزل القرآن ليعمل به ، فاتخذتم قراءته عملا " . وَرَدَنِي سؤالٌ يومَ الجمعة تسأل فيه أختٌ مؤمنة ؛ إذا سَبَّ الإنسانُ الدينَ فما حكمه في الإسلام ؟ طبعاً إذا سبَّ الدين ولم يتُب فهذا ارتداد ، وحول هذا الموضوع بحث لطيف ، بوُدِّي في درس آخر أن أقر لكم بعض ما فيه ، كأنْ يرميَ الإنسانُ المصحفَ على الأرض فكأنما سبَّ الدين ، وارتدّ عن دينه ، ولدينا حوالي ثلاثين إلى أربعين حالاً ولفظًا إذا قالها الإنسان أو فعلها فقد كفر ،وسببُ سؤال الأختِ أنها سمعت مني سابقاً أنه إذا سبَّ الإنسانُ الدينَ تطلَّق منه زوجته ، وعليه أن يجدِّد إسلامه ، وهذا صحيح ، إلا إذا كان هذا السب في ساعة غضب ، وتاب فوراً ، فهذا الحكم عندئذٍ لا يطبق عليه ، أما إذا سبَّ الدين ، وبقيَ مصرًّا ، فإنّه قطعاً تطلّق منه زوجته ، وكأن الإنسان بهذه الشتيمة قد رسب في الامتحان كله ، وعليه أن يتوب إلى الله عز وجل ، وأن يجدِّدَ إسلامه ، قال بعض العلماء : القاضي يمهل هذا الذي يسب الدين ثلاثة أيام ، فإن تاب ورجع إلى الله عز وجل فبها و نعمت ، وإلا فهناك سلسلة إجراءات ، منها أنه يفقد أملاكه ، وتنزع منه ، لأنّه أصبح كافرًا مرتدًّا ، إنّ الإنسان قد يغضب ، ولكن عليه ألاّ يتجاوزَ الحدود مهما اشتدَّ غضبُه ، فهذه مقدسات ، والله عز وجل له عقوبات أليمة ، كان رجلٌ يصلي ، فقال له شخص آخر : لِمَ تصلي ؟ فهذه اعتقاداتٌ قديمة ، نحن الآن في زمن التقدُّم والعلم ، وإذا كان الله موجودًا فليثبتْ وجودَه ، وأنا سأمهلك ثلاثة أيام ، فهذا الشخص لم يعرف سبيل الإجابة ، لكنّ الشخص الذي تحدّى لم يمضِ يوم أو يومان حتّى فَقَدَ بصرَه كلَّه ، فالله عز وجل أعطى المهلة للثاني ، وكان من الممكن أنْ يموت ، لكن اللهَ أعطاه مهلة أوسع ، فبكلمة كبيرة قد يفقد الإنسانُ إسلامه كلّه ، وإيمانه كله ، لذلك جوابًا عن السؤال أقول : إنه من سبّ الدين ولم يتُب ، ففي الشرع إجراءات تلاحقه ، لكن إذا استرجعَ رأساً وتاب إلى الله عز وجل ، واغتسل وتشهد مرة ثانية ، وكفَّرَ عن هذه الكلمة بصدقة كبيرة ، وتاب توبة نصوحًا ، فالحكمُ بطلاق زوجته لا ينسحب عليه ، والله أعلم. والحمد لله رب العالمين ..
[quote]
مقبول حسون الادارة
عدد المساهمات : 2413 تاريخ التسجيل : 08/12/2009
موضوع: ـ الغسل : فرائضه ـ سننه ـ ندبه . السبت مارس 27, 2010 3:56 pm
ـ الغسل : فرائضه ـ سننه ـ ندبه .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ؛ انتهينا من الوضوء وها نحن ننتقل إلى الغسل ، ففي الاغتسال يُفرض فيه أحدَ عشرَ شيئاً ، أولاً غسل الفرج والأنف والبدن مرةً واحدة ، وداخل المضفور من الشعر ، لا المضفور من شعر المرأة لحديث أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ ، قَالَ : لا إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِينَ عَلَى رَأْسِكِ ثَلاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ " أما الرجل فيجب أن يصل الماء إلى أصل شعره بخلاف المرأة ، وعلى الرجل في الغسل أن يسري الماء إلى بشرة اللحية ، وبشرة الشارب والحاجب ، هذا مما يفترض من الغسل. ويسن في الاغتسال اثنا عشر شيئاً ، الابتداء بالتسمية ، والنية ، وغسل اليدين إلى الرسغين ، وغسل نجاسةٍ إن وجدت ، وغسل الفرج ، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ، ويمسح الرأس، ولكنه يؤخر غسل الرجلين إن كان يقف في محل يجتمع فيه الماء ، ثم يفيض الماء على بدنه ثلاثاً ، ولو انغمس في الماء الجاري أو مكث فقد أكمل السنة ، ويبتدئ برأسه في صب الماء، ويغسل بعدها منكبه الأيمن ، ثم الأيسر ، ويدلك جسده . وآداب الاغتسال هي آداب الوضوء ، إلا أن المغتسل لا يستقبل القبلة ، لأنه يكون غالباً مكشوف العورة ، وكره فيه ما كره بالوضوء ، و يفرض الاغتسال من الجنابة ، ويسن بأربعة مواضع ، لصلاة الجمعة ولصلاة العيدين ، وللإحرام ، وللحاج في عرفة بعد الزوال . ويندب الاغتسال في ستة عشر شيئاً ، لمن أسلم ، ولمن بلغ بالسن ، من بلغ سن البلوغ فعليه أن يغتسل ، ولمن أفاق من جنون ، وعند حجامة ، وغسل ميتٍ ، وليلة براءة ، أي ليلة النصف من شعبان ، وليلة القدر ، ولدخول مدينة النبي عليه الصلاة والسلام ، وللوقوف بمزدلفة غداة يوم النحر ، وعند دخول مكة لطواف الزيارة ، ولصلاة استسقاءٍ ، هذه الأشياء يندب فيها الغسل وفي أربعة مواضع يسن ، ويفترض في الجنابة .
* * *
وننتقل إلى فصل من كتاب إحياء علوم الدين ، ولازلنا في باب العلم : الصفة الثالثة للعالم ؛ أن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات ، مجتنباً العلوم التي يقل نفعها ويكثر فيها الجدل والقيل والقال . " كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ "* روي أن رجلاً جاء النبي عليه الصلاة والسلام : فقال يا رسول الله علمني من غرائب العلم ـ الأشياء اللطيفة التي إذا حدثتُ بها الناس تأثروا ونلت إعجابهم ، بهذا المعنى ـ فقال عليه الصلاة والسلام : ما صنعت في رأس العلم ، فقال هذا الرجل : وما رأس العلم ، فقال عليه الصلاة والسلام : هل عرفت الرب تعالى ، قال : نعم ، قال : فماذا صنعت في حقه ، قال : ما شاء الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : هل عرفت الموت ؟ قال : نعم ، قال : فماذا أعددت له ـ إذًا فقبْل هذه الأشياء التي تريدها لتنتزع إعجاب الناس أنْ يعرف المسلم الرب ، وأنْ يعرف ماذا صنع في حقه ، أعود لأكرِّر : فقال عليه الصلاة والسلام : هل عرفت الرب تعالى ، قال : نعم، قال : فماذا صنعت في حقه ، قال : ما شاء الله ، فقال عليه الصلاة والسلام وقد علم أن كلمة ما شاء الله تعني أنه لم يحصل هذه المعرفة ، فقال : اذهب فأَحكم ما هناك ، ثم تعال لتتعلم من غرائب العلم . هناك أشياء أساسية في حياتنا ، وأشياء ثانوية ، هناك مهم وهناك أهم ، وردت قصة في الإحياء لكنها جاءت مختصرة وسأرويها لكم بشكلها المختصر . حاتم الأصم كان من أصحاب شقيق البلخي ، وهو عارف بالله ، رحمة الله عليه فسأله يوماً: يا حاتم لقد صاحبتني ثلاثين سنة فما حصلت فيها ؟ وهذه لها معنى ، يقول أحدهم : أنا مستمر على حضور الدروس سبع سنوات ، أو خمس سنوات ، أو أربع سنوات ، أو سنة ، أو ستة أشهر، فماذا حصلت في هذه الفترة هذا سؤال مهم ؟ فقال : حصلت ثماني فوائد من العلم ، وهي تكفيني لأني أرجو بها خلاصي ، فقال شقيق : وما هي ، فقال : أما الأولى فإني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوبًا يحبه ، فهذا غارق في التجارة ، وهذا في الملذات المحرمة ، وهذا بالنساء ، وهذا بجمع الدرهم والدينار ، وهذا غارق ببعض المتع ، وهذا غارق بجمع اللوحات النادرة ، هذا يحب السياحة . وبالمناسبة لي قريب أحبَّ في آخر حياته أن يحوز جميعَ أنواع السجاد النادر ، فجمع ما لا يحتاج إليه ولا إلى عُشره ، ولي قريب آخر أحب في آخر حياته القطع من الصيني أيضاً ، فجمع منها ما يزيد عن مئات الألوف ، فهذا شقيق البلخي يقول : إني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوباً يحبه ويعتقده ، وبعض أولئك المحبوبين يصاحبه إلى الموت ، يعني إذا رجل يحب أن يقتني سيارة فخمة ، فإذا أصابه مرض عضال وأصبح على مرض الموت فهذه السيارة انتهى بقاؤها ، فإما أن تباع أو أنْ يأخذها أحد الورثة ، فرأيت لكل منهم محبوباً يحبه ويعتقده ، وبعض أولئك المحبوبين يصاحبه إلى الموت ، والبعض الآخر إلى شفير القبر ، ثم يتركه المودِّعون وحيداً ، ولا يسكن معه في قبره منهم أحدٌ . الأهل من النساء يودعونه في البيت ويخرجون إلى الشُرف أحياناً ، أمّا الأولاد الذكور فإلى شفير القبر . فتفكرت وقلت : أفضل محبوبٍ للمرءِ ما يدخل معه إلى قبره ويؤنسه فيه ، فما وجدته في غير الأعمال الصالحة ، فاتخذتها محبوباً لي ، لتكون سراجاً في قبري تؤنسني فيه ولا تتركني فريداً ، قال تعالى :
( سورة العصر )
( سورة الفجر )
( سورة المؤمنون ) " قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ " ، لماذا يرجع ؟ ليعمر بناء ، أو يأخذ شهادة دراسية . فقال له : هات الثانية ، فقال : إني رأيت الخلق يقتدون بأهوائهم ، ويبادرون إلى مراد أنفسهم فتأملت في قوله تعالى :
( سورة النازعات ) وبعد ؛ فالأشخاص العاديون في زماننا هذا إذا دعي أحدُهم إلى سهرة مختلطة يقول لك : نذهب ونتسلى ، وليس عندنا شيء يشغلنا ، وإذا دعي إلى رحلة فيها اختلاط ، وفيها أشياء يحرمها الله ، يقول لك : هذه مناسبة لأرى البلاد الأخرى ، وفرصة لا تعوض للاستجمام ، أو يقول : هذه الرحلة فيها شواطئ جميلة ، هل من المعقول أن أتركها ؟ من الذي يقوده ؟ هوى نفسه . إني رأيت الخلق يقتدون بأهوائهم ، ويبادرون إلى مراد أنفسهم ، فتأملت في قوله تعالى :
( سورة النازعات ) فتيقنت أن القرآن حق ثابت ، فبادرت إلى قياد نفسي ، وتشمرت في مجاهدتها ، وما متعتها بهواها ، هل يستطيع المؤمن الصادق أن يرتاح بالنوم إلى أقصى الحدود ؟ لا ، لن يستطيع ، فاسمع قوله تعالى :
( سورة السجدة ) لا يستطيع عنده صلاة الفجر ، ولا سيما في أيام الشتاء ، وهل يستطيع أن يرتاد مجلسًا ويتكلم في الغيبة عن الناس ؟ لا يستطيع ، وإذا كان جالساً على شرفة أو في الطريق فهل يستطيع إذا مرت امرأة أن يمتع نظره فيها ؟ لا يستطيع . فتيقنت أن القرآن حق ثابت ، فبادرت إلى قياد نفسي ، وتشمرت في مجاهدتها ، وما متعتها بهواها حتى رضيت بطاعة الله سبحانه وتعالى وانقادت ، فهذه هي الفائدة .
فقال له : هات الثالثة ، قال : يا سيدي إني رأيت كل واحد من الناس يسعى في جمع حطام الدنيا، ثملا ينفقه ، قابضاً بيديه عليه ، فتأملت قوله تعالى :
( سورة النحل ) فلذتُ بالإيثار ، واستودعتُ عند الله إعانة البائس وإسعاف الفقير ، لعلي أحشر في ظل صدقتي يوم يقوم الناس لرب العالمين ، ليس كل مصلٍّ يصلي ، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي ، وكفّ شهواته عن محارمي ، ولم يصر على معصيتي وأطعم الجائع وكسا العريان ورحم المصاب ، وآوى الغريب ، نحتاج إلى عمل صالح .
قال له : هات الفائدة الرابعة ، قال : فإني رأيت بعض الخلق أنّ ظن عزه في كثرة الأقوام والعشائر ، فاعتز بهم ، وزعم آخرون أنه في حيازة الأموال وكثرة الأولاد ، وحسب بعضهم العز والشرف في غصب أموال الناس وظلمهم ، واعتقدت فئة أنه في إتلاف المال وصرفه وتبذيره . وأنتَ ترى أناساً إما أن يتحدث عن إتلافه المالَ ، أو يتحدث عن عشيرته ، أو عن أولاده ، أو عن ثروته ، أو عن شخصيته ، أو عن ماله ، فهذا الذي يقول : "أنا" فإنه لا يعرف الله عز وجل ، قالها الشيطان فأهلكه الله عز وجل ، فتأملت قوله تعالى :
( سورة آل عمران ) فأقبلت على ربي ، ونفضت يدي من هذه الملهيات والأباطيل ، فكلها فارغة ، ثم قال له : هاتِ الفائدة الخامسة ، قال : رأيت الناس يذمّ بعضهم بعضا ، ويغتاب بعضهم بعضا ، فوجدت ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم ، أسأل طبيباً عن طبيب آخر فيذمُّه ، لماذا ؟ وأسأل محامياً عن زميله ، فيقول : لك هذا المحامي لا يفهم شيئاً ، أسأل تاجراً فيقول لك : هذه البضاعة مضمونة ، وغيره يقول : في السوق بضاعة مقلدة ، وتكون التي عنده تقليد ، كل إنسان يذم غيرَه بدافع الحسد في المال والجاه والعلم ، فتأملت قوله تعالى :
( سورة الزخرف ) فعلمت أن القسمة من الله تعالى ، فما حسدت أحداً ، ورضيت بقسمة الله عز وجل .
أما الفائدة السادسة : فإني رأيت الناس يعادي بعضهم بعضاً فتأملت قول الله تعالى :
( سورة فاطر ) فعلمت أنه لا يجوز معاداة غير الشيطان .
والفائدة السابعة : إني رأيت كل واحد يسعى بجهده ، ويشتغل في طلب القوت والمعاش ، حيث يقع في شبهة أو حرام ، فتأملت قوله تعالى :
( سورة هود ) فعلمت أن رزقي على الله تعالى وقد ضمنه ، فاشتغلت بعبادته وقطعت طمعي عمن سواه ، وترفعت عن الشبهات والدنايا .
وأما الفائدة الثامنة والأخيرة : رأيت كل واحد من الخلق يعتمد على مخلوق ، بعضهم على الدينار والدرهم ، وبعضهم على المال ، وبعضهم على الحرفة والصناعة ، وبعضهم على مخلوق مثله ، من الأمراء وأصحاب الحول والطول ، فـتأملت قوله تعالى :
( سورة الطلاق ) فتوكلت على الله فهو حسبي ونعم الوكيل ، فما زاد شيخُه على أن قال له : وفقك الله يا ولدي . إذاً لما يرافق الإنسانُ العلماءَ ، ويحضر مجالس العلم ، فعليه من حين لآخر أنْ يسأل نفسه ما حصلت ؟ هل تقدمت ؟ هل ازداد عملك الصالح ؟ ماذا قدمت للآخرة ؟ لو جاء الموت فجأةً هل أعددت له عدته ؟ أم ماذا تفعل ؟ . هذا من توفيقات الله لهم ، وهناك ملاحظة للإمام الغزالي يقول : التزيُّن بالمباح ليس حراما، فإذا سكَن إنسان بيتاً فخماً وفرشه بفرش ضخم ، وأكل ما لذ وطاب فما حُكمه وما شأنه ؟. التزين بالمباح ليس حراماً ، ولكن الخوض فيه يوجب الأنس به ، فإذا بالغ الإنسان في المباح استأنس إلى الطعام والشراب ، والدنيا ، والمباهج فإذا استأنس بها شق عليه تركها ، واستدامة الزينة لا تكون إلا بمباشرة أسباب ينشغل بمراعاتها ، فينفق الإنسان من أصحاب اليسار في السَّنة الكثيرَ ، وتراه يقول لك : أنا مصروفي في السنة ثلاثمائة ألف ، لو فرضنا لأسباب ما ضاقت بعض المكاسب ، فماذا تفعل بنفسك ؟ عوّدتَ الأهل على هذا المصروف العالي ، تجد نفسك مضطراً فتقع في الشبهات ، مضطرًا لتكسب المال الحرام ، فلما يغوص الإنسانُ الدنيا ويخوض فيها ، وفي المباح منها فقط يجد نفسه لأسباب قاهرة قد ضاقت المكاسب ، وليس عنده حل ، فيبدأ يتساهل بنوع الكسب ، وعندما يعِّود نفسه على الترف فهذا يغامر بدينه ، ويخشى عليه التردِّي . والحزم في اجتناب ذلك ، لأن من خاض في الدنيا لم يسلم منها ، ولو كانت السلامة مبذولةً مع الخوض فيها لما ترك النبي عليه الصلاة والسلام الدنيا ، لكنه تركها حفاظاً على دينه . وعندنا صفة أخرى من صفات العلماء ؛ ألاّ يكون مسارعاً إلى الفتوى ، بل يكون متوقفاً ومحترزاً ، فإذا قال عمّا يعلمه تحقيقاً في كتاب الله أو في حديث رسول الله ، أو إجماعاً أو قياساً فلا حرج ، وإن سئل عما يشك فيه قال لا أدري ، احفظوا هذه القاعدة نصف العلم لا أدري ، وإن سأل عن اجتهاد احتاط ودفع عن نفسه وأحال إلى غيره ، هذا هو الحزم ، وفي الخبر : العلم ثلاثة ؛ كتاب الله ، وسنة قائمة ، والشيء الثالث لا أدري . وقال الشعبي : لا أدري نصف العلم ، ومن سكت حيث لا يدري احتسابًا الله تعالى فليس بأقل أجراً ممن نطق صوابًا ، لأن الاعتراف بالجهل أشد على الناس هكذا كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله تعالى. كان ابن عمر إذا سئل عن فتيا قال : "اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلَّد أمور الناس ، وضَعْهَا في عنقه "، اسأله فهو المسؤول ، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول : "إن الذي يفتي الناس بكل ما يستفتونه مجنون " وقال : "جملة العالم لا أدري ، فإن أخطأها فقد هلك "، وقال إبراهيم بن الأدهم :" ليس شيء أشد على الشيطان من عالم يتكلم بعلم ويسكت بعلم ، يقول : انظروا إلى هذا أشد عليّ من كلامي ". وُصف بعضهم بأنّ أكلهم فاقة ، ونومهم غلبة ، وكلامهم ضرورة ، لا يأكلون إلا إذا جاعوا، ولا ينامون إلا إذا ضربهم النوم ، بينما تجد أنّ بعضهم عند الظهر ينام ساعتين ، ويستيقظ عقب العصر بكثير ، ما هذا ؟ من قضى عمره نائمًا يرى نفسه يوم القيامة مفلساً . ومر عليٌّ وعبد الله رضي الله عنهما برجل يتكلم على ملأٍ من الناس ، فقال : "هذا الذي يتكلم يريد أن يشد الناس إليه ، وفي نفسه شهوة خفية "، وقال بعضهم : "إنما العالم الذي إذا سئل عن مسألة فكأنما يصعق ".. وكان ابن عمر يقول : "أتريدون أن تجعلوني جسراً تعبرون عليه إلى جهنم" ، هذا الذي يفتي من دون علم جعل من نفسه جسراً يعبره الناس إلى جهنم ، وقال : "العالِم هو الذي يخاف عند السؤال يوم القيامة أنْ يقال له : مِن أين أفتيت "، لكنّ عالم السوء يقال له : أنت أفتيت في الموضوع الفلاني ، أن النسب القليلة من الربا تجوز ، فمِن أين جئت بهذا الكلام ؟. وكان إبراهيم إذا سئل عن مسألة يبكي ويقول : "ألا تجدون أحدًا غيري حتى جئتم إلي "، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ لَعِينٌ هُوَ أَمْ لا وَمَا أَدْرِي أَعُزَيْرٌ نَبِيٌّ هُوَ أَمْ لا " النبي الكريم علمنا بهذا الكلام إذا واجهتكَ أشياء فَقِفْ عندها ، ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن خير بقاع الأرض وشرها ، قال : لا أدري ، حتى جاء جبريل عليه السلام فسأله فقال : خير بقاع الأرض المساجد وشرها الأسواق . وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسأل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة ، يروون بعض القصص ما أنزل الله بها من سلطان ، منها أنّ رجلاً متصوفًا له شأن كبير ، فبينما هو في الحمام أعطوه مسألة ، فغمسها بالجرن وأعطاهم الجواب ، فهذه قصص غير مقبولة ، وكان مِن الفقهاء مَن يقول : لا أدري أكثر مما يقول أدري . قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى : لَقَدْ أَدْرَكْتُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ الأنْصَارِ وَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إِلا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ وَلا يُسْأَلُ عَنْ فُتْيَا إِلا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا " وفي حديث آخر ، كانت المسألة تُعرَض على أحدهم فيردها إلى الآخر ، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتدافعون أربعة أشياء ؛ الإمامة ، - وهي الآن موضِعُ تزاحُمٍ - والوصية ، والوديعة ، والفدية . وقال بعضهم : "أسرعكم إلى الفتيا أقلهم علماً ، وأشدهم دفعاً لها أورعهم "، وكان شغل الصحابة الكرام والتابعين بخمسة أشياء ؛ بقراءة القرآن ، وعمارة المساجد ، وذكر الله تعالى ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . طبعاً لما سمعوا كلام النبي الكريم : كل كلام ابن آدم عليه وزرُه إلا ثلاث ، أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، أو ذكر لله تعالى . وقال ابن حصين : "إن أحدهم يفتي في مسألة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بلدةٍ جميعاً ". " عَنْ أَبِي خَلادٍ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ " وقال أبو سليمان :" المعرفة إلى السكوت أقرب منها إلى الكلام ، وإذا كثر العلم قل الكلام ، وإذا كثر الكلام قل العلم" ، وهذا آخر قول : إنّ ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا سئل يقول : "اسألوا حارث بن زيد" ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : "اسألوا سعيد بن المسيب" ، وذكر أن صحابياً روى في حضرة الحسن عشرين حديثاً ، فسئِل عن تفسيرها فقال : ما عندي إلا ما رويت ، فأخذ الحسن في تفسيرها حديثاً حديثاً ، فتعجبوا من حسن تفسيره فأخذ الصحابي حفنة من حصى ورماهم به ، وقال : "تسألوني عن العلم وهذا الحبر بين أظهركم ". انظروا إلى التواضع ، إذا عز أخوك فهن ، هكذا كان السلف الصالح ، وهكذا كان التابعون. يقول عليه الصلاة والسلام : ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط " من لم يكن له ورع يَصُدُّهُ عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله . * * * وبعد فهذه قصة من قصص الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين : ما أدري عن هذه القصة إنْ كنت قرأتها من قبل أم لم أقرأها ، والذي ترك أثراً في نفسي أني لمّا قرأتها وكنتُ أظن أني ما قرأتها من قبل ، لكنني قرأتها ، وكأني أقرأها أول مرة ، هناك استنباطات كثيرة قد نقف عندها . قال مؤلف هذا الكتاب : قلَّما اتصلت الأسباب بين شخصين وتوثقت العرا بين اثنين كما اتصلت وتوثقت بين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وبين أبي سفيان بن الحارث ، فقد كان أبو سفيان لِدَةً وترباً من أترابه ، فقد وجدا في زمن متقارب ، ونشآ في أسرة واحدة ، وكان ابن عم النبي اللزم ، اللصيق ، فأبوه الحارث ، وعبد الله والد النبي الكريم أخوان ، ينحدران من صلب عبد المطلب ، ثم إنه كان أخاً للنبي من الرضاع ، فقد غذتهم السيدة حليمة السعدية من ثدييها معاً ، وكان بعد ذلك كله صديقاً حميماً للرسول صلوات الله عليه قبل النبوة وأشد الناس شبهاً به. فهل رأيت أو سمعت قرابة أقرب ، أو أواصر أمتن من هذا الذي كان بين محمد بن عبد الله وأبي سفيان بن الحارث ، لذا كان من المفروض أن يكون أبو سفيان هذا أصدقَ الناس إلى تلبية دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ، وأسرعهم مباشرةً إلى اتباعه ، لكن الأمر جاء على خلاف كل ما يتوقع ، إذْ ما إنْ بدأ النبي عليه الصلاة والسلام ينذر عشيرته حتى شبت نار الضغينة في قلبِ أبي سفيان على النبي عليه الصلاة والسلام ، فاستحالت الصداقة إلى عداوة ، والرحم إلى قطيعة ، والأخوة إلى صد و رد ، كل هذه الأسباب قامت في نفس أبي سفيان ، ولكن : إنّك لا تهدي من أحببت ، لقد كان أبو سفيان لما صدع النبي بأمر ربه فارساً من أنبل فرسان قريش ، وشاعراً مقدَّمًا بين الشعراء ، فوضع كنانته ولسانه لمحاربة النبي عليه الصلاة والسلام ، ومعاداة دعوته ، وجنّد قوته كلها ضد الإسلام والمسلمين ، فما خاضت قريش حرباً ضد النبي إلا كان مسعِّرها ، وما وقع بالمسلمين أذىً إلا كان له فيه يد ، ولقد أيقظ أبو سفيان شيطانَ شعره ، و أطلق لسانه في هجاء النبي صلوات الله عليه ، فقال فيه كلاماً مقذعاً فاحشاً ، وطالت عداوة أبي سفيان للنبي عليه الصلاة والسلام حتى قاربت عشرين عاماً ، لم يترك خلالها ضربًا من ضروب الكيد للنبي إلا فعلها ، ولا صنفاً من صنوف الأذى للمسلمين إلا عمله ، وقبيل فتح مكة بقليل كُتِبَ لأبي سفيان أن يسلم ، وكان لإسلامه قصة مثيرة وَعَتْهَا كتبُ السير ، وتناقلتها كتبُ التاريخ ، ولنَدَعْ للرجل نفسه الحديث عن قصة إسلامه ، فوصفُه لها أدق ، قال : لما استقام أمر الإسلام ، وقر قراره ، وشاعت أخبار توجُّهِ النبيّ إلى مكة ليفتحها ، ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت ، وقلت إلى أين أذهب ؟ ومن أصحب ، ومع من أكون ؟ عكرمة بن أبي جهل قبيل فتح مكة فرَّ ، وعندما وصل إلى شاطئ البحر رأى صاحب سفينة، قال : أركب معك إلى الشاطئ الآخر ، قال له : هل أنت مسلم ، قال : وما مسلم ، قال : أن تشهد أن لا إله إلا الله فقال له : إذًا لِمَ هربت ؟. وقلت إلى أين أذهب ؟ ومن أصحب ، ومع من أكون ؟ ثم جئت زوجتي وأولادي وقلت تهيؤوا للخروج من مكة ، فقد أوشك وصول محمد وإني لمقصود ، ليس هو مشركًا عاديًا ، ولكن له باع طويل في الأذى ، وقال في نفسه : وإني لمقتول لا محالة إن أدركني المسلمون ، ثم قال : أما آنَ لك أن تدرك أن العرب والعجم قد دانت لمحمد بالطاعة ، واعتنقت دينه ، وأنت ما تزال مصِرًّا على عداوته ، وكنت أولى الناس بتصديقه ونصره ، ومازال أهلي يرغبونني بدين محمد حتى شرح الله صدري للإسلام . قمت من توي وقلت لغلامي هيئ لي نوقاً وفرساً ، طبعاً ولكن النبي الكريم في الطريق ، وأخذت معي ابني جعفرًا ، وجعلنا نسير نحو منطقة بين مكة والمدينة ، وقد بلغني أن محمداً نزل فيها ، ولما اقتربت منها تنكرت حتى لا يعرفني أحد فأقتل قبل أن أصل إلى النبي ، وأعلن إسلامي بين يديه ، وبقيت أمشي على قدمي ، وطلائع المسلمين تمضي ميمنة شطر مكة جماعة تلو جماعة ، فكنت أتنحى عن طريقهم خوفاً من أن يعرفني أحد من أصحاب النبي ، وفيما أنا كذلك إذْ طلع النبي في موكبه فتصديت له ووقفت تلقاءه ، وما إن ملأ عينيه مني ، وعرفني حتى أعرض عني ، إلى الناحية الأخرى ، فتنحيت إلى ناحية وجهه ، فأعرض عني وحوَّل وجهه ، فتحولت إلى ناحية وجهه حتى فعل ذلك مراراً ، كنت لا أشك و أنا مقبل على النبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفرح بإسلامي ، وأن أصحابه سيفرحون لفرحه ، لكن المسلمين حينما رأوا إعراض رسول الله عني أعرضوا عني جميعاً ، لقد لقيني أبو بكر فأعرض عني أشد الإعراض ، فنظرت إلى عمر بن الخطاب نظراً أستلين به قلبه ، فوجدته أشد إعراضاً من صاحبيه ، بل إنه أغرى بي أحد الأنصار ، وقال لي الأنصاري يا عدو الله ، أنت الذي كنت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتؤذي أصحابه ، وقد بلغت في عداوة النبي مشارق الأرض و مغاربها ، ومازال الأنصاري يستطيل علي ويرفع صوته ، والمسلمون يقتحمونني بعيونهم ، ويُسَرّون مما ألاقي ، عند ذلك أبصرت عمي العباس ، فلذت به ، وقلت : يا عم ؛ قد ظننت أن يفرح رسول الله بإسلامي ، فإذا آمن رجل بعد فترة طويلة فهو ملوم ، وأحلى شيء في مسألة الإيمان أنْ يأتي في الوقت المناسب ، وأنت شاب ، وأنت قوي ، وأنت صحيح ، وأنت غني ، وليس بعد أن شاب شعرك ، وانحنى ظهرك ، وانزوت عنك الدنيا ، وصرتَ قعيدَ البيت عندئذٍ أخذتَ تصلي . فقلت : يا عم قد كنتُ أرجو أن يفرح رسول الله بإسلامي ، لقرابتي منه ، وشرفي من قومي، وقد جرى بي ما تعلم ،فكلِّمه في أمري ، فقال : لا والله لا أكلمه أبداً بعد ما رأيت من إعراضه عنك ، فإن سمحت فرصة فإني أرجو رسول الله ، أمّا الآن فلا يجرؤ أحد أن يكلمه ، فقلت : يا عم إلى من تكلني إذاً ، فقال : ليس عندي غير ما سمعت ، فتملكني الهم ، وركبني الحزن ، ولم ألبث أن رأيت ابن عمي علي بن أبي طالب ، فحدثته بأمري ، فما لبث أن قال لي كما قال عمي العباس ، عند ذلك رجعت إلى عمي العباس وقلت يا عم ، إذا كنت لا تستطيع أن تُعَطِّف عليَّ قلب النبي الكريم فكُفَّ عني ذلك الرجل الذي يشتمني ، ويغوي الناس بشتمي ، فقال: صِفْهُ لي ، فوصفتُه له ، فقال : ذلك نعيمان بن الحارث النجاري ، فأرسل إليه وقال له : يا نعيمان إن أبا سفيان ابن عم رسول الله ، وابن أخي ، فإن يكن رسول الله ساخطًا عليه اليوم ، فسيرضى عنه يوماً ، فَكُفَّ عنه ، وما زال به حتى رضي أن يكف عني و قال : لا أعرض له بعد الآن ، أغلق الجبهة عليه ، ولما نزل النبي عليه الصلاة و السلام بالجحفة جلست على باب منزله ، ومعي ابني جعفر قائماً ، فلما رآني وهو خارج من منزله أشاح عني بوجهه ، فلم أيأس من استرضائه ، وجعلت كلما نزل في منزل أجلس على بابه ، وأبقي ابني جعفراً واقفاً بإزائي ، فكان إذا أبصرني أعرض عني ، وبقيت على ذلك زماناً ، فلما اشتد علي الأمر وضاقت نفسي ، قلت لزوجتي : والله ليرضين عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لآخذن بيد ابني هذا ، ثم لنذهبن هائمين على وجهَيْنا في الأرض ، حتى نموت جوعاً وعطشاً . فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ له ، ولما خرج من بيته نظر إليَّ نظراً ألين من النظرة الأولى ، ثم دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة فدخلتُ في ركابه ، وخرج إلى المسجد فخرجت أسعى بين يديه لا أفارقه على حال ، وتمَّ إسلام أبي سفيان بن الحارث أخي النبي في الرضاع وابن عمه . وهذه واقعة أخرى ؛ فقدْ وقف أبو سفيان بن حربٍ على باب عمر ساعات ، فلم يسمح له بالدخول ، وصهيب وبلال يدخلان ويخرجان بلا استئذان ، فلما دخل عاتبه ، وقال : أبو سفيان زعيم قريش يقف في بابك ساعات طويلة ، وصهيب وبلال يدخلان بلا استئذان ، فقال له : هؤلاء اتبعوا النبي في ساعة العسرة وأنت أين كنت ؟. ولما كان يوم الخندق ، وجمعت العرب لحرب النبي عليه الصلاة والسلام ، وأعدت للقائه ما لم تعد من قبل ، وقررت أن تجعلها القاضية على الإسلام والمسلمين ، وخرج النبي صلوات الله عليه للقاء الجموع مع أصحابه ، ففي أيِّ صف كنت ؟ ويوم حنين ماذا كان لك من دور ؟ قد قال تعالى :
( سورة التوبة ) إنّ الصحابة الذين خاضوا بدراً وأحداً والخندق ، باعوا أنفسهم ، ويوم حنين ظنوا أنفسهم أقوياء فخذلهم الله عز وجل ، أمّا أبو سفيان بن الحارث فقال : فخرجت مع النبي ، ولما رأيت جموع المسلمين الكبيرة ، قلت : والله لأكفِّرنَّ اليوم عن كل ما سلف مني من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليرين مني من أمري ما يرضي الله ويرضيه ، الآن جاء الوقت المناسب. ولما التقى الجمعان اشتدت وطأة المشركين على المسلمين ، فدب فيهم الوهن والفشل ، وصار الناس يتفرقون عن النبي ، وكادت تحل بنا الهزيمة المنكرة ، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام ، قال الراوي وهو صحابي جليل : فداه أبي وأمي يثبت في قلب المعركة على بغلته الشهباء كأنه الطود الراسخ ويجرد سيفه ، ويدافع عن نفسه وعمّن حوله كأنه الليث عادياً ، فعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ ابْنِ عَازِبٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ : لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا فَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنَائِمِ وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَفِرَّ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ " عند ذلك وثبت عن فرسي ، وكسرت غمد سيفي ، واللهُ يعلم أني أريد الموت ، وأخذ عمي العباس بلجام بغلة النبي ، ووقف بجانبه ، وأخذت أنا مكانه من الجانب الآخر ، وفي يميني سيفي أذود به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما شمالي فكانت منصفةً ... ، وإلى الآن لم يتبسم له النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما نظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى حسن بلائي قال لعمي : من هذا؟ قال : هذا أخوك وابن عمك أبو سفيان بن الحارث ، فارضَ عنه يا رسول الله ، فقال : قد فعلت ، وغفر الله له كل عداوة عاداناها . فاستطال فؤادي فرحاً لارضاء رسول الله صلى الله عني ..ثم التفت إلي وقال : أخي تقدم ... ألهبت كلمات النبي حماستي فحملت على المشركين حملةً أزالتهم عن مواضعهم ، وحمل معي المسلمون حتى فرَّقناهم إلى كل مكان ، وظل أبو سفيان بن الحارث منذ حنين ينعم بجميل رضى النبي عنه ، ويسعد بكريم صحبته ، ولكنه لم يرفع نظره إليه أبداً ، ولم ينظر إلى وجهه حياءً منه وخجلاً من ماضيه معه . بعد ما أسلم لم ينظر إليه خجلاً ، عشرين سنة وهو يعادي النبي ، فأحياناً يقصر الإنسانُ ويؤذي الناس ، ويحمّل نفسه ما لا يطيق ، إذا جاءت الصحوة أعانه الله ، والقضية ليست سهلة ؛ أن تعادي الله ورسوله ، فلا تصلي ، وتستهين بالدين ، وتؤذي الناس وتغشهم ، ماذا يفعل هذا بنفسه ؟ يحمِّلها ما لا تطيق . وجعل أبو سفيان يعض بنان الندم على الأيام السود التي أمضاها في الجاهلية محجوباً عن نور الله ، محروماً من كتابه ، فأكبَّ على القرآن ليله ونهاره يتلو آياته ، ويتفقه في أحكامه ، ويتملى من عظاته ، وأعرض عن الدنيا وزهرتها ، وأقبل على الله بكل جارحةٍ من جوارحه حتى إن النبي صلوات الله عليه رآه ذات مرةٍ يدخل المسجد فقال لعائشة أتدرين من هذا يا عائشة ؟ قالت : لا ، قال : ابن عمي أبو سفيان ، إنه أول من يدخل المسجد ، وآخر من يخرج منه . ولما لحق النبي صلوات الله عليه بالرفيق الأعلى حزن عليه أبو سفيان بن الحارث حزنَ الأمِّ على وحيدها ، وبكاه بكاء الحبيب على حبيبه ، ورثاه بقصيدة من غرِّ المراثي تفيض حزنًا ولوعة، وفي خلافة الفاروق رضي الله عنه أحس أبو سفيان بدنو أجله ، فحفر لنفسه قبراً بيديه ، ولم يمض على ذلك ثلاثة أيام حتى حضرته الوفاة ، كأنه مع الموت على ميعاد ، فالتفت إلى زوجته وأولاده وأهله وقال : لا تبكوا علي فو الله ما تعلقت بخطيئةٍ منذ أسلمت . إذا تاب الرجلُ إلى الله توبةً نصوحًا ، وعاهد الله ألاّيؤذي أحدًا أبداً ، ولا يعصي أبداً ، فإذا جاء ملك الموت يقول مرحباً به وبالموت . والله ما تعلقت بخطيئةٍ منذ أسلمت ، ثم فاضت روحه الطاهرة ، فصلى عليه الفاروق رضوان الله عليه ، وحزن لفقده هو والصحابة الكرام ، وعدوا موته مصابًا جللاً حلَّ بالإسلام والمسلمين . فاغتنم أخي المسلم خمساً قبل خمس ؛ شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، ولا يعرف الإنسان بعد ذلك متى يصيبه آلام ، وأوجاع ، أيستطيع أن يتصدق أم لا ، اكسب الوقت ، قم الليل إن كنتَ تستطيع أن تقوم للصلاة ، اقرأ القرآن وأنت في شباب ، واستغل هذا الشباب ، واستبق الخيرات ، وإذا درَّتْ نياقُك فاحتلبْها ، وإذا هبَّبتْ رياحُك فاغتنمها ، فإنَّ الريح عادتها السكون . والحمد لله رب العالمين
[quote]
مقبول حسون الادارة
عدد المساهمات : 2413 تاريخ التسجيل : 08/12/2009
موضوع: ـ التيمم ( تعريفه ـ شروطه ) . السبت مارس 27, 2010 4:03 pm
ـ التيمم ( تعريفه ـ شروطه ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . أيها الأخوة المؤمنون ؛ تحدثنا في الدرس الماضي عن الغسل ، واليوم نتحدث عن التيمم. يصح التيمم بشروط ثمانية : الأول : النية ، وحقيقتها : عقد القلب على الفعل ، والعلماء على خلاف في النية ، فأكثرهم أنها عمل قلبي ، فإذا عزَم الإنسان على أن يفعل هذه العبادة ، فهذه العزيمة هي النية ، ووقتها : عند ضرب يده على ما يتيمم به ، ففي أثناء الضرب على الحجر ، أو التراب ، أو الرخام ، في أثناء الضرب ينوي الإنسانُ التيممَ من هذا الصعيد الطاهر لأداء الصلاة أو لقراءة القرآن ، أو لشيء آخر . وشروط صحة النية ثلاثة : 1ـ الإسلام ، فلا تصح النية لغير المسلم ، وهذا شيء بديهي ، 2ـ والتمييز ، يعني العقل ، 3ـ والعلم بما ينويه ينوي التيمم لصلاة ، كأنْ ينوي التيممَ لصلاة جنازة، أو ينوي التيمم لقراءة القرآن ، وهكذا . ويشترط لصحة نية التيمم للصلاة أحد ثلاثة أشياء : 1- إما نية الطهارة ، هذه نية ، 2- أو نية استباحة الصلاة ، 3- أو نية عبادة مقصودة لا تصح بدون طهارة ، من هذه العبادة المقصودة قراءة القرآن . إذا نعود فنذكِّر أنَّ للتيمم ثمانية شروط :الشرط الأول النية ، وهي عقد القلب على فعل طاعة ما. الشرط الثاني : العذر المبيح للتيمم ، فإذا لم يكن هناك عذر مبيح للتيمم لم يصحّ التيمُّمُ ، ما هي الأعذار ؟ بُعْدُه مسافة ميل عن الماء ، يعني إذا كان بينك وبين الماء ميل ، ولو في المصر ، ولو كنت في بلد آهل بالسكان ، وبينك وبين الماء ميل ، هذا الميل يجيز لك التيمم ، وكذلك حصول مرض ، كمثل أشخاص يعانون مِن مرض الروماتزم ، وبردٍ يخاف منه التلف أو المرض ، يعني يخاف من التلف أي الهلاك ، أو المرض ، أو ازدياد المرض ، إذاً بعد المسافة ، والمرض ، وخوف عدو ، أو حيوان مفترس أو نحوه ، فأحيانا عند الماء عدو ما ، والعدو بطاش ، كما في أثناء الحرب ، وخوف عطش ، فإذا كان مع الإنسان كمية ماء ، وهو في الصحراء ، وإذا توضأ بما معه من ماء ربَّما مات عطشا ، إذًا خاف العطش ، أو خاف المرض ، أو خاف العدو ، واحتياج ماء لعجن لا لطبخ مرق ، فإذا كان معك ماء يكفي لعجن العجين ، فلو أنك توضأت به لبقيت بلا خبز ، ولفقد آلة أيضًا ، فحبل الدلو مقطوع مثلاً ، أو ليس لديه حبل للدلو ، والماء على بعد أمتار ، لكن لديك حبلٌ ، فهذا يعني فَقْدَ آلة ، وخوف فوت صلاة ، أي الصلاة التي لا تقضى ، مثل الجنازة وصلاة العيدين ، فإذا خفت أن تفوتك صلاة الجنازة ، أو صلاة العيدين فعليك بالتيمم. إذاً فالأعذار المبيحة للتيمم ، البعدُ عن الماء ، وخوفُ المرض وخوفُ العدو ، وخوفُ العطش ، والاحتياجُ لعجن لا لطبخ مرق ، لأنّ المرق شيء ثانوي في الطعام ، أما الماء للعجين فشيء أساسي ، ولفقد آلة كحبل الدلو ، أو السطل ، أو ما شاكل ذلك ، وفي أيامنا هذه إذا انقطع تيارُ الكهرباء ، وعنده محرك يعمل على الكهرباء ، والماء على بعد خمسين مترًا ، وتيار كهرباء مقطوع ، فعليه أنْ يتيمم ، وخوفُ فوت صلاة جنازة ، أو عيد ، هذا الشرط الثاني . الشرط الثالث : أن يكون التيمم بطاهر ، نويت التيمم من هذا الصعيد الطاهر ، من جنس الأرض، كالتراب ، والحجر ، والرمل فالرخام حجر ، أما الحطب ، والفضة ، والذهب فليست من جنس الأرض . الشرط الأول : النية ، الشرط الثاني : وجود العذر المبيح ، البعد وخوف المرض ، وخوف العطش ، وخوف العدو أيًّا كان ، واحتياج ماء لعجن ، وفقدُ الآلة ، وخوفُ فوات صلاة ، والشرط الثالث : أن يكون التيمم بطاهر من جنس الأرض كالتراب ، والحجر ، والرمل ، لا الحطب ، والفضة ، والذهب . الشرط الرابع : استيعاب المحل بالمسح ، يعني استيعاب الوجه كاملاً ، من منبت الشعر إلى أسفل الذقن ، وطرفي شحمتي الأذنين استيعابًا كاملاً ، وكذلك اليدين استيعابهما كاملتين . الشرط الخامس : أن يمسح بجميع اليد ، أو أكثرها ، فلو مسح بإصبعين لم يصحّ ، ولو كرّر حتى استوعب ، بخلاف مسح الرأس . الشرط السادس : أن يكون بضربتين بباطن الكفين ، ولو في مكان واحد . الشرط السابع : انقطاع ما ينافي التيمم من حيض ، ونفاس ، فلو كانت المرأة في حيض أو نفاس لم يصحّ التيمم ، إذْ لا بد من انقطاعهما انقطاعًا كاملاً . الشرط الثامن : زوال ما يمنع المسحَ كشمعٍ و شحمٍ ، فإذا وُجدَ على الأظافر طلاءٌ ، أو شحم ، أو عجين ، أو مادة مانعة فسدَ التيمُّم ، فهذه ثمانية شروط للتيمم ، وأعيدها سريعا ، أولاً : النية ، ثانياً : وجود العذر المبيح ، ثالثاً : التيمم بصعيد طاهر من جنس الأرض ، رابعاً : استيعاب المحل بالمسح ، خامساً : أن يمسح بجميع اليد ، أو بأكثرها ، سادساً : أن يكون بضربتين بباطن الكفين ، ولو في مكان واحد ، سابعاً : انقطاع ما ينافي التيمم ، من حيض أو نفاس ، الثامن : زوال ما يمنع المسحَ كشمعٍ ، وهذه المعلومات أكثر الإخوة الحاضرين على علم بمعظمها ، ولكن فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين . * * * ولننتقل إلى فصل مختار من إحياء علوم الدين عنوانه " صفات العالم " ، وهي : أن يكون شديد التوقي من محدثات الأمور ، كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وما أكثر البدعة التي تقطع الإنسان عن ربه كأجهزة اللهو ، إذْ يقول بعضُهم : به نسمع تلاوة القرآن ، وتقدِّم أحاديث دينية ، كما تقدِّم مواضيع علمية ، فربنا عز وجل قال :
( سورة البقرة : 219 ) . مثلاً برميل فيه ماء مر ، مذاب فيه ملعقة عسل ، فمن أجل أن تصل هذه الملعقة إلى جوفك ، يجب أن تشرب هذا البرميل بكامله ، وهو مرٌّ ، وقد يكون ساماً ، وقد يكون مؤذياً ، فلذلك عليه أن يكون شديد التوقي من محدثات الأمور ، وإن اتفق عليها الجمهور ، يعني يجوز للجمهور في آخر الزمان أنْ يتفقوا على ضلالة ، كأنْ يصير شيء بحكم العادة ، أو شيء بحكم العرف ، فيصير لكثرة انتشاره بديهيًا ، فيقال : فمَن أنت حتى تجيز ما لا يجوز ؟ ومن أين تأتينا بهذا الدين . فهنا يقول الإمام الغزالي : أن يكون شديد التوقي من محدثات الأمور ، وإن اتفق عليها الجمهور ، فلا يغرنّه إطباق الخلق على ما أُحدِث بعد الصحابة رَضِي اللَّه عَنْهم ، وليكن حريصًا على التفتيش عن أحوال الصحابة وسيرتهم وأعمالهم . فإذا اقتدى إنسان بالصحابة كان في قمة الذكاء والتوفيق ، وإذا اقتدى بغير الصحابة فل ، طبعا هم رجال ونحن رجال كما قال بعض العارفين ، وقال بعض العارفين : ما جاءنا عن صاحب القبة الخضراء فعلى العين والرأس ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، وما جاءنا عن أصحابه الكرام فعلى العين والرأس ، لماذا ؟ لأنهم أخذوا عن النبي ، والنبيُّ معصوم ، وما جاءنا بعد ذلك عن غيرهم ، فنحن رجال وهم رجال ، وقال بعضهم الآخر : كل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه ، إلا صاحب هذه القبة الخضراء ، ما ينطق عن الهوى ، وقال بعضهم : ما من أحد يكبر عن أن يُنقَد ، وما من أحد يصغر عن أن يَنقَد ، فالإنسان غير معصوم. لذلك قال سيدنا عمر : " أحبُّ ما أهدى إليّ أصحابي عيوبي " ، أكبر هدية تقدمها لأخيك إن رأيت فيه شططا ، أو انحرافاً ، أو تقصيراً ، أو مخالفةً ، أو معصيةً ، فبينك وبينه ، وبمنتهى اللطف والتهذيب ، قل له : يا أخي إنني أحبُّك ، وأنت مؤمن ، وأنت قارئ قرآن ، وهذا الذي تفعله لا يليق بالمؤمنين ، إذا قلت له بينك وبينه فهذه نصيحة ، فإذا وجهت له هذه الملاحظة أمام ملأٍ فهذا تشهير ، وقد يكون الرد عنيفا ، لأنك شهرت به . ويسأل الغزالي هذا السؤال فقال : أكان همُّ الصحابة في التدريس والتصنيف والمناظرة والقضاء والولاية وتولِّي الأوقاف والوصايا وأكل مال الأيتام ومخالطة السلاطين ومجاملتهم في الِعشرة ؟ ، أم كان همُّهم في الخوف والتفكر والمجاهدة والمراقبة واجتناب دقيق الإثم وجليله ، والحرص على إدراك خفايا شهوات النفوس ومكايد الشيطان إلى غير ذلك من علوم البطون ؟. إنّ سيرةَ الصحابة العطرة قدوةٌ لنا ، فأحيانا قد تحضر مجلسًا فيقال لك : هذا مجلسُ ذكر ، وتجدهم يلبسون ثيابًا بيضاء ، ويقومون بحركات ، وفي أثناء الدوران السريع تصير ملابسُهم مثل المظلة ، يا ترى أهكذا فَعَلَ الصحابة ؟ وبهذه الطريقة وأمثالها فتحوا العالم ، وبهذه الطريقة انتزعوا إعجاب الأمم ، وبهذه الطريقة صاروا قادة الشعوب ، والخلاصة أنّك تشعر أنّ هناك أفعالاً ليست من الدين في شيء . يقول الحسن رَضِي اللَّه عَنْه : محدثان أُحدِثا في الإسلام ؛ رجل ذو رأي سيئ زعم أن الجنة لمن رأى مثل رأيه ، ومُترَف يعبد الدنيا ، لها يغضب ، ولها يرضى ، وإياها يطلب . والحقيقة هنا تحليل دقيق ، فأنتَ أمام رجل آثر الدنيا على الآخرة ، وكلُّ همِّه الدنيا ، أو رجل آخر همُّه أن يتتبَّع أفكار الناس ، فمن وافقه على أفكاره المنحرفة ظنّه صالحاً ومن خالفه كَفَّرَه ، وهذان المُحدَثان ليسا من الدين في شيء . ويقول الإمام الغزالي رَضِي اللَّه عَنْه : واعلم تحقيقاً أن أعلم أهل الزمان ، وأقربهم إلى الحق أشبههم بصحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأعرفهم بطريق السلف ، فمنهم أخَذَ الدينَ . لذلك قال الإمام علي كرم الله وجهه : خيرنا أتبعنا لهذا الدين لما قيل له : خالفتَ فلاناً ، فلا ينبغي أن يكترث بمخالفة أهل العصر ، إذا كان عملُه موافقًا عملَ أهلِ عصره رسول الله ، وهم الصحابة الكرام . فإذا خالفتَ أهل عصرك ، واتبعت أهل عصر رسول الله فأنت على حق ، وكلمة الإمام علي كرم الله وجهه يقول : " نحن نعرف الرجال بالحق ، ولا نعرف الحق بالرجال " ، وهذه كلمةٌ في منتهى الدقة ، فلا يعرف الحق لأن فلانًا قاله ، بل يعرف فلانًا أهو على حق ، أو على باطل في ضوء الحق الذي تعرفه ، فالحق هو الأصل . فلو فرضنا مدرس لغة عربية ، نصب الفاعل ، فإنّ الفاعل لم يَعُدْ منصوبًا ، فحكمُ الفاعل الرفع ، إذا ذاك المدرِّس مخطئ ، ففي اللغة قواعد ثابتة في ضوئها تقيّم ضوابطها ، فإذا قرأ جاهلٌ في كتابٍ مطبوع ونصَب الفاعلَ ، فليس الصواب في قراءته ، وقال : أنا أظنه مرفوعًا ، لا ، فهذا خطأ مطبعيّ ، فأنت تعرف الكلام بالحقائق التي تعرفها من قبل ، ولا تستنبط الحقائق من كتاب طارئ . يقول النبي عليه الصلاة والسلام : إنما هما اثنتان : الكلام والهدي ، فأحسن الكلام كلام الله تعالى ، وأحسن الهدي هدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ألا وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها ، وإن كل محدثة بدعة ، وإن كل بدعة ضلالة ، ألا ليطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم ، ألا كل ما هو آت قريب ، ألا إن البعيد ما ليس بآت . سألني الأسبوع الماضي رجلٌ ، فقال : أليس هناك حديث " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " ، فأردت أن أبسِّط له الموضوع ، فقلت : لما وضعوا في المساجد برادات للماء في أيام الصيف الحارة ، والمصلي يتمنّى أن يشرب كأس ماء بارد ، فهذه البرادات انتشرت بعد ذلك ، فهذه سنّة حسنة ، ووضعوا في المساجد سخانات للمياه ، ففي أيام الشتاء يتمنى المتوضِّئُ أن يكون الماءُ ساخناً ، وهذه أيضًا سنة حسنة ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ * (رواه أبو داود) طبعاً هذه سنة نبوية مطهرة ، فإذا أصيب مسلم بمصاب أو بلاء ، أو حادث وفاة ، فهو بعيد عن جو الطعام والشراب ، فإذا قَدَّم له الأهل الطعام والشراب جاهزين ، فهذا اتباع لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ، فأبواب الخير كثيرة ، وقد بلغني أنّ أحَدَ الصالحين بالشام أوقف مبلغً كبيرًا من المال لكل غلام كُسِر معه إناء ، ويخاف عقاباً أليماً من وليه ، أو سيده ، يأتيه بقطعة من هذا الإناء فيعطيه إناءً كاملاً جديداً ، فهذا الإنسان أراد أن يخفِّف مآسي المجتمع ، وَاللَّهِ هذه سنَّة حسنة ، فإذا فكر الإنسانُ في أعمال الخير ، فأعمال الخير لا تُعدُّ ولا تُحصَى ، لكن هذه ليست بدعاً ، هذه من صلب الدين ، ومغطاة بآيات ، وأحاديث كثيرة ، من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة فإذا أَلْحَقَ شخصٌ بالمسجد مستوصفًا ، وعولِج فيه مريض فقير ، فهذا شيءٌ جميل ، وهذه سنة حسنة ، وإذا علَّم الإنسان الأولاَدَ القرآنَ الكريمَ ، فألزم المدرِّسُ نفسه بذلك ، فهذا شيء يُحمَد عليه . ويقول عليه الصلاة والسلام : طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، وأنفق من مال اكتسبه من غير معصية ، وخالط أهل الفقه والحكم ، وجانب أهل الزلل والمعصية ، طوبى لمن ذل في نفسه وحسنت خليقته ، وصلحت سريرته ، وعزل عن الناس شرَّه ، طوبى لمن عمل بعلمه ، وأنفق الفضلَ من ماله ، وأمسك الفضلَ من قوله ، ووسعته السنَّةُ ، ولم يَعْدُهَا إلى بدعة . هناك كثير مِن الأمثلة على البدع ، فبعضُ المسلمين يرغب في حضورِ احتفال رأس السنة ، وآخرُ يحبُّ أنْ يقلِّد الأجانب ، وهذه بِدَعٌ ، وفي خطبة الجمعة حدَّثتُكم أنّ عيد الأم شيءٌ مستورَد، لكن المسلمين يملكون من هذه البضاعة الشيءَ النفيس ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَقَدْ تَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ قَالَ ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا * (رواه النسائي) فلقد رأى النبيُّ الكريمُ أنَّ إكرام الوالدين وحسن صحبتهما أولى لذلك الرجل من الجهاد ، وعَدَّ الإحسانَ إليهما موازياً للجهاد في سبيل الله ، وإليكم حديثًا آخر ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ ، فَقَالَ : أَلَكَ وَالِدَانِ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ *. [ أخرجه الترمذي ] . حادثة أخرى ، عَنْ الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ ، وَكَانَ لا يُتَّهَمُ فِي حَدِيثِهِ قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِي اللَّه عَنْهمَا يَقُولُ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ ، فَقَالَ : أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ *. [ أخرجه البخاري ] . جاءه رجل ثالث قال له : لي أم تركتها وحيدة ، وأتيت لأجاهد معك يا رسول الله - أو كما قال - فقال عليه الصلاة والسلام : " قَابِلْ اللهَ في برِّها "، فبرُّ الوالدة عملٌ يكفي أن تقابل اللهَ به عز وجل ، " قَابِلْ اللهَ في برِّها " ، وقال عليه الصلاة والسلام : لو أن في اللغة كلمة أقل من "أف" لقالها الله عز وجل ، إذا نحن عندنا في العام 365 عيدًا للأم ، كل يوم أنت مكلف بطلبِ رضى الوالدة ، لا بالكلام بل بالإحسان والأدب وطلب الرحمة ، وتدعو لهما في آخر كل الصلاة؛ ربِّ اغفر لي ولوالدي ، رب ارحمهما كما ربَّياني صغيرة ، لكن في مجتمع آخر يكون للأم خمسةُ أولاد ، ولا ترى أحدًا منهم طيلة العام ، فلمثل هذا المجتمع كان عيد الأم ، أجَلْ لمثل هؤلاء كان عيد الأم ، لرجل يموت في بيته فتتفسخ جثتُه ، ويبقى ستة أشهر إلى أن يُقتحم عليه البيت من نتن الرائحة ، وله خمسة أولاد متزوجون يقيمون في لندن ، في المدينة نفسها التي هو فيها ، ولم يخطر على بال واحد منهم أن يزور أباه خلالَ هذه الأشهر الستة ، فلمثل هؤلاء كان عيد الأم ، وغالباً حتى في هذا العيد يكتفون بإرسال بطاقات زيارة ، بدل الزيارة الحقيقة . إذاً المسلمُ وسعته السنَّة ، ولم تستهوِه البدعة ، وكثير من الصراعات في حياتنا ؛ صراعات لها أول وليس لها آخر ، كلها مستوردة من الغرب ، فمصمِّم أزياء في فرنسا مثلاً ، لنزوة شيطانية ألَمَّتْ في عقله يمكن أنْ يجعل نساء المسلمين يخرجنَ على قواعد الشرع ، وإذا رضينا هذا فقد تُودع منا ، وإذا تتبعنا هذه الصراعات ، وبجَّلناها ، وقدّسناها ، فأين نحن إذًا من الإسلام . والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : طوبى لمن وسعته السنة ولم تستهوِه البدعة ، وفي هذا الحديث : طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، فلما يتعامَى الإنسان عن عيوب الناس وينشغل بعيوب نفسه فهذا مؤمن حقاً ، أمّا التافه فهمُّه الأول تتبُّعُ عورات الناس ، لِمَ فلانة طلقت، ولِمَ فلان ليس له أولادٌ ، يا ترى السبب منه أم منها ؟ وما دخلك أنت بينهما ، ومَن استشارك ؟ ومَن شكا لك الموضوع ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ *. [ أخرجه الترمذي ] . ومن علامة الإيمان .
( سورة المؤمنون : 1 ـ 3 ) . قال بعض المفسرين : كلُّ كلام لا علاقة له بذكر الله فهو لغو ملغي ، إن الله يحب معالي الأمور ، ويكره سفسافها ، ودنيِّها ، فلذلك طوبى لمن شغل عيبُه عن عيوب الناس ، وأنفق من مال كسبه من غير معصية . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) وَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ *. [أخرجه مسلم] . هذه الدعوات يا ربّ يا ربّ صارت هباءً منثورًا ، فإذا كان دخله حرامًا ، يا ربّ ويا ربّ ، فهذا نفاق ، وإذا لا يصلِّي الفرض إلا في الصف الأول وفي وقته ، والله شيء جميل ، لكنه يملك مطعمًا ، تباع فيه الخمرة ، قلت له : ما هذا ؟ فقال لي : إنْ شاء الله في رقبة شريكي ، أنا لا أذهب إلى المطعم أبدًا ، و الحمد لله ، ولكنه يقبض الربح في آخر السنة ، وإن شاء الله بيعُ الخمرة في رقبة شريكه كما يزعم ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ *، يعني أنا لا أعتقد شيئًا في الحياة أخطر من الدعاء ، لأنك بالدعاء تستعين بأقوى قوة بالكون ، وهي الله عز وجل ، وبالدعاء أنت أقوى إنسان على وجه الأرض .
كان سراقةُ بن مالك فارساً شجاعاً صنديداً طمع في الجائزة ، إنها مئتان من الإبل لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً ، وحينما اقترب منه غاصت قدما فرسه في الرمل أول مرة والثانية والثالثة ، شعر أن هذا ممنوع مني ، إذًا في الكون قوة إليهة تحميه بالدعاء ، فيكون أقوى إنسان على وجه الأرض . كذلك معركة الخندق معركة كبيرة ، كانت على وشك أن تستأصل المسلمين ، إنّها حرب تدميرية هدفها إنهاء الإسلام كليا ، فالله عز وجل أرسل رياحًا عصفت بخيام الكافرين فأطفأت نيرانهم ، وقلبت قدورهم ، ودبّت بينهم الخلافات ، وكان سيدنا نعيم بن مسعود قد أسلم في الوقت المناسب ، قال للرسول الكريم : مُرْني يا رسول الله ، فقال له : أنت واحد ، ولكن خذِّلْ عنا ما استطعت ، فذهب إلى الأحزاب وقال لهم كلاما عن اليهود ، وذهب إلى اليهود وقال لهم كلامًا آخر ، فأوقع بينهم الشقاق ، وكانت النتيجة أن انصرفت الأحزاب ، ونصر اللهُ عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ولا شيء قبله ولا شيء بعده . وفي حنين أمسك النبي الكريم حفنة من رمل ورماها في الوجوه وقال : شاهت الوجوه ، أنا النبيُّ لا كذب أنا ابنُ عبدِ المطلب إنّك بالدعاء تعلن أنّ لك عند الله رجاء ، واللهُ سبحانه وتعالى هو هو ، قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، وآياته هي هي ، وقوانينه هي هي ، في أي زمان إذا قلت : يا ربّ ، يقول الله عز وجل : لبيك يا عبدي ، فما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته ، فتكيده أهل السماوات والأرض ، إلا جعلت له من بين ذلك مخرجًا ، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني ، أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء بين يديه ، وأهويت الأرض من تحت قدميه، الدعاء شيء خطير ، أنت بالدعاء يستجيب الله لك ، لكن العبد الذي يقول : يَا رَبِّ يَا رَب، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ *. ويقول عليه الصلاة والسلام : " وأنفق من ماله كسَبَهُ من غير معصيةٍ ، وخالف أهل الفقه والحكم، فمِن أين ترجو الخير إن كنت بعيدًا عن أهل الخير ، ومِن أين ترجو أن تكون عالما إذا كنت بعيدًا عن مجالس العلم ، وهل سمعتُم في حياتكم أنّ إنسانًا صار طبيبًا وهو جالس في بيته أو وهو مقيم بالسوق ، فلا بد من التفرغ ، ومِن لزوم مجالس العلم ، ومن البذل ، حتى تكون محققًا لأهدافك . ويقول عليه الصلاة والسلام : وجانب أهل الزلل والمعصية ، طوبى لمن ذلّ في نفسه ، وحسنت خليقته ، وصلحت سريرته .
( سورة الشعراء : 88 ـ 89 ) . إذا كنتَ ذا قلبٍ سليٍم فهنيئا لك ، لأنّ الله معك ،" وعزل عن الناس شره ، طوبى لمن عمل بعلمه"، والله شيء جميل ، لِيَضَعْ كلُّ واحد منا يضع نفسه محلّ البدوي الذي قال للنبي الكريم : يا رسول الله عظني وأوجز ، فنظر إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له :
( سورة الزلزلة : 7 ـ 8 ) . قال الأعرابيُّ : قد كفيت ، فقال عليه الصلاة والسلام : فَقُهَ الرجل ، لو قال : فَقِه فلها معنى آخر، أما قال : فَقُه الرجل ، لو قال :َ فقِهَ ، يعني عرف أحكام الفقه ، لكنّه قال : فقُه أي أصبح فقيها ، كأنْ تكون آية قرآنية قرأتها فشعرت أنك اكتفيت بها لعشرات السنين ، تطبيقا لهذا الحكم ، قال تعالى :
( سورة طه : 123 ) .
( سورة البقرة : 38 ) . هذه آية ثانية .
( سورة النحل : 97 ) . فإِنْ فهمتَ مضمون هذه الآيات و عملتَ بها فقد فقُهتَ بإذن الله . واللِه في القرآن آيات كثيرًا ، كل آية إذا عقلتها تقول كفيت ، طوبى لمن عمل بعلمه ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك من قوله ، لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، فأنْ يقول قائلٌ : الحمد لله لا أسرق ، ما هذا الكلام ، هذه كبائر ، مِن البديهي ألاّ تسرق ، فإذا قال لك طبيب : أنا الحمد لله أقرأ وأكتب ، أفتأعجب من ذلك و تقول : تقرأ وتكتب!! هذه بديهية ، هذه يفعلها طالب ابتدائي ، أنت مطالب بعلم دقيق ، مطالب باستشارات ، مطالب بمطالعة عميقة ، مطالب بحل معضلات ، أمّا أنْ تقرأ وتكتب ، فهذه بديهيات ، أما إذا كنت في مجلس ، وطُرِح موضوع عن إنسان ، فسلَقَتْهُ الألسنة ، أنت كمؤمن ماذا تفعل ؟ أتجري مجراهم، لا ، فإمّا أن تقوم من هذا المجلس ، وإما أن تسكِتهم ، فهذه غيبة ، أو حدّثك شخصٌ بقصة عن فلان ، أتنقلها مكبر ؟ فيدبّ الخلافُ بينهما ، فاعلمْ أنّه لا يدخل الجنة نمّام أبداً ، أو قتات ، والمعنى واحد ، إنه شي خطير على مستوى اللسان ، هناك كبائر ، فاحذر الغيبة والنميمة والسخرية ، قالت له : صفيَّةُ قصيرة ، فقال لها : يا عائشة لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجتْ بمياه البحر لأفسدته ، فكلمة "قصيرة " ، يقولون قصيرة مثل المسطيجة ، وأحياناً يقولون إذا كان طويلاً زيادة: مثل الحورة !! أمَّا إذا كان قصيرًا زيادة ، فيغتابونه غيبةً مهلِكةً ، فالتطاوُل على الناس وصفاتهم في المجالس شيءٌ قبيحٌ ، وهذا كله حسابُه عند الله عسيرٌ ، وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم . لذلك : طوبى لمن أمسك الفضل من قوله ، ووسعته السنة ، ولم تستهوِه البدعة ، فعليك بكتاب الله ، أما يكفيك ؟ ففيه كل شيء ، والحديث النبوي الشريف ألا يكفيك ؟ وَاللَّهِ هذه الأيامُ أقرأ مسرحية شكسبير ، وماذا يعنيك من شكسبير ، أعنده حكمة ؟ أيصف لك نفوسًا مريضة؟ فإذا نقب شخصٌ في صندوق قمامة فماذا سيجد ، سيجد قشر برتقال ، والأكلة المتعفنة ، واللحمة المتفسخة ، هذا ما في صناديق القمامة ، فإذا قرأت الروايات والقصص ، فلن يطالعك منها إلاّ انحراف أخلاقي ، وهبوط نفسي وضعف إنساني ، وواقع مؤلم ، وفقر مدقع ، ولؤم لا يحتمل ، فعندما تنتهي من القراءة ، تشعر بانقباض شديد ، لأن الكاتب أوصلك إلى الوحل الذي صنعتْهُ قبائحُ الناس ، فمرَّغك في وحل البشر ، لكن اقرأ عن صحابي جليل ، ستبقى أسبوعًا مترنمًا ، واللهِ الأسبوع الماضي ذهبت إلى البيت ، ومن عادتي أن اقرأ قبل أن أنام ، لشدة استمتاعي بالقصة التي تلوتها على مسامعكم ، لكنّني واللِه ما تمكَّنتُ من أن اقرأ شيئاً ، فبقيت هكذا مستمتعا بهذه المواقف التي وقفها سيدنا أبو سفيان بن الحارث ، وما استُنبِط من مواعظ من هذه القصة ، اقرأ قصص الصحابة تجد نفسَك ارتفعت ، ويمكن أنْ تنسى نفسك أنك من مواليد الشام ومن أبناء سنة 1985 ، تُشَدُّ بروابط متينة إلى ذاك المجتمع الفاضل ، وإلى هذه القيم العالية ، وإلى هذه البطولات ، وتتمنى أن تكون خادمًا عندهم ، وتتمنى أن تكون حارسًا لهم ، وتعجب لِما هم عليه مِن هذا الكمال ، والإنسان يذكر الصالحين الأبطال ، فيتعطر المجلس بذكرهم ، ويعتمر قلبه بالإيمان ، وترتفع معنوياته ، ويشعر أنّه إنسان آخر ، بينما إذا قرأ القصص الحديثة ، فكأنّه خاض في صندوق قمامة إلى قمة رأسه ، تجد فيها السفه ، والحمق ، والخيانة ، والغدر ، واللؤم ، والفقر المدقع ، والغنى الفاحش ، والفرق الطبقي الذي لا يحتمل ، والضعيف الذي لا ناصر له ، لكن اقرأ ما جاء في كتاب الله ؛ فتروعك حقائقُ الإيمان ، إذْ يقرأ كلامًا يفيده ، طوبى لمن وسعته السنة ، ولم تستهوِه البدعة ، يقول أحدهم : واللهِ أنا أعلِّم ابني العزف على الكمان ، وهي آلة حنونة ، ولكن السنة ما اكتفيت بها ، وما لامست مشاعري ، وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ إن طرب المؤمن بكتاب الله لمقياسٌ فنيُّ بحت ، ولو اجتمع ذواقو الغناء في العالم لما طربوا مجتمعين كما يطرب مؤمن بآيات الله ، تذوب نفسُك مع معانيها ، وتشعر أن المتكلم هو الله عز وجل ، خالقك .
( سورة صَ : 44 ) . ثم اقرأْ هذه الآية :
( سورة الحديد : 16 ) . دخلت منزلَ شخصٍ منذ يومين ، وهو متقدم في السن ، حدّثني موجزًا بكلميتن ، فقد سمعنا أن لك دروسًا ، قلت له : نعم ، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي ، عبدي كبرت سنك ، وضعف بصرك وشاب شعرك ، وانحنى ظهرك ، فاستحيِ مني ، فأنا استحيي منك ، فقال : لا تضيِّق و لا تشدِّد فكل سنٍّ لها ظروفها ، فهو يبقى إلى الساعة الثانية يلعب بالنرد رغم كِبَر سنِّه ، فهذه مِن رجل كبُرت سنُّه ثخينةٌ حقًّا ، ولا تُقبَل أبدًا ، وعلمتُ أنّه جاءت امرأة إلى البيت ، وهي صديقة زوجتك فيقول : تعالوا إلى هنا ليجلسهما إليه ، رغم سنه ، بحجَّة أن غرفته فيها مدفأة ، فأنا أذكر هذا و أمثاله بالحديث القدسي : فاستحيِ مني فأنا أستحيي منك .
* * *
وهذه قصة صحابي ، ونقول " صحابي" والله أعلم بحاله ، فهذا الرجل فعل مأساة في تاريخ المسلمين ؛ قتل خير الناس بعد محمد صلى الله عليه و سلم ، وقتل شرَّ الناس أيضاً ، فلعل الله عز وجل يغفر له هذه بتلك ، فَمَنْ هذا ؟ هذا الذي أدمى فؤاد رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أدمى فؤاده حينما قتل عمه حمزة بن عبد المطلب يوم أحد ، وإنْ أحدٌ منكم أكرمه الله عز وجل بزيارة الحرم النبوي الشريف ، فلينتقل إلى الأماكن المقدسة ، ومنها أُحُد ، فإنه سيجد قبر سيدنا حمزة ، أشهر قبر هناك ، في ساحة معركة أحد ، ثم شفى قلوبَ المسلمين حينما قتل مسيلمة الكذاب يوم اليمامة ، إنه وحشي بن حرب الحبشي ، المكنى أبو دسمة ، و له قصة عنيفة حزينة دامية ، فأَعِرْهُ سمعك ليروي لك مأساته بنفسه ، قال وحشي: كنت غلاماً رقيقا لجبير بن مطعم أحد سادة قريش ، وكان عمه طعيمة قد قتل يوم بدر، على يد حمزة بن عبد المطلب ، فحزن عليه أشد الحزن ، وأقسم باللات والعزى ليثأرنّ لعمه ، وليقتلن قاتله ، وجعل يتربص بحمزة الفرص ، ولم يمضِ على ذلك طويل وقت ، حتى عقدت قريش العزم على الخروج إلى أُحُد للقضاء على محمد بن عبد الله ، والثأر لقتلاها في بدر، فكتَّبتْ كتائبها ، وجمَّعتْ أحلافها ، وأعدَّت عدَّتها ، ثم أسلمتْ قيادتها إلى أبي سفيان بن حرب ، فرأى أبو سفيان أن يجعل مع الجيش طائفة من عقيلات قريش ، أيْ من نساء قريش ، ممَّن قتل آباؤهن ، أو أبناؤهن ، أو أخوتُهن ، أو أحٌد من ذويهن في بدر، ليَحمسْنَ الجيش على القتال ، وَيَحُلْنَ دون الرجال ودون الفرار ، فكان في طليعة من خرج معه من النساء ، زوجه هند بنت عتبة ، وكان أبوها وعمها وأخوها قد قتلوا جميعاً في بدر ، ولما أوشك الجيش على الرحيل التفت إلي جبير بن مطعم وقال : هل لك يا أبا دسمة - يعني وحشيًّا - في أن تنقذ نفسك من الرق ، قلت : ومن لي في ذلك ؟ قال : أنا لك به ، قلت : وكيف ؟ قال : إن قتلتَ حمزة بن عبد المطلب عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق ، قلت : ومن يضمن لي الوفاء بذلك ؟ قال : من تشاء ، ولأُشهِدَنَّ على ذلك الناسَ جميعاً ، قلت : أَفعلُ وأنا لها ، قال وحشي : وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة ، قلما أخطئ شيئاً أرميه بها ، فأخذت حربتي ومضيت مع الجيش ، وجعلت أمشي في مؤخرته ، قريباً من النساء ، فما كان لي أربٌ بالقتال ، له مصلحة بسيدنا حمزة فقط ، وكنت كلما مررتُ بهند زوجة أبي سفيان ، أو مرَّتْ بي ، ورأت الحربة تلتمع في يدي تحت وهج الشمس تقول : أبا دسمة أشفِ واستشفِ ، فلما بلغنا أحد والتقى الجمعان خرجت ألتمس حمزة بن عبد المطلب ، وقد كنت أعرفه من قبل ، ولم يكن حمزة يخفى على أحد ، لأنه كان يضع على رأسه ريشة نعامة ، كما كان يفعل ذووا البأس من شجعان العرب ، وما هو إلا قليل حتى رأيت حمزة يهدر بين الجموع كالجمل الأورق ، وهو يهد الناس بسيفه هداً ، فما يصمد أمامه أحد ، ولا يثبت له شيءٌ ، وفيما كنت أتهيأ له ، وأستتر منه بشجرة أو حجر متربصاً أن يدنو مني ، حتى تقدمني إليه فارسٌ من قريش ، يدعى سباع بن عبد العزي ، وهو يقول : بارزني يا حمزة ، بارزني ، فبرز له حمزة وهو يقول : هلمّ إلي ، ثم ما أسرع أن بادره بضربة من سيفه فخر صريعاً ، يتخبط بدمائه بين يديه ، عند ذلك وقفت من حمزة موقفاً أرضاه ، أي صارت المسافة قريبة ، وجعلت أهز حربتي ، حتى إذا اطمأننت لها دفعت بها نحوه ، فوقعتْ في أسفل بطنه ، فخطى متثاقلاً نحوي خطوتين ، ثم ما لبث أن سقط والحربة في جسده ، فتركتها حتى أيقنت أنه مات ، ثم أتيته وانتزعتها منه ، ورجعت إلى الخيام وقعدت فيها ، إذ لم تكن لي حاجة غيره ، وإنما قتلتُه لأُعتَق ، ثم حمي وطيس المعركة وكثر فيها الكر والفر ، غير أن الدائرة ما لبثت أن دارت على أصحاب محمد ، وكثر فيهم القتل ، عند ذلك غدت هنُد بنتُ عتبة على قتلى المسلمين ، ومن ورائها طائفة من النساء ، فجعلت تمثّل بهم ، فتبقر بطونهم ، وتفقأُ عيونهم، وتجدع أنوفهم ، وتصلم آذانهم ، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم دُعِي إلى التمثيل في قتلى بدر ، فقال عليه الصلاة والسلام : لا أمثل بهم فيمثل الله بي ولو كنت نبياً ، ثم صنَعَتْ من الأنوف والآذان قلادةً وأقراطاً فتحلّت بها ، ودفعت قلادتها وقرطيها الذهبيين لي وقالت : هما لك يا أبا دسمة ، هما لك ، فاحتفظتُ بهما فإنهما ثمينان ، ولما وضعت الحرب أوزارها ، عدتُ مع الجيش إلى مكة فبرَّ لي جبيرُ بن مطعم بما وعدني ، وأعتق رقبتي ، فغدوتُ حرًّ ، لكن أمر محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل ينمو يوما بعد يوم ، وأخذ المسلمون يزدادون ساعة بعد ساعة فكنتُ كلما عظم أمر محمد ، عظم عليَّ الكرب ، وتمكن الجزع والخوف من نفسي ، وما زلتُ على حالي هذه حتى دخل محمد مكة بجيشه الجرار فاتحاً ، والعاقبة للمتقين ، عند ذلك ولَّيْتُ هارباً إلى الطائف ، ألتمس فيها الأمن ، لكن أهل الطائف ما لبثوا كثيراً حتى لانوا للإسلام ، وأعدُّوا وفداً منهم إلى لقاء محمد ، وإعلان دخولهم فيه ، وعندما أنزل ربنا عز وجل قوله تعالى :
( سورة النصر : 1 ـ 3 ) . قالوا : في هذه الآية نَعيُ النبي عليه الصلاة والسلام ، يعني أنّ رسالته تحققت وتمَّت ، وقال عليه الصلاة والسلام : يأتي على أمتي زمان يخرج الناس من دين الله أفواجًا ، وكيف ذلك ؟ فهذه مثلاً مضى عليها أربعون سنة محجَّبة ثم سفرت وأظهرتْ مفاتنها ، وتدَّعي أنّ خلقها قد ضاق ، بل قد ضاقت نفسُها ذرعًا بالحجاب ، فيخرج الناسُ أفواجا ، كما دخلوا أفواجاً ، عند ذلك قال وحشي : سقط في يدي ، وضاقت عليَّ الأرضُ بما رحبت ، وتعيَّت عليّ المذاهب ، فقلت : ألحقُ بالشام ، أو باليمن ، أو ببعض البلاد الأخرى ، فوالله إني لفي غمرة همَّي هذه إذْ رقّ لي رجل ناصح وقال: ويحك يا حبشي ، إن محمدًا واللهِ لا يقتل أحدًا من الناس إذا دخل في دينه ، وفي الإسلام قواعد صارمة ، ولو أنّ هذا الحبشي قالها نفاقاً ، أو شكلاً ، أو تقية ، أو ممالأةً ، أو مماراةً ، لو قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمد رسول الله ، فقد حقَن دمه ، قال له : ويحك يا حبشي ، إن محمدًا والله ما يقتل أحدًا من الناس إذا دخل دينه ، وتشهد بشهادة الحق ، فما أنْ سمعتُ مقاله ، حتى خرجت ميمِّمًا وجيه شطرَ يثرب ، أبتغي محمدًا ، فلما بلغتها تحسّست أمَره ، فعرفت أنه في المسجد ، فدخلت عليه في خفةٍ وحذر ، ومضيت نحوه ، حتى صرت واقفاً فوق رأسه ، فقلت أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا رسول الله ، فلما سمع الشهادتين ، رفع بصره إليّ ، فلما عرفني رد بصره عني ، وقال : أوحشي أنت ؟ قلت : نعم يا رسول الله ، فقال : اقعد وحدِّثني كيف قتلت حمزة ، فقعدت فحدثت خبره ، فلما فرغت من حديثي ، أشاح عني بوجهه ، وقال : ويحك يا وحشي ، غيِّب وجهك عني ، فلا أرينَّكَ بعد اليوم ، أيْ لن يقتله رسول الله ، ففي الإسلام قواعد ثابتة ، لكن غيِّبْ وجهك عني ، فلا أرينَّك بعد اليوم ، فكنت منذ ذلك اليوم أتجنب أن يقع بصر النبي الكريم عليَّ ، فإذا جلس الصحابة قبالته أخذتُ مكانًا خلفه ، وبقيتُ على ذلك حتى قبض النبي عليه الصلاة والسلام ، فموقفي مُخْزٍ إلى يوم القيامة ، ثم أردف وحشي يقول : وعلى الرغم من أني عرفت أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله ، فقد ظللتُ أستشعر فداحة الفعلة التي اجترحتها ، وأستفظع الأمرَ الجلَلَ الذي نزل بي ، وطفقت أتحيَّنُ الفرص كي أكفِّر عمَا سلف، وصدَق النبي الكريم إذْ قال : " ألا يا رب شهوةِ ساعةٍ أورثت حزناً طويلاً "، فعلى الإنسان أنْ يفكِّر مليون مرة قبل أنْ يعمل عملاً ، كقتل النفس ، فيمكن لعملٍ ما أنْ يجعله في حجاب إلى يوم القيامة ، فقدْ يكون ذاك العملُ أحَدَ أسباب هلاكه ، " ألا يا رب شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلاً "، ثم قال : فلما لحق النبي الكريم بالرفيق الأعلى ، وآلت الخلافة إلى صاحبه أبي بكر ، وارتدَّ بنو حنيفة أصحاب مسيلمة مع المرتدين ، جهّز خليفةُ رسول الله جيشاً لحرب مسيلمة ، فقلت في نفسي : إن هذه وَاللَّهِ فرصتك يا وحشي فاغتنمها ، ولا تدَعْها تفْلتُ من يديك ، ثم خرجت مع جيوش المسلمين ، وأخذت معي حربتي التي قتلت بها سيد الشهداء حمزة ، وآليت على نفسي أن أقتل بها مسيلمة الكذاب ، أو أظفر بالشهادة ، فلما اقتحم المسلمون على مسيلمة وجيشه حديقة الموت ، والتحموا بأعداء الله جعلت أترصد مسيلمة ، فرأيته قائماً والسيف في يده ، ورأيت رجلاً من الأنصار يتربص به مثلما أتربص أنا به ، فلما وقفتُ منه موقفاً أرضاه هززت حربتي حتى إذا استقامت في يدي دفعت بها نحوه فوقعت فيه ، وفي نفس اللحظة التي أطلقت حربتي على مسيلمة كان الأنصاري يثب عليه ويكيل له ضربة بالسيف ، فربك يعلم أيّنا قتله ، فإن كنت أنا الذي قتلته أكن قد قتلتُ خير الناس بعد محمد ، وقتلتُ شر الناس بعده ، لعلّ الله عز وجل يجعل هذه بتلك . فهذه القصة هدفها أنّ الإنسان أحياناً في ساعة غفلة ، أو طغيان الشهوة ، أو الطمع في المال ، أو القوة العمياء ، يرتكب حماقة كبيرة من السذاجة والغباء ، حيث تقول : أتوب منها ، هذا كلام ، فلما تشعر النفس بشناعة عملها وفظاعة فعلتها فليس مِن قوة تزيح عن كاهلها الشعور بالإثم ، فمثلاً إذا كان الإنسان في ساعة سكر شديد ، قام يذبح ابنه ، وبعد ما ذهب عنه أثرُ السكر وصحا منها رأى ما فعلتْ يدُه ، ولات حين مندَم ، ولو تصورنا أنّ أحدً لم يحاسبه ، ولم يعتقله ، وليس مِن قضاء يحاكمه ، لكنّه يتفتَّت ألمًا وحسرةً ، و يموت كل ساعة مئة مرّة ، لماذا ؟ لأن عذاب النفس يسبق كل عذاب ، و قد حُكيَ لي أنّ شخصًا منذُ ثلاثين سنة تقريبًا في بيروت دعس طفلاً بسيارته ، فلما أوى لينام ما استطاع ، والحادث وقع الساعة الواحدة ليلاً حسب الرواية ، إذْ بعث الوالدُ ابنه لشراء حاجة من الدكان ، وبينما الولدُ يقطع الشارع دعسته سيارة فمات ، فأول يوم ما استطاع أن ينام ، وثاني يوم ، وثالث يوم ، ورابع يوم ، ومضى عليه عشرون يوماً لا ينام ، فالتجأ إلى طبيب نفسي علَّه يجد ما يريحه و يهدِّئ من رَوعه ، فحذارِ من ساعة الغفلة ، ومن ساعة طغيان الشهوة . والحمد لله رب العالمين .
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، اللهم يا أكرم الأكرمين أغننا بالعلم ، وزيِّنا بالحلم ، وأكرمنا بالتقوى ، وجمِّلنا بالعافية ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . بسم الله الرحمن الرحيم وصلنا في الدرس الماضي في بحث الفقه إلى " التيمم "، وتحدثنا عن تعريفه ، وعن شروطه ، ووصلنا إلى أركانه ، وسننه . التيمم له ركنان فقط : 1ـ مسح الوجه 2ـ ومسح اليدين فقط . وأما السنن فسبعة : 1ـ التسمية في أوله ، لا بد من أن تسمي في أول التيمم . 2ـ الترتيب ، تبدأ بالوجه ، وتثني باليدين . 3ـ الموالاة ، تمسح الوجه ، وتمسح بعده اليدين مباشرة ، دون أن تمسح الوجه وتمضي إلى حاجة ، ثم تعود فتمسح اليدين ، وهذا معنى الموالاة . أكرِّر : التسمية : بسم الله الرحمن الرحيم ، والترتيب : مسحُ الوجه أولاً ، واليدين ثانياً ، والموالاة : متابعة مسح الوجه واليدين في وقت واحد . 4ـ وإقبال اليدين بعد وضعهما في التراب ، 5ـ وإدبارهما . تضع اليدين على التراب وتجعلهما تقبلان وتدبران . 6ـ ونفضُهما ، إذا علقت بهما كمية من التراب كثيرة ينبغي أن تنفضهما . 7ـ تفريج ما بين الأصابع . أكرِّر : إقبال اليدين ، وإدبارهما ، ونفضهما ، وتفريج ما بين الأصابع . وندب تأخير التيمم لمن يرجو الماء ، بعثتَ إنسانًا ليأتي بالماء ، وأنت في انتظاره ، فيندب تأخير التيمم ، طبعاً قبل خروج الوقت ، فإذا خرج الوقت المستحب ، ينبغي أن تتيمم وأن تصلي. ويجب طلب الماء إلى مقدار أربعمئة خطوة ، تقريباً نصف كيلومتر ، إن ظن قربه مع الأمن وإلا فلا ، فإذا كنت مثلاً في أثناء حرب داخل أرض عدو ، فالأمن غير متوافر ، فلو أن الماء على بُعد ثلاثمئة متر لا ينبغي أن تذهب ، وإذا توافر الماء إلى قدر نصف كيلومتر مع وجود الأمن تذهب إليه ، وإلا فلا . ويجب طلبه ممن هو معه ، واحد معه ماء فمرّت شاحنة عندها مستودع ماء ، فإن كان في محل تشح به النفوس ، أو غلب على ظنك أن أحداً لن يلبيك ، فتيمَّمْ وصلِّ ، لكن إذا كنتَ في أرض خيّرة وأناس طيبين ، أو كنت في أرض يغلب على أهلها حبُّ الخير ، فاطلب الماءَ من المارة ، وإن لم يعطه إلا بثمن مثله لزمه شراؤه ، كأنْ يقال لك : صفحة الماء بليرة ، أما أن تكون بمائة ليرة ، فهذا ليس ثمن مثله ، فصار ذاك ابتزازًا لكن الصحيفة بليرة ثمن معقول ، وإن لم يعطه إلا بثمن مثله لزمه شراؤه إن كان المالُ فاضلا عن نفقته ، معه مال زائد عن حاجته فالسعر معقول ، والمبلغ موجود وفائض ، عندئذ لزمه الشراء . ويصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض ، فكلما كثرت الفرائض قلَّ سعر الماء ، فيقل السعر للمرة الواحدة يقسمهم على عشرة فروض ، أو على خمسة فروض ، يجد أنّ الفرض الواحد تكاليفه قليلة . وفي بعض المذاهب لا يصح التيمم قبل دخول الوقت ، ولكن في المذهب الحنفي ، يصح التيمم قبل دخول الوقت . كذلك إن كان أكثر البدن أو نصفه جريحاً تيمَّم ، ولو وجدَ الماء ، فمثلاً وقع حادث ، ومعظم البدن مضمد ، أو فيه جروح ، ورضوض ، فما دام نصف البدن أو أغلبه مجروحًا فهذا يتيمم ولو وجد الماءَ . أمّا إنْ كان أكثرُه صحيحاً غسَله ومسَح على القسم المضمد . ولا يجمع بين الغسل والتيمم ، فلا يجوز الجمع بينهما ، فما دام يستطيع الغسل ، والماء متوافر ، فلا ينبغي أن يجمع مع الغسل التيممَ . ماذا ينقض التيمم ؟ كلُّ ما ينقض الوضوء ينقض التيمم ، ويضاف إليه شيء آخر وهو القدرة على استعمال الماء الكافي . وبعد فهذه فقرة من باب : " أرأيت لو أنه فعل كذا وكذا "، هؤلاء سمُّو في علم الفقه "أرائتيين" ، أحد الصحابة الأجلاء عرضت عليه قضية نادرة ، فقال رَضِي اللَّه عَنْه أَوَقَعَتْ ؟ قيل لا ، قال : إن وقعت نفتي بها ، توفيرًا للوقت ، وهذه الحالة النادرة ؛ قال : رجل مقطوع اليدين والرجلين ، وبقي منه الجذعُ ، هذا ما حكمه ؟ قال : هذا يصلي من دون طهارة ، ولا وضوء ولا تيمم عليه ، فمِن أندر الحالات أن يعيش الإنسان جذعاً فقط ، من غير يدين ولا رِجْلين ، وعلى كلٍّ فنحن في صدد القضايا الواقعية ، وهذا هو الصواب من غير تنطُّع ، إذاً التيمم له ركنان وله سبعة سنن ، أمّ الركنان فإنّي أعود لذكرهما مع إعادة موجزة للموضوع كله : مسح الوجه ، ومسح اليدين ، فتُمسَح اليدُ ظاهرُها أولاً وباطنُها ثانياً ، اليمين ثم الشمال ، والوجه من منبت الشعر إلى أسفل الذقن ، وعرضاً إلى شحمتي الأذنين ، وركناه مسح اليدين والوجه ، وسننه التسمية بسم الله الرحمن الرحيم ، والترتيب ، مسح الوجه ثم اليدين ، والموالاة ، الوجه واليدان في وقت واحد ، وإقبال اليدين بعد وضعهما في التراب وإدبارهما ، ونفضهما ، وتفريج الأصابع ، وتأخير التيمم لمن يرجو الماء ، وطلب الماء إلى مقدار أربعمئة خطوة ، إن ظن قربه مع الأمن ، وإلا فلا ، ويجب طلبه ممن هو معه مِن المارة إن كان في محل لا تشح به النفوس ، أو يغلب على ظنه أن الناس لا يبخلون بالماء ، وإن لم يعطه إلا بثمن مثله لزمه شراؤه، إن كان معه فاضلٌ عن نفقته ، ويصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض والنوافل ، وصح تقديمه على الوقت ، يعني يجوز التيمم قبل دخول الوقت ، ولو كان أكثر البدن أو نصفه جريحاً تيمم ، وإن كان أكثره صحيحاً غسله ومسح على القسم الجريح ، ولا يجتمع غسل وتيمم ، وينقضه ما ينقض الوضوء ، ويضاف إلى النواقض ناقض آخر وهو القدرة على استعمال الماء الكافي ، أما مقطوع اليدين والرجلين فإذا كان في وجهه جراحة يصلي بغير طهارة ولا يعيد .
* * * والآن إلى إحياء علوم الدين . طبعاً قد يسأل سائل ما حكمة تنوع الموضوعات ، تنوع الموضوعات يدفع السقم ، فنتحدّث في الفقه عشر دقائق ، على مدى الأشهر والسنوات فنتعلم كل شيء ، لكن لو أمضينا الوقت كله بالفقه لثقل ذلك على النفس ، والآن إلى صفات العلماء بالله تعالى ، وهنا صفحة يجب أن اقرأها لكم وأشرحها . من صفات العلماء بالله تعالى أن يكون أكثر اهتمامه بعلم الباطن ومراقبة القلب ، ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه . فهناك علم الظاهر ، رجلٌ وقف ليصلي فصلى صلاة صحيحة ، وقف منتصبًا ، وقرأ وفق أحكام التجويد ، وركع مطمئناً ، وسجد مطمئناً ، فقد توافرتْ جميع الصفات الواردة في الصلاة الصحيحة ، لكن قلبه ساهٍ ، مشغول بالدنيا ، كل خواطره تواردتْ عن الدنيا ، وجميع المشكلات في الأسبوع تأتيه وهو في الصلاة ، لماذا لا تزوره أخته ، فما لها حق في عدم زيارته، وهنا انتهت الفاتحة ، وقال : ولا الضالين ، ثم تذكَّر أنها زارته من يومين ولم تجده، ثم قال : آمين ، أهذه هذه الصلاة ؟ ولو أنه طبَّق الشروط تطبيقًا ظاهريًا فإنها صلاة ، لكن هنا الإمام الغزالي رَضِي اللَّه عَنْه يلفت النظر إلى أن علماء الآخرة ينبغي أن تكون عنايتهم منصبةً على تطهير القلب ، والالتفات إلى الله عز وجل ، وعلم الباطن . يقول : إن المجاهدة تفضي إلى المشاهدة ، شيء جميل ، المجاهدة تفضي إلى المشاهدة، أتحب أنْ تجرِّب فجرِّب ولا بأس ، اعمل عملاً صالحًا يكلفك شيئًا ثمينًا ، اخدم إنسانًا خدمة شاقة، امشِ معه عشر ساعات ، لا تبتغي بها إلا وجه الله ، زرْ مريضاً في أقصى المدينة ، اركب أول حافلة ثم الأخرى لبُعدِ المسافة ، وخذ له معك هدية ، وحدثه عن الله وارجع ، إنْ رأيتَ واحدًا بحاجة إلى مال ، فاقتطع جزءًا من مصروفك وادفعه له ، اعمل عملاً صالحًا حقيقيًا ، فستجد نفسك إذا قرأت القرآن تنهمر الدموعُ انهمارًا ، وتفهم شيئاً لم تكن تفهمه من قبل ، هاتان الكلمتان دقيقتان ، جاهِدْ تشاهِدْ ، شيء عجيب أن العلم بالله تعالى ثمنه ليس من جنسه ، بل ثمنه بعيد عن جنسه ، فغضُّ البصر ، وإنفاق المال ، وخدمة الناس ، والتودُّد إليهم ، وتقديم خدمات قيمة لهم ، والمساعدة ، والنصيحة ، وبذل الوقت رخيصًا ، وبذل الجهد سخياً ، وتقرأ القرآن فتنهمر الدموع، والفكر مفتوح ، والعقل متفتح ، تفهم عن الله أشياء لم تقرأها في تفسير ، هذا معنى قول الإمام الغزالي :" جاهد تشاهد " .
( سورة العنكبوت : 69 ) . هذه المعية لمن ؟ للمحسنين ، معية الله بتجلِّيه على قلبك ، فهذه المشاهدات القلبية التي اتصف بها الصوفيون لا تتأتَّى إلا بالمجاهدة ، بالِغْ في غضِّ البصر ، وبالغ في العمل الصالح ، ولا تنتظر أن يأتيك الناس ويطلبون منك عملاً صالحاً ، بل أنت ابحث عن عمل صالح ، وكل واحد منا لو بحث لوَجَد في انتظاره آلاف الأعمال الصالحة ، ألا يستطيع أن يزور مريضاً ؟ ألا يستطيع أن يقدم مساعدة ؟ ألا يستطيع أن يفعل معروفاً ؟ ألا يستطيع أن يخدم إنساناً ؟ ألا يستطيع أن يمشي في حاجة أخيه ؟ الأعمال الصالحة كثيرة جداً ، فلو أنك تتبعتها ، وبحثت عنها لوجدتها، فإذا فعلتها سعدت برضى الله عز وجل ، وإذا أردتم ملخص الملخص دون الغوص في متاهات العلوم الدينية ، ودون تضييع الوقت الثمين في علوم لا تنفع ولا تضر ، إذا أردتم أن تكونوا على جوهر حقيقة الدين فعليكم بالمجاهدة ، فإذا جاهدتم شاهدتُم ، هكذا يقول الإمام الغزالي. فإن المجاهدة تفضي إلى المشاهدة ، ودقائق علوم القلوب تتفجر بها ينابيع الحكمة من القلب ، وأما الكتب والتعليم فلا تفي بذلك . كتب فقط ؟ علوم عصرية تعارف الناسُ عليها ، هذا درس حقوق ، عنده أصول القانون ، تاريخ القانون ، قانون المقارن ، الأحوال الشخصية الفرائض ، علم المواريث ، أصول المحاكمات ، درجات المحاكم ، أنواع الأحكام ، آداب القضاة ، فهذه علوم عصرية ، ثم دارس للفيزياء ، درس الفيزياء ، والكيمياء ، والحرارة ، والمغناطيس ، والضوء ، والكهرباء والطاقة ، والطاقة الذرية ، والكيمياء النووية ، ثم دارس للرياضيات ، درس الرياضيات الحديثة ، والرياضيات التقليدية ، والهندسة الفراغية ، والهندسة المستوية ، ثم اللغة العربية ، فهذا درس أصول اللغة ، وعلوم اللغة ، وتاريخ اللغة ، والنحو والصرف ، هذه كلها فروع الجامعة ، وكل فرع له مجموعة مواد ، وكتب تقرؤها ، وتفهمها ، وتحفظها ، وتلخصها ، وتذاكر فيها ، تأخذ درجة مقبول ، أو جيد ، أو امتياز ، فتنجح ، وتأخذ شهادة ، هذه أشياء كلها مبذولة للناس ، أما الهدى فغيرُ هذا الشيء ، فإذا نزل الدينُ إلى هذا المستوى ، وصار كتبًا تقرأ ، وتُحفظ ، وتلخَّص، وتُفهم ، ويتكلم الناسُ بها في المجتمعات ، هذا مثقف ثقافة تاريخية ، وذاك مثقف ثقافة حقوقية ، وآخر مثقف ثقافة إسلامية ، وهذا دراسته بالفلك ، وذاك دراسته بالرياضيات ، وآخر دراسته بعلوم التجارة ، ويحمل بكالوريوس تجارة ، أو بكالوريوس بالمحاسبة ، هذا بالإعلام ، وذاك بالصحافة ، وغيرُه في الأدب ، وآخر في اللغة الأجنبية ، وهذا بالتاريخ ، وهذا في الجغرافية ، وهذا بالفلسفة ، وهذا بالشريعة ، نزلنا الدين العظيم إلى مستوى العلوم العصرية ، لكل مؤلفات ، وكتب ، وفهارس ، وتواريخ ، ومقررات ، وامتحانات ، الفصل أول ، والفصل الثاني ، والنتيجة جيد أو مقبول أو امتياز ، وهذا مرقن قيده ، وآخر مفصول ، هذا يحمل شهادة في الشريعة ، أما الهدى فشيء آخر ، والهدى انضباط ، وغض بصر ، وخوف من الله عز وجل ، فإنّ رأس الحكمة مخافة الله ، فلو قطعتَ رأس الثعبان مثلاً لمات ، فلو ألغيتَ خوف الله هل بقيت حكمة ؟ لا تبقى حكمة ، إذًا هذا العلم بالله تعالى ، وثمنه المجاهدة ، ولتبقَ الآية في ذهنك : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " هذه آية يجب أن تحتلّ بؤرةً ذهنك دائماً . قال العلماء : أما الكتب ، والتعليم من خلالها فلا تفي بذلك ، بل الحكمة الخارجة عن الحصر والعد إنما تنفتح بالمجاهدة ، والمراقبة ، ومباشرة الأعمال الظاهرة والباطنة . قال لي صديق : كنتُ راكبًا سيارتي قادمًا من الزبداني الساعة الثانية عشرة ليلاً ، وجدتُ امرأة مع رجل وتحمل وعلى يديها طفل ، وشعرت أنهما بحاجة لمساعدة فوقفت ، صعد الزوج وزوجته ومعهم طفل حرارته مرتفعة 40 ـ 41 درجة ، ويظهر أنهم غرباء ، كان ذلك في أثناء أحداث لبنان ، فأخذتهم إلى طبيب ، ومن الطبيب للصيدلي ، ومشفى من أجل ضرب الإبرة ، وقال : أربع ساعات أمضيتها في خدمة هذه الأسرة ، فوصل الساعة الرابعة إلى البيت مرهقًا ، ثم قال : أمضيت أسبوعين في سرور عارم ، وكأنني في الجنة ، ولما أُصلي أشعر كأنني محلِّق في جوِّ السماء ، ولما أقرأ القرآن أشعر كأنني أفهم القرآن كلمة كلمة وحرفًا حرفًا ، وهذا شيء ثابت حقًّا ، والتجربة أكبر برهان ، فابحث عن عمل صالح وافعله قربة إلى الله عز وجل ، ثم انظر كيف أن الله عز وجل يفتح قلبك لمعرفته ، ويتجلى عليك بالسكينة ، والطمأنينة وتحس أنك إنسان آخر ، هذا ملخص الكلام ، واسمعوا هذه الكلمة . قال : فكم من متعلم طال تعليمه ، ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة . نسأله : ما تفسير هذه الآية ، يقول : واللهِ سأراجع كتب التفسير ، طيب وهذه الآية ، يقول : والله نسيتُ تفسيرها ، وسأرى ماذا قال عنها العلماء ، رَجَعَ بعد حين وقال : واللهِ قال البيضاوي مثلاً كذا وكذا ، حسنًا وهذه الآية التي في زيد ، قال : واللهِ إنّ سيدنا رسول الله شاهد السيدة زينب في وضع متبذِّل فأعجبه حسنُها ، قال : سبحان الله ، فسمعتْه ، فحدثت زيداً فكرِهها ، فنوى طلاقها ، هكذا قالوا عن رسول الله في التفسير ، أعوذ بالله ، أهذه أخلاق رسول الله ، فإذا كان الشخصُ لا معرفة له برسول الله ، وقرأ في التفسير كلامًا مغلوطًا ، أفيصدِّقه ؟ فليحذرِ المسلم المؤمن مِن التقوُّل على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ، فهو وإياهم قمّة الهرم البشري . عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ * . [ أخرجه مسلم ] أنتَ لك عقلٌ ، ولا بد لك من موقف ، فلو قال المفسر : إنّ القصة هذه هكذا رواها الطبري ، أَأُعفِي من الإثم ، لا ، كيف قبلتها ؟ وكيف صدقتها . قال العلماء : وكم من مقتصر على المهم في التعلم ، ومتوافر على العمل ومراقبة القلب ، فتح الله له من لطائف الحكمة ما تحار به عقول ذوي الألباب . فإذا تعلم الإنسان الأساسيات ، والتفتَ إلى قلبه ، ولعمله الصالح ومجاهدة نفسه وهواه ، فتح اللهُ عز وجل على قلبه من معاني كتاب الله ما تحار به الألباب ، وهذا الشيء ليس مبذولاً لواحد فقط ، بل هو لكل واحد منكم ، وهذه عظمة الإسلام ، لا أحد أحسن من أحد ، فالتفاضل في درجات الإيمان فقط ، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، وكل من سار على هذا الدرب وصل إليه وإلى هدفه ، وأعظم الأهداف مبذولةٌ لكل مسلم ،ليس في الإسلام طبقة رجال الدين ، وطبقة بعدهم ثانية ، وطبقة وسطى ، لا شيء مِن هذا ، بل كل مسلم مفتوح أمامه الباب ليصل إلى أعلى مستوى في الإيمان ، قال عليه الصلاة والسلام : مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرًثَهُ الله عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ *. الحديث الأخير في هذا الموضوع ، قال الإمام علي رَضِي اللَّه عَنْه : القلوب أوعية ، وخيرها أوعاها للخير ، إما أكثرها سعةً ، أو أكثرها وعياً ، وخيرها أوعاها للخير ، والناس ثلاثة ، عالم رباني ، يعني يستمد علمه من الله عز وجل .
( سورة البقرة : 282 ) .
( سورة التغابن : 11 ) .
( سورة الأنبياء : 79 ) . إلا أن يؤت فهماً في كتاب الله ، هذا نص قرآني " ففهمناها سليمان" وهذه آية ثانية " واتقوا الله ويعلمكم الله " وهذه آية أخرى " ومن يؤمن بالله يهد قلبه" هذه آيات مِن القرآن الكريم تؤكد أن الله سبحانه وتعالى إذا رأى من عبده صِدْقاً في طلبه فتح قلبه لمعرفته . لذلك قال أحد العلماء الكبار وقد دخل إلى مسجد فرأى فتًى يحدث الناس ، والناس مقبلون عليه ، فرأى إقبال الناس على هذا الفتى مما يحط من قدره هو ، فهو العالم الكبير ، الذائع الصيت ، العالم العلامة الحبر الفهامة ، وحيد عصره ، فريد زمانه ، رأى فتى صغيرًا ، لا يعرفه أحد ، والناس مقبلون عليه إقبالاً شديداً ، فأراد أن ينتقص من شأنه ، فقال : واللهِ يا فتى ما سمعنا بهذا الكلام ، من أين جئت به ؟ فقال الفتى على مسمع الناس جميعًا : يا شيخ أتعلمت كل العلم ؟ قال : لا ، فقال الفتى : أتعلَّمتَ جله ؟ قال : لا ، فقال الفتى : أتعلمتَ نصفه ؟ فخجل ، وقال : نعم ، قال له : هذا من النصف الذي لم تتعلمه إذًا ، فقال هذا العالِم : والله ما ندمت على قول قلته في حياتي كندمي على قولي لهذا الشاب : يا فتى ما سمعت بهذا الكلام . والإنسان حين يعرف أن العلم بحرٌ ما له نهاية ، يتواضع ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه علم فقد جهل ، عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق ، فاحذر يا كميل أن تكون منهم ، إياك أن تكون منهم ، فالناسُ ثلاثة أصناف الناس ؛ عالم رباني ، ومتعالم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق ، فاحذر يا كميل أن تكون منهم ، العلم خير من المال ، لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق ، العلم دين يدان به ، العلم دين ، تكتسب به الطاعة في الحياة ، وتكتسب به جليل الأحدوثة بعد الممات ، العلم حاكم ، والمال محكوم ، ومنفعة المال تزول بزواله ، فإذا فلَّس إنسان فجأة وأُخِذتْ أمواله منه فقد زالت كل منافع المال ، أما منافع العلم فلا يستطيع أحد على وجه الأرض أن يسلبها منك ، مات خزان المال وهم أحياء ، وهم في قمة حياتهم ، وأوج شبابهم ميتون كما قال الله تعالى :
( سورة النحل : 21 ) . همُّهم بطونهم ، وقبلتهم نساؤهم ، والدنيا أكبر همهم ، ومبلغ علمهم ، يغضبون لزوالها ، ويرقصون طربًا لمجيئها ، وهم في غفلة عن الموت ، يأتيهم بغتة فيصعقهم ، مات خُزان المال وهم أحياء والعلماء أحياء باقون ما بقي الدهر . ثم قال الإمام علي كرم الله وجه : إن ها هنا علما جمًّا ، آه لو وجدت من حمله ، بل أجد طالب غير مأمون ، يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا ، انظر إلى هذا الصنف الخطير ، يريد الدنيا ، يريد الطعام والشراب ، والمال ، والوجاهة ، عن طريق الدين ، ويستطيل بنعم الله على أوليائِهِ ، ويستظهر بحججه على خلقه ، هذا صنف ، صنف أراد الدنيا عن طريق الدين . الصنف الثالث : " أو مناقض لأهل الحق" ، لكن يُزرع الشك في قلبه لأول عارض ، مثلاً هو مع هذا العالم خمس سنوات ، ثم قرأ مقالة في مجلة فيها : " أنهم عرفوا جنس الجنين ذكر أم أنثى "، فالمعنى عنده أنّ القرآن ليس صحيحًا ولا صوابًا ، وأنّ الدينَ خَلْط ، فهذا الإنسان ضعيف التفكير ، فأولُ شخصٍ ذكيٌّ ، لكنه استخدم ذكاءه لاغتنام الدنيا عن طريق الدين ، وهذا غير مأمون ، أما الثاني فليس عنده هذا الخبث ، لكنه محدود التفكير ، يشك في الأمور بسرعة ، هذا النوع الثاني لا بصيرة له ، وهو لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، والثالث : أو موهوماً باللذات ، سلس القياد إلى الشهوات . الصنف الرابع : مغرماً بجمع الأموال والادخار ، فهؤلاء جميعاً أقربُ شبهٍ بهم الأنعامُ السائمةُ ، اللهم هكذا يموت العلم ، إذا مات حاملوه ، ثم لا تخلو الأرض من قائم لله بحُجَّةٍ ، إما ظاهراً مكشوفاً ، أو مستتراً مقهوراً ، هذا إما مشهورٌ ، وإمّا مغمورٌ ، لكيلا تبطل حجج الله تعالى وبيناته ، وكم هؤلاء الصادقون ؟ وأين أولئك ؟ هم الأقلون عدداً ، والأعظمون قدراً ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة ، يحفظ الله بهم حججه ، حتى يودعوها مَنْ وراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هَجَمَ بهم العلمُ على حقيقة الأمر ، فباشروا روح اليقين ، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون ، يعني رضوا ببيت صغير ، بفراش غير وثير ، بطعام خشن، بثياب قليلة ، بأدوات متواضعة . مال ، وسيارة فخمة ، وبيت فخم ، فقط ، هذه كل أهدافنا ، أما أنْ يدرك أنّ هناك في آخرة ،راجع إلى إله عظيم ، أسماؤه حسنى ، خالق الكون العظيم ، هذه أشياء لا تعنينا أبداً ، سبحان الله " أموات غير أحياء". لكنْ هناك مَن صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى ، أولئك أولياء الله عز وجل من خلقه ، وأمناؤه ، وعماله في أرضه ، والدعاة إلى دينه ثم بكى وقال : وا شوقاه إلى رؤيتهم . لا تخلو الأرض من صادقين ، معهم الحجة ، مخلصون في دعوتهم إلى الله عز وجل ، مترفعون عن الدنيا ، صغرت أم كبرت .
* * *
وبعد فإلى بعض الأحاديث الشريفة : عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ *. [ أخرجه ابن ماجه ] . هذا مبدأ عام ، فالإنسان يأتي ببضاعة يبيعها بسعر معتدل ، ويربح منها ، ثم يأتي بغيرها ، فهذا مرزوق ، هذا الإنسان ماذا يفعل ؟ يخفف عن المسلمين أعباء الحياة ، ويسهم في خفض الأسعار، يجلب البضاعة ويبيعها ، ويجلب غيرها ويبيعها ، لماذا باعها سريعاً ؟ لأنه ربح فيها ربحًا معقولاً ، وسعره معقول ، بضاعة جيدة ، تهافت الناس عليها فاشتروها ، هذا اسمه جالب ، وهذا الجالب مرزوق ، فأحد كبار الصحابة ، وربما كان أغنى الصحابة سئل : كيف حصَّلتَ هذا المال؟ فقال : لم أبِعْ دَيْناً ، ولم أستقلَّ ربحاً ، فمهما ربحتْ الحاجةُ يبيعها ، لكنّ التاجر الآن يصفن ، يريد أنْ يحل مشاكله بالبضاعة هذه ، فيخطِّط ليبيعها بربح فاحش ، فتُحَلّ فيه مشاكله كلها ، فالذي يجري أنه عندما رفع السعر قلَّ الشراء ، وحدَث تضخم نقدي ، فصار الناسُ طبقة غنية ، وطبقة فقيرة ، ونشأت مشاكل ، ناس من دون دخل ، فبحثوا عن أساليب غير مشروعة للدخل ، كل هذه الأمراض ، ربما سببها ارتفاع الأسعار ، هذا الجالب الذي يشتري ويبيع ، ويشتري ويبيع ، يسهم في خفض الأسعار ، ويسهم في خفض مستوى المعيشة ، وفي توفير الحاجات للناس ، ويسهم في الرخاء الاجتماعي ، طبعاً على قدر إمكاناته ، وله نيته دائماً ، في الإسلام عندنا قاعدة " فاعل الخير خيرٌ منه" ، أي الفاعلُ للخير خيرٌ من الخير ، وهذه النفس التي أرادت الخير ، والخير مهما كان له حجم فهناك أعظم منه ، فاعل الخير خيرٌ من الخير ، فأعظم من الخير أن تفعل الخير ، هذه النفس الراقية التي تحب الخير للناس ، يقلقها شقاُء الناس ، هناك أشخاص إذا سَكَنَ أحدُهم في بيت فخم، فليَكُنْ من بعده الطوفان ، بينما تجد شخصًا يتألم لوجود هذه الأزمة ، ويتألم آخرُ لأن بعض الناس باحتكار البيوت يؤخِّرون الزواج ، علمًا بأنّه عندنا فتيات كثيرات في سن الزواج ، وهذا الزواج معطل بسبب عدم وجود بيت ، وبعض الأشخاص يتهم أسرته لبساطتها وقناعتها ، وإنّ الله عز وجل زرع في قلب كل أبٍ وكل أمٍّ عطفًا على الأولاد ، وهذا من دون جهد ، وهذه فطرة الله ، حتى المرأة الكافرة الملحدة تخشى على أولادها ، لكن النبي الكريم أثنى على من كان في قلبه رحمة عامة للناس ، هذه الرحمة العامة كسبية ، تكسبها بالصلاة ، فلو كانتْ أمورك الذاتية محلولة ، لما كنتَ مرتاحًا حتى تزولَ مشكلات الناس ، فالجالب مرزوق ، والمحتكر ملعون ، لأنه لا يهمه إنْ حُرِم الناسُ من هذه المادة ، وارتفعت أسعارها إلى درجة أصبحت قلّةٌ قليلة من الناس يشترونها ، فحرم منها الجميع ، والأطفال لا يدركون هذه الناحية ، فيشتهون و يلحُّون على الآباء الذين يتألَّمون لعجزهم عن الشراء ، والبائع لا يهمه الأمر ، وكلُّ همِّه الربح ، فيرفع سعر البضاعة ، وإذا لم يحقق ربحًا فاحشًا فلنْ يبيعها ، إذْ ليس لديه رحمة . واللهِ ذات مرة حدّثني شخص بقصة دمعت لها عيني ، مضمونها : طفل صغير وقف عند بائع فول ، وقال له : أريد صحن فول ، معه ربع ليرة ، والصحن ثمنُه ليرتان ونصف ، قال له : ادخُلْ وتفضل ، ووضع له صحنًا عاديًا ، بالبندورة والزيت والحمض ، كما وضع له مقبِّلات، فقال شخصٌ جالسٌ : ما هذا ؟ كلُّه بربع ليرة ، قال له صاحبُ المحل : طفلٌ اشتهى أنْ يأكل فولاً ، أَأَدَعُهُ من دون فول ؟! أَكُلُّ الربح ماديٌّ ، هنا نقطة الخلاف ، الناس يقيسون الربح فقط بالمال ، أَكُلُّ الربح مال ، هناك تجليات تتنزل على قلب الإنسان إذا فعل خيراً لا يعلمها إلا الله . سائق سيارة أجرة وقف لإنسان مقطوع ، ليس معه إلاّ مبلغ يسير ، فأخذه ولم يدعْه مقطوعًا ، أَكُلُّ الربح مال ؟ لا ، ليس كل الربح مالاً ، فبعض الربح سكينة في القلب ، يستحقها صاحب المعروف ، لذلك فعلى الإنسان ألاّ يضنَّ بمعروفه على أحد ، قال له : ادخلْ وكُلْ فولاً ، قال له : اشتهى أن يأكل فولاً ، أفأدَعُه من دون فول ، وأخذ منه ربع ليرة ، وأشعَرَ الولدَ أنه دفع ثمن الفول ، وشعَر صاحبُ المحلِّ أنّه أخذ ثمن الفول ، فالجالب مرزوق ، والمحتكر ملعون .
* * * قصة قصيرة عن عبد الله بن أم مكتوم : لا شك أنكم جميعاً تعرفون أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عوتب به ، فكلما رآه يقول : أهلا بمن عاتبني به ربي . قال : لما ضيَّقتْ قريش على النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذين آمنوا معه واشتد أذاها لهم ، أِذن اللهُ للمسلمين بالهجرة ، فكان عبد الله ابن أم مكتوم أسرَع القوم مفارقةً لوطنه ، وفراراً بدينه ، فقد كان هو ومصعب بن عمير أول من قدما المدينة من أصحاب رسول الله . عبد الله بن أم مكتوم فاقد البصر ، حكمة ربنا أن الله سبحانه وتعالى جعل صحابيًّا جليلاً عظيم الشأن فاقِدَ البصر ، لماذا ؟ ليؤكد لنا أن طريق الجنة مفتوح لكل الناس ، حتى من فقدوا أبصارهم ، وقد يبلغون أعلى المراتب ، وما أنْ بلغ عبد الله يثربَ حتى طفِق هو وصاحبه مصعب بن عمير يختلفان إلى الناس ، ويقرئونهم القرآن ويفقهانهم في دين الله ، لقد كان نشيطًا ، ولما قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة اتخذ عبد الله بن أم مكتوم ، وبلال بن رباح مؤذنين ، سيدنا بلال ، وعبد الله بن أم مكتوم صارا للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤذنين ، يخضعان لكلمة التوحيد كل يوم خمس مرات ، ويدعوان الناس إلى خير العمل ، ويحضانهم على الفلاح ، فعَمَلُ المؤذن عملٌ عظيم ، حتى إن بعضهم قال في قوله تبارك و تعالى :
( سورة فصلت : 33 ) . إنَّ الآية تعني " الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله " إلى تمام الأذان ، فهذه دعوة إلى الله ، فكان بلال يؤذن ، وابن أم مكتوم يقيم الصلاة ، وربما أذن ابن أم مكتوم وأقام بلال الصلاة ، وكان لبلال وابن أم مكتوم شأن آخر في رمضان ، فقد كان المسلمون في المدينة يتسحرون على أذان أحدهما ، ويمسكون عند آذان الآخر ، فصار أذانٌ قبل الفجر ، وهو لتذكير الناس بوقت السحور ، وأذان للإمساك ، وكان بلال يؤذن بليل ويوقظ الناس ، وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه ، وقد بلغ من إكرام النبي عليه الصلاة والسلام لابن أم مكتوم أن استخلفه على المدينة ، فجعله أميرًا عليها في غيبته ، أكثر مِن مرّةٍ ، كانت إحداها يوم غادرها لفتح مكة ، وفي أعقاب غزوة بدر أنزل الله على نبيه من آيات القرآن ما يرفع شأن المجاهدين ، ويفضلهم على القاعدين ، لينشط المجاهد إلى الجهاد ، ويأنف القاعد من القعود ، فأثَّرَ ذلك في نفس ابن أم مكتوم ، إذْ لا يقوى على الجهاد ، والآيات كلها تحضُّ على الجهاد ، وتغضّ من شأن القاعدين المتخلفين ، فقال : يا رسول الله ، لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، ثم سأل الله بقلب خاشع، أن ينزل قرآنًا في شأنه ، وشأن أمثاله ممن تعوقهم عاهاتهم عن الجهاد ، وجعل يدعو في ضراعة :" اللهم أنزل عذري ، اللهم أنزل عذري "، فنزل القرآن بآيات تتحدث عن أناس يحبون الجهاد ولا يقوون عليه . فحدّثَ زيد بن ثابت كاتب وحي رسول الله ، فقال : كنت إلى جنب النبي عليه الصلاة والسلام فغشيَتْهُ السكينة ، وثقل رأسه ، ثم سُرِّيَ عنه فقال : اكتُبْ يا زيد :
( سورة النساء : 95 ) . لا يستوون ، فالقاعد مرتاح مسترخٍ ، لا يريد أن يعمل ، فلا يستوي هذا مع المجاهد ، فقام ابن أم مكتوم وقال : يا رسول الله ، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد ، قال سيدنا زيد : فما قضى كلامه ، حتى غشيتْ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السكينةُ ، ثم سُرّي عنه فقال : اكتب يا زيد :
قال هذه كتبتها ، قال اكتب :
إلا إذا كان هذا من أصحاب العاهات ، فهو مستثنى من هذه الآية ، ومن هذه القاعدة ، فنزل الاستثناء الذي تمنَّاه ابن أم مكتوم ، وعلى الرغم من أن الله سبحانه وتعالى أعفى عبد الله بن أم مكتوم وأمثاله من الجهاد ، فقد أَبَتْ نفسُه الطموحُ أن يقعد مع القاعدين ، وعقد العزم على الجهاد في سيبل الله ، ذلك لأن النفوس الكبيرة لا تقنع إلا بكبار الأمور ، وغريب حقًّا كيف سيجاهد وهو لا يرى بعينه ، اتخذ لنفسه وظيفة ، فكان يقول أقيموني بين الصفين ، وحمِّلوني اللواء أحمله لكم وأحفظه ، فأنا أعمى لا أستطيع الفرار ، لقد قَبِلَ أنْ يمتطيَ ظهرَ فرسٍ ، ويحمل راية الجهاد دون أن يرى ، وفي السنة الرابعة عشرة للهجرة عقَد عمر بن الخطاب العزمَ على أن يخوض مع الفرس معركة فاصلة ، تزيل دولتهم ، وتزيل ملكهم ، وتفتح الطريق أمام جيش المسلمين ، فكتب إلى عماله يقول : لا تدعوا أحدًا له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا وجّهتمُوه إليَّ والعَجَلَ العَجَلَ ، وطفقت جموع المسلمين تلبِّي نداء الفاروق ، وتنهال على المدينة من كل حدب وصوب ، وكان في جملة هؤلاء المجاهدين مكفوف البصر عبد الله بن أم مكتوم ، فأمَّر الفاروقُ على الجيش الكبير سعدَ بن أبي وقاص ، وأوصاه وودعه ، ولما بلغ الجيش القادسية برز عبد الله بن أم مكتوم لابسًا درعه ، مستكملاً عدَّته ، وندب نفسه لحمل راية المسلمين ، والحفاظ عليها ، أو الموت دونها ، والتقى الجمعان في أيام ثلاثة قاسية عابسة ، واحترب الفريقان حربًا لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ، حتى انجلَى اليومُ الثالث عن نصر مؤزَّر للمسلمين ، فزالت دولة من أعظم الدول ، وزال عرش من أعرق العروش ، ورُفِعتْ راية التوحيد في أرض الوثنية ، وكان ثمن هذا النصر المبين مئات الشهداء ، وكان من بين هؤلاء الشهداء عبد الله بن أم مكتوم ، استُشهِد في معركة القادسية وهو كفيف البصر . فهذه القص سُقْتُها لكم ، ليَعلم القاصي والداني أنّه ليس مِن عقبة تقف أمام المسلم ، حتى لو فَقَدَ بصره ، ومع ذلك فباب الجنة مفتوح ، فإنْ كان بالمسلم ضعفٌ في جسمه ، أو أحد أعضائه ، كأنْ يكون لا يرى بعينيه جيداً ، أو أنّ ماله قليل ، أو نحو ذلك ، فباب الله عز وجل مفتوح على مصراعيه ، وكلما سِرتَ في طريق الله عز وجل ازددتَ حبًّا وشوقا واندفاعا ومجاهدة . والحمد لله رب العالمين ..
[quote]
مقبول حسون الادارة
عدد المساهمات : 2413 تاريخ التسجيل : 08/12/2009
موضوع: ، المسح على الجبيرة . السبت مارس 27, 2010 4:09 pm
، المسح على الجبيرة .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ؛ موضوع قصير عنوانه " المسح على الجبيرة " فمن افتصد ، أي أخرج دماً من جسمه ، أو بجرح ، أو بكسر عضوٍ فشدَّه بخرقةٍ ، أي الضمّاد ، أو بأيِّ حادث، وأيّ كسر إذا شُدَّ بضماد ، أو جبيرة ، وكان لا يستطيع غسل العضو ، ولا يستطيع مسحه وجب المسح على أكثر ما شدَّ به العضو . اليد مكسورة ومجبَّرة بجبصين وقماش ، مجروحة عليها شاش ومادة معقمة ، فصد دمه ربط مكان الفصادة بشاش ، أي جبيرة أو أي ضماد شده الإنسان على جسمه إن لم يستطع غسله أولاً ، وإن لم يستطع مسحه كذلك فماذا يفعل ؟ وجب المسحُ على أكثر ما شدّ به العضو ، على القماش وكفى المسح على ما ظهر ، وإذا كانت الجبيرة طبقات متعددة فيمسح الطبقة الأخيرة فقط ، والمسح كالغسل ، معنى كالغسل هناك فرق كبير بين المسح على الجبيرة وبين المسح على الخفين ، المسح على الخفين مسح بدل ، بدل من غسل الرجلين ، وله مدة يوم وليلة للمقيم ، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر ، وله نواقض ، لكن المسح على الجبيرة كالغسل فلا يتوقف بمدة ، ولا يشترط شد الجبيرة على طهر ، رجل أُخِذَ بحالة إسعاف إلى المستشفى ولم يكن متوضئًا ، فماذا نفعل ؟ هل نفكُّ الضماد ؟ لا ، إذْ لا يشترط شدُّ الجبيرة على طُهر ، ويجوز مسحُ جبيرة إحدى الرجلين ، أما بالخفين فالاثنتين معاً ، رِجْل واحدة مضمَّدة والثانية معافاة ، تَغسل واحدة وتَمسح على الثانية ، ولا يبطل المسح بسقوطها قبل البرء ، وإن سقطت فالمسح لا يبطل بل تصلي ولو سقطتْ ، ويجوز تبديلها بغيرها ، ولا يجب إعادة المسح عليها ، فالمريض مجروح ، ولهُ في الشرع وُسعةٌ كبيرة ، والشرعُ سَمحٌ في تعامله مع هذا المريض . ثم إذا رمَد الإنسان وأُمِر ألاّ يغسل عينه ، ماذا يفعل ؟ أو انكسر ظفره ، وجُعِل عليه دواء أو مادة عازلة ويضرّه نزعُه ، جاز له المسح ، لا يوجد جبيرة للعيون ، عينٌ رمداء وضِع لها الدواء ، والماء يضرها ، يمسح على جفنه من دون غسيل ، ظفره انكسر وضع عليه مادة معقمة يضرها الماء يمسح على ظفره ، الآن لا يوجد جبيرة ، فلتَعلمْ إذًا أنّ الدين يسر ، فلك أن تمسح على الخفين ، ولك أن تتيمم ، ولك أن تمسح على الجبيرة ، أو أي ضماد ، ولك أن تمسح على عضو يضره الماء من دون ضماد . والمسح على الجبيرة لا يفتقر إلى نية ، حتى لو كان العضوُ يضرُّه الماء جاز له تركُ المسح ، أكرِّر وأقول : ولا يفتقر المسُح على الجبيرة إلى نية كما في المسح على الخف ، فلا نية ولا توقيت ولا زمن ، ولا يشترط أن تكون الجبيرة على طهر ، وإذا سقطت لا ينتقض الوضوء ، ويجوز تبديلها وتغيرها ، ولا يشترط النية ، فقدْ رُفِع عن أمتي كلُّ ما يبعث على الضيق والتبرم من الشرع ، فالدين يُسْرٌ . " عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا * . [رواه البخاري]
* * *
وبعدُ ؛ فإلى فصل آخر مختار من إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي ، كنا في الدرس الماضي تحدثنا عن اليقين ، وقلنا إنَّ اليقين عند الصوفين أو عند الفقهاء يختلف عن اليقين عند المتكلمين والفلاسفة فاليقين عند المتكلمين هو عدم الشك ، أما اليقين عند الفقهاء والصوفيين هو أن توقن بالموت ولا تعمل لما بعد الموت ، أن توقن بالجنة ولا تعمل لها ، أن توقن بالنار ولا تتقي النار ، هذا هو ضعف اليقين ، وما قسم الله لعباده نصيباً أوفر من العقل واليقين . إنّ المؤمن الصادق يجب أن يكون حزيناً ، منكسراً ، مطرقاً ، صامتاً ، لأنه كما قال عليه الصلاة والسلام : "الحزانى في كنف الله" ، إن الله يحب كل قلب حزين ، الحزانى معرضون إلى الرحمة ، ما معنى "حزانى" يعني أنّ أحدهم يقلقه أمر آخرته ، ويخشى أن تأتيه المنية وليس معه زاد كافٍ إلى الآخرة ، فهذا الحزن المقدس ، يخشى ألاّ يكون الله راضيًا عنه ، ويخشى أن يكون في عمله رياء ، يخشى أن يكون في قلبه نفاق ، يخشى أن تخونه عينه ، وأن ينطلق لسانُه في غضب الله ، وأن يكون هذا العمل لغير الله ، وأن يرجو غير الله ، وأن يخاف من غير الله ، فالطالبُ في أثناء العمل الدراسي وهو طموح ، ويعلِّق أهمية كبرى على نجاحه ، يرجو أنٍ ينجح، ولكنه يخاف ألاَّ يُجمِّع معدلَ الطب ، فهو قلق ، فيطمئنه أهله ، وجيرانه ، وأصدقاؤه ، ومع ذلك يقول : الأسئلة صعبة هذه السنة ، وسوف يرفعون المعدلات ، وأخاف ألاّ أدخل كليةَ الطب ، فالمجتهد يقلق ، أما الكسول فيجد طمأنينة بلهاءَ ، والمؤمن يقلق ، أما المنافق فمطمئن طمأنينة بلهاء ، معها غباء ، لذلك لا يجتمع على عبد أمْنَانِ ولا خوفان ، إن أمِنَني في الدنيا أخَفْتُه يوم القيامة ، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، والكافر كما قال تعالى :
( سورة الانشقاق ) كان مسروراً ، يضحك ملء فمه ، يتمطى ، أما المؤمن ، قال تعالى :
( سورة الانشقاق ) تخاف ألاّ تكون في مستوى ما تقول ، هذا حزن ، تخاف أن يكون قولك أرقى من عملك ، وهذا شيء مخيف ، تخاف أن يسعدَ الناسُ بدعوتك وتشقى بها ، تخاف أن يكون أحدٌ أسعدَ منك ، وعِلمُك كان لغير الله ، تخاف أن تكون عبرة لأحد من خلق الله ، تخاف أن تقول قولاً ظاهرُه فيه رضى الله عز وجل ، لكنك تلتمس به رضى أحد سوى الله عز وجل ، وتخاف أن تتزين للناس بما يشينك عند الله ، فهذا هو القلق ، وإذا لم يكن للإنسان قلق من هذا المستوى فهو إنسانٌ جاهل، وإذا كان الطالب خارج المدرسة من أبناء الأزِقة ، فهل هذا يقلق على وظيفة ، أو على واجب مدرسي ، أو على امتحان ، أو مذاكرة ، أو على دوام مدرسي ، أو من استدعاء وليّ ، لا أحَدَ يحاسبه ، فهذا مطمئن ، لكنها طمأنينة بلهاء ، وطمأنينة الجُهلاء ، لكن العالم لا يطمئن. ذات مرة قلت لكم : لو أن إنساناً وجد شقًّا أساسيًا بجسر أساسي في بنائه ، فقد يعرضه على دهَّان ، يقول له الدهَّان : هذا يحتاج إلى معجون وسوف أصلِحه لك إن شاء الله ، ويتوارى الشقُّ، لكن قد يعرضه على مهندس ، ويقول له : هذا البناء خطر ، يحتاج إلى إخلائِه فوراً ، فبين أن يصلحه له الدهَّان ، وبين الإخلاء مسافة كبيرة وشاسعة ، وهي كالمسافة بين العلم والجهل تماماً ، فبقدر علمك تخشى الله ، بقدر علمك عن الله تخافه ، بقدر ما تعرف عن الآخرة ترجوها ، بقدر ما تعرف عن النار تتقيها ، بقدر ما تعرف عن كرم الله تطمع بكرمه ، بقدر ما تعرف عن عقاب الله تخاف عقابه ، فهذا القلق هو القلق المقدس ، إنسان يعيش على هامش الحياة لا يدري لماذا خلق ، ولماذا جاء إلى الدنيا ، وما جوهر الحياة وما المصير ؟. هذا هو الحزن المقدَّس ، عندما النبي الكريم قال :" الحزانى في كنف الله" ، هذا هو الحزن حقًّا . إذا وجد الأب ابنه غيرَ مستقيم ، والابن لا يبالي ويضحك ملء فمه ، والأب أعرض عنه ، وهو لا يزال يضحك ، ولا يزال مستهتراً ، ألا يتألم الأب من هذا الابن ؟ وإذا رأى الابن أباه معرضاً عنه ، فقَلِقَ أشد القلق ، فقلقُه دليلُ محبةِ الابن أباه ، وحِرصُ الابنِ على إرضاء أبيه يجعله يقلق ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : " إن الله يحب كل قلب حزين [أخرجه الحاكم عن أبي الدرداء] والحزانى معرضون للرحمة ، فعليه أن يكون حزيناً منكسراً مطرقاً صامتاً ، يظهر أثر الخشية على هيئته ومظهره وسيرته وحركته وسكونه ونطقه وسكوته ، أما أهل الدنيا فماذا يفعلون ؟ يتهافتون على الكلام ، ويتشدقون بألفاظ ، ويستغرقون في الضحك ، ويفعلون أعمالاً تدلُّ على بطرهم واستهزائهم ، وطمأنينتهم البلهاء ، لذلك قال الإمام التستري : "العلم الذي لا يورث خشيةً هو نوع من الجهل "، أيضاً قال الإمام نفسه : " العلم على ثلاثة أنواع علم بالله ، وعلم بأمر الله، وعلم بخلق الله "، فالمختص بالفيزياء والكيمياء ، والرياضيات ، والفلك ، والطب ، والهندسة ، والجيولوجيا ، وعلم طبقات الأرض ، وعلم المستحاثات ، وميكانيك التربة ، والفيزياء النووية ، والكيمياء العضوية ، والكيمياء التطبيقية ، والرياضيات البحتة ، والرياضيات الحديثة ، هذه علوم بمخلوقات الله بَرَعَ فيها الغربيون إلى حد كبير ، ويظن الناس أن كلمة العلم تعني هذا ، لا ، بل هذه صنعة من صنعات الحياة ، أما العلم بأمر الله أن تعرف الحلال والحرام ، وأبواب الفقه ، والعبادات ، والطهارة ، وأنواع المياه ، وأن تعرف أحكام الصلاة وفروضها ، وشروطها، وسننها ، ومكروهاتها ، وأن تعرف الصيام والحج والزكاة ، وأن تعرف علم الفرائض والمواريث والتركات ، وبحث البيوع ، وبحث العقد ، والوديعة ، وأبواب الفقه معروفة عندك ، عبادات ، ومعاملات ، وحدود ، وأحوال شخصية ، وهناك علم الأديان ، علم الفقه المقارن ، أصول الأديان، الفقه وأصوله ، المذاهب الإسلامية والفرق الإسلامية ، ادخل إلى كلية الشريعة تجد موادَّ وكتبًا ومؤلفات ، ومجلدات تحوي تلك العلوم كلها ، هذا علم بأمر الله ، أما العلم الشريف فهو العلم بالله عز وجل ، أن تعرف الله ، فإذا جمعت بين معرفة الله ومعرفة أمره فقد جمعتَ أصول المجد من طرفيه ، أن تعرف أمر الله ، وأن تعرف الله ، لكن معرفة أمر الله تحتاج إلى فكر نيِّر، وذكاء ، وإلى مراجع وكتب ، ودراسة ، وملخصات ، هذا العلم بأمر الله ، والعلم بمخلوقات الله كذلك ، أما العلم بالله فلا يحتاج إلى شيء من هذا القبيل ، يحتاج إلى مجاهدة ، الإمام الغزالي يقول : " جاهد تشاهد "، يعني العلم بالله لا يحتاج إلى مجلدات ، يحتاج إلى غض بصر ، العلم بالله يحتاج إلى عمل صالح ، وحلم ، و بر الوالدين ، وضبط النفس ، فإذا ضبطت نفسك ، وبذلت من وقتك ، ومن مالك ، ومن جهدك ، ومن خبرتك ، وقدَّمتَه لله خالصاً ، تجلَّى الله على قلبك فسعدتَ بقربه ، فعرفتَ عن ذاته ما لم يعرف علماء الأرض ، علماء الظاهر ، قال تعالى :
( سورة البقرة )
( سورة التغابن ) إذًا هذا هو العلم بالله، لذلك فالإمام الغزالي يقول :" حيث ما وردت كلمة العلم في الكتاب والسنة فإنما تعني العلم بالله "، هذا المفروض ، لكن ما أكثر المتعلمين ، بعض الدول تقول لك : المتعلمون عندها مائة بالمائة ، وبعض الدول يقولون : نسبة المتعلمين عندهم عالية ، الآن صار العلم شائعًا ، فمن الذي بقي جاهلاً ؟ قلة قليلة ، لكن ليس هذا العلم هو المقصود ، فمع هذا العلم هناك الفسق ، والفجور ، والزنا ، والخمر ، والانحراف ، والربا ، ومع هذه الثقافة الرفيعة والشهادات الجامعية العليا هناك الغش ، والدجل ، والمحاباة ، والتدليس ، حتى في المهن الراقية ، فالطبيب مثلاً يكتب لك لإجراء تحليلين زيادة ولست بحاجةٍ إليهما ، وذلك بالاتفاق مع المحلل في مناصفةً الأجر ، فالطبيب كيف فعل هذا ؟ والمحامي يعلم علم اليقين ، وبعضهم ممن لا يخاف الله عز وجل ، وبعضهم الآخر مِمَّن يخاف الله ، ولهم عند الله مكانة عالية ، لكن بعضهم مقتنع قناعة تامة أن هذه الدعوة لن تربح ، وأن كل الاجتهادات لا تؤيِّدها محكمةُ النقض ، ومع ذلك يقول لك: أنا أُربِحُها لك ، وادفع لي دفعة مقدمة خمسة آلاف ، والباقي عند انتهاء القضية ، وتبقى في القضاء عدة سنوات ، ثم يقول هذا المحامي مفترياً على القاضي النزيه : لقد ارتشى من خصمي، وقد نبهتك كثيراً ، إلا أنه قد أخذ عشرة آلاف ، وحل مشكلاته الشخصية ، ووضعك في توتر نفسي سنوات عديدة ، فهذا مثقف ودرس القانون ، والأحوال الشخصية ودرس أصول محاكمات ، ودرس أحوالَ القضاء ، والعدالة ، حتى إنه درَسَ سيرة سيدنا عمر ، فهذا علمٌ بأمر الله لا يقدم ولا يؤخر ، لكن العلم بالله هو الذي يجدي ، وعلامة العلم بالله الخشية ، لذلك عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ " (رواه الدارمي) وإليكم مثل بسيط ؛ إنسان يحمل دكتوراه في هندسة الميكانيك ، وإنسان لا يقرأ ولا يكتب ، فالذي لا يقرأ ولا يكتب عندما تألَّق الضوء الأحمر في سيارته توقف ، وقال : هناك نقص في الزيت ، والذي يحمل دكتوراه في الميكانيك تابع مسيره ، فأحرق المحرِّك ، وهذا الذي لا يقرأ ولا يكتب وقف في الوقت المناسب ، فأيُّهما العالم ؟ هذا الجاهل في نظر الناس هو العالم . أمّا على مستوى الآخرة فهذا الذي لم يتعلم أصول الفقه ولا أحكام التجويد ، ولم يتعلم أحكام البيوع ، لكنه خشي الله عز وجل ، واستقام على أمره ، وعمل للآخرة ، هذا الذي نجَا ، والذي تعلَّم علم الثقلين ، ولم يعمل بعلمه فهو الذي هلك ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : " تعلموا ما شئتم فو الله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم " سيدنا عمر قال : " تعلموا العلم ، وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحلم ، وتواضعوا لمن تتعلمون منه ، وليتواضع لكم من يتعلم منكم ، ولا تكونوا من جبابرة العلماء" ، وقد مرَّ معنا في درس سابق قوله تعالى :
( سورة الضحى ) بعض المفسرين وَّجه الآية توجيهاً آخر ، فقال : هذا الذي يسأل العالم لا ينبغي للعالم أن يترفع عن الإجابة ، فإجابة العالم للمتعلم فرض ، فلا تنهره ، ولا تقل له : ليس عندي وقت ، أو هذا السؤال سخيف ، أجبه بتواضع ، ويقال : ما آتى الله عبداً علماً إلا آتاه الله معه حلماً وتواضعاً وحسن خلق ورقة ، وإذا أردت أن تعرف إنْ كان هذا علمُك من الله عز وجل ، فإنّ معه حلماً وتواضعاً وحسن خلق ورقّة ، فإذا كان معه كبر ، والشعور بالعلو وعجرفة ، فهذا العلم من الكتب. ورد في الأثر : "من آتاه الله علماً ، وزهداً وتواضعاً ، وحسن خلق فهو إمام المتقين "، هناك حديث - سبحان الله - كنت أقرؤه كثيراً ، ومرةً ذكرته في خطبة ، وكنت أغفل عن شقه الثاني ، يقول عليه الصلاة والسلام : ما استرذل اللهُ عبداً إلا حظر عليه العلم والأدب " ، ومعنى استرذله أيْ رآه رذيلاً سخيفاً ، شهوانياً ، دنيوياً ذا أفق ضيق ، يعيش لوقته ، وهمومه دنيوية ، وطموحاته أرضية ، وميوله شهوانية ، فإن رآه كذلك حَظَر عليه العلم والأدب ، أحيانًا يضيق الوالد ذرعاً بابنه فيقول له : المدرسة ليست لك ، هذه لغيرك ، أنت للطريق ، كنت أقف عند كلمة العلم ، إلا حظر عليه العلم وأتابع دون أنْ ألتفت لكلمة الأدب ، لكني مرة وقفتُ عند الكلمة الثانية العلم والأدب ، معنى هذا أن أرقى عطاء لله عز وجل أن تكون عالماً وأن تكون أديباً ، وقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ورد عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : أَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَتْ : كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قُلْتُ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ قَالَتْ لا تَفْعَلْ أَمَا تَقْرَأُ ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) فَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وُلِدَ لَهُ * (رواه أحمد) سئلت مرة ثانية عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : ألا تقرؤون قوله تعالى :
( سورة المؤمنون ) هذه أخلاق النبي الكريم . فلا يقلُّ الأدبُ عن العلم ، بل يزيد عليه ، يا بني نحن إلى أدبك أحوج منا إلى علمك ، أربعة أخماس الدين أدب ، سيدنا زيد الخير ، اللهم صلِّ على سيدنا محمد قال عن زيد هذا : ما وصف لي رجل إلا رأيته دون ما وصف ، أحيانًا يقول لك رجل : المكان الفلاني رائع ، فتذهب إليه فتجده عاديًا ودون الوسط ، لكنه قال لك : مكان جميل ساحر ، ثم تراه دون الوسط ، فالنبي الكريم قال : ما وصف لي رجل إلا رأيته دون ما وصف إلا زيد الخير ، زيد الخير سيد قومه بلغه نبأ بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ، فجمع وجهاء القوم ، ووفد إلى النبي الكريم ، فدخل المسجد في أثناء الخطبة ، والنبيُّ الكريم فَطِنَ وقد رأى أنه دخل أناس جدد ، فقال : أنا خير لكم من اللات والعزى ، أنا خير لكم مما تعبدون من دون الله ، أنا خير لكم من الجمل الأسود ، وهو من أرقى أنواع الأموال مثل الدولار ، وبعدما انتهت الخطبة ، سأله النبي الكريم : مَن الرجل ؟ فقال : أنا زيد الخيل ، فقال له : بل أنت زيد الخير ، لله درُّك ، ثم انطلق به إلى البيت ، ولم يمض على إسلامه عشر دقائق حتى قال له : ما وُصِف لي رجل إلا دون ما وصف إلا أنت يا زيد الخير ، وفي البيت دَفَع له وسادة ، فماذا قال سيدنا زيد الخير ؟ قال : والله لا أتكئ في حضرتك يا رسول الله ، هذا هو الأدب ، الدين كله أدب ، كان صلى الله عليه وسلم يُقرَع بابه بالأظافر ، وهذا الذي رفع صوته فوق صوت النبي نزلت في حقه آية ، قال تعالى :
( سورة الحجرات ) هذه لوحة خضراء معلَّقة على الحجرة الشريفة النبوية في الحرم المدني ، كُتِبَ عليها " أن تحبط أعمالكم " ، فلان عمَّر مسجدًا ، فإذا وقفَ موقفاً ليس فيه أدب مع رسول الله حبط عملُه ، أنا أقرأ في بعض كتب الفقه ، أنّ الإنسان إذا رمى المصحف يُعدُّ مرتداً ، وتطلق منه زوجته ، ويؤخذ ماله ، فهو كتاب خالق الكون ، حتى إذا كان الإنسان له أخ اسمه يحيى ، وقال له : يا يحيى خذ الكتاب ، ففي هذا إثم كبير ، أَمِنْ أجل هذا أنزلت هذه الآية ؟ من أجل أن تستخدمها مع أخيك يحيى ، وتعطيه كتاب رياضيات ، هذا استخفاف بكلام الله ، فمن آتاه الله علماً ، وزهداً ، وحسن خلق ، فهو إمام المتقين ، ويقول عليه الصلاة والسلام : " إن من خيار أمتي قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة الله ، ويبكون سراً من خوف عذابه ، أبدانهم في الأرض وقلوبهم في السماء ، أرواحهم في الدنيا وعقولهم في الآخرة هؤلاء الأولياء من أمتي " ويقول النبي عليه الصلاة والسلام : " قيل : يا رسول الله أي الأعمال خير وأفضل ؟ قال : اجتناب المحارم قبل كل شيء ، ولا يزال فوك رطباً من ذكر الله ، قيل فأي الأصحاب خير ؟ قال صلى الله عليه وسلم : صاحب إن ذكرت الله أعانك - تقول لشخص : ادخل لنصلي ، فيقول : نعم ، جزاك الله خيرًا ، بينما تقول لآخر : ادخل لنصلي ، فيقول : لدينا متَّسعٌ من الوقت ، نؤجِّلها - وإن نسيت ذكّرك ، قيل فأي الأصحاب شر ، قال : صاحب إن نسيت لم يذكرك ، وإن ذكرت لم يعنك ، قيل : فأي الناس أعلم ؟ قال : أشدهم لله خشية " أنتَ إزاء اثنين يسيران في الطريق ، الأول يحمل دكتوراه ، والآخر يحمل لسانس ، هذا يغض بصره ، في حين أنّ الأول ينظر ويحملق ، فأيُّهما أعلم ؟ هذا مقياس رسول الله . " ... قيل فأخبرنا بخيارنا نجالسهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم : الذين إذا رُؤوا ذكر الله بهم " إن رأيته ذكرتَ الله ، تسمعه يقول : والله يجب أن أثابر على الحضور إلى المسجد ، أو يقول : يجب أن أتوب إلى الله ، أنت َلمْحَته في الطريق ولم تسلم عليه لعجلتك ، لكن نويت أن تتوب إلى الله مِن بعد أنْ رأيتَه بتلك النظرة الخاطئة . " ... قيل فأي الناس شر ؟ فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم ، قالوا : أخبرنا ، قال : العلماء إذا فسدوا .. " لأنهم قدوة يوقعون الناس في حيرة كبيرة ، ويختل توازن الإنسان إذا رآهم ، لماذا يفعل هذا، يشك في قدسية الدين ، يشك في جدوى الدين وثمرته ، هذا هو الدين . وقال ابن عمر رضي الله عنهما :" لقد عشنا برهة من الدهر وإنّ أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن - إن أوتيت الإيمان قبل القرآن فهمت القرآن وعملت به -، وسيأتي بعدكم أقوام يؤتون القرآن قبل الإيمان ، يقيمون حروفه ويضيعون حدوده ". حروفه مائة بالمائة ، مخارجه الكلمات مائة بالمائة ، صفات الحروف مائة بالمائة ، أما حدوده فوسط ، أو لا يطبق مما علِم شيئًا . يقيمون حروفه ويضيعون حدوده وحقوقه ، يقولون : قرأنا فمن أقرأ منا ؟ وعلمنا فمن أعلم منا ؟ فذلك حظُّهم " . آخر فقرة من الدرس : خمسٌ من الأخلاق ؛ هي من علامات علماء الآخرة ، مفهومة من خمس آيات من كتاب الله عز وجل ، واللهُ عز وجل سيعرفنا إلى الدعاة الصادقين من خمس آيات، أول آية ، قال تعالى :
( سورة فاطر ) فإذا رأيت إنساناً يخشى الله فهو عالم ، قد يقال : أنا محتار ، فكلُّهم يدَّعي العلم ، لا تحتَرْ ، فالذي يخشى الله هو العالم . الصفة الثانية الخشوع ، قال تعالى :
( سورة آل عمران ) الخشية والخشوع ، الصفة الثالثة : التواضع ، قال تعالى :
( سورة الحجر ) فإذا كان النبي وهو سيد الخلق وحبيب الحق أُمِرَ أن يخفض جناحه للمؤمنين ، فمن أنت حتى تتكبر عليهم ، إنّ علامة العالم الصادق تواضعُه لمَن يعلم ، فَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَهُ فِي الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ يَا أَخِي لَا تَنْسَنَا مِنْ دُعَائِكَ ، وَقَالَ بَعْدُ فِي الْمَدِينَةِ يَا أَخِي أَشْرِكْنَا فِي دُعَائِكَ فَقَالَ عُمَرُ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ لِقَوْلِهِ يَا أَخِي * (رواه أحمد) هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهل هذا الكلام تواضع منه صلى الله عليه وسلم ؟ لا بل هو حقيقة . الصفة الرابعة ، حسن الخلق ، أنْ يوجد في قلبك رحمة ، ولين ، أو لا رحمة ولين ، بل عندك قسوة ، فعالم قاسٍ لا وجود له ، دخلت المسجدَ فرأيت طفلاً لا يعرف كيف يصلي، فلا تنهره ، بل شجِّعه ، وعلِّمه ، وارفق به ، فإذا كان لديك قسوة فليس لديك علم ، الخشية ، والخشوع ، وحسن الخلق ، والتواضع ، وآخر شيء الزهد ، قال تعالى :
( سورة القصص ) ازهدوا في الدنيا ، فالعالم زاهد وخاشع ، يخشى الله ، متواضع ، وحسن الخلق ، فإن توافرت هذه الصفات الخمس في إنسان فتابِعْه وسِرْ معه ، فلعل الله عز وجل يرحمك به .
* * * والآن إلى قصتين ؛ الأولى منهما جرت مع النبي عليه الصلاة والسلام ، والثانية جرتْ في عصر لاحق ، وجَّه النبي عليه الصلاة والسلام إلى قبيلة طيِّئ فريقًا من جنده يقدُمُهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ففزع عديُّ بن حاتم ، وكان من أشد الناس عداءً لرسول الله ففرَّ إلى الشام ، فصبَّح عليٌّ القوم ، واستاق خيلهم ونعمهم ورجالهم ونساءهم إلى رسول الله ، فلما عرضت عليه الأسرى نهضت من بين القوم سفانة بنت حاتم الطائي ، فقالت وكانت ذكية : يا رسول الله ، لم تقل يا محمد وهي لم تسلم بعد : هلك الوالد وغاب الوافد ، قال : من الوافد ، قالت : عدي بن حاتم ، قال : الفار من الله ورسوله ، قالت : فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب ، فامنن عليّ مَنَّ الله عليك ، فالنبي الكريم ما استجاب إليها أول الأمر ، وفي اليوم الثاني حينما مر بالأسرى وقفت وقالت : يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد ، فامنن علي مَّن الله عليك قال : من الوافد ، قالت : عدي بن حاتم ، قال : الفار من الله ورسوله ، ثم تابع مسيره ، وفي المرة الثالثة لم تقف لأنها يئست ، والنبي الكريم حريص على إطلاق سراحها ، فأشار إلى سيدنا علي أن يدعوها وأن تسأله مرةً ثالثة ، فلما سألته قالت : يا رسول إن أبي كان سيد قومه ، يفكُّ العاني ، أي الأسير ، ويقتل الجاني ، ويحفظ الجار ، ويحمي الذِّمار ، ويفرِّج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ، ويحمل الكلَّ ، الفقير ، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجةٍ فردَّه خائباً ، أنا بنت حاتم طيِّئ ، هذه أخلاق الجاهلية ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : يا جارية هذه صفات المؤمنين حقاً ، ولكن أبوها لم يكن مؤمناً ، ولو كان أبوك مسلماً لترَحمَّنا عليه ، فماذا فهم ؟ الإنسان قد يكون ذكيًّا ، وقد يفك العاني ، ويحمل الكلَّ ابتغاء السمعة ، فلا يمكن أن تعدَّ هذه الأعمال صالحةً إلا إذا بُنيتْ على إيمان بالله ، يا جارية هذه صفات المؤمنين حقاً ، خلوا عنها فإن أباها كان يحبُّ مكارم الأخلاق . النبي الكريم له كلمة مؤثِّرة : " ارحموا عزيز قوم ذل ، وغنيًّا افتقر ، وعالمًا ضاع بين الجهال. وامتن عليها وعلى قومها جميعهم فأطلقهم تكريماً لها ، فهذه سفانة استأذنته في الدعاء وقالت : أصاب الله ببرك مواقعه ، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ، ولا سلب نعمةً عن كريم قوم إلا جعلك سبباً في ردها . فلما أطلقها رجعتْ إلى أخيها عدي بن حاتم وهو بدومة الجندل فقالت له : يا أخي ائتِ هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله ، فإني قد رأيت هدياً ورأياً سيغلب أهل الغلبة ، ورأيت خصالاً تعجبني ، رأيته يحب الفقير ويفك الأسير ، ويرحم الصغير ، ويعرف قدر الكبير ، وما رأيت أجود ولا أكرم منه ، فإنْ يكن نبياً فالسابق فضله ، وإن يكن ملكاً فلم تزل في عز ملكه . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ قَالَ أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ ، قَالَ فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ ، قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ ، قَالَ : فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي، قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإسْلامِ إِذَا فَقُهُوا * . (رواه البخاري) وأمّا القصة الثانية فإنّي أضعها بين أيديكم وأتلوها على مسامعكم ، قال معن بن زائدة : لما هربت من المنصور وخرجت من باب حرب ، وهذا في بغداد ، ففيها باب اسمه باب حرب ، بعد أن أقمت في الشمس أياماً - بعد أن حَرَقَ وجهه ليغيِّر معالمه - إذْ كان المنصور قد أهدر دم معن بن زائدة ، فماذا فعل ؟ قال : أقمتُ في الشمس أياماً ، وخففت لحيتي وعارضي ، ولبست جبة صوف غليظة ، وركبت جملاً ، وكان مِن قَبلُ يركب فرسًا ، وخرجت على هذا الجمل لأمضي إلى البادية ، فتبعني رجل متقلد سيفه ، حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خصام الجمل فأناخه وقبض علي ، فقلت ما شأنك ؟ قال : أنت بغية أمير المؤمنين ، فقلت له : ومن أنا حتى يطلبني ، قال له : أنت معن بن زائدة ، فقلت له : يا هذا اتقِ الله ، وأين أنا من معن ، قال : دع عنك هذا ، أنا والله أَعْرَفُ بك ، قلت له : فإنْ كانت القصة كما تقول فهذه جوهرة حملتها معي ثمنها أضعاف ما بذل المنصور لمن جاءه بي ، وقد وضع المنصور مكافأة ألف دينار ، وهذه ثمنها مائة ألف دينار ، فخذها ولا تسفك دمي ، فقال هذا الرجل المتقلد السيف : هاتها ، فأخرجتها إليه ، فنظر إليها ساعة وقلبها ، ثم قال : صدقْتَ في قيمتها ، ولست قابلها منك حتى أسألك عن شيء ، فإنْ صدقتني أطلقتك ، قلت : قل ، قال : إن الناس يصفوك بالجود ، فأخبرني هل وهبت كل مالك مرةً ، قلت : لا ، قال : فنصفه ، قلت : لا ، قال : فثلثه ، قلت : لا ، حتى بلغ العشر ، قال : فاستحييت ، هو لم يعطِ العشر ، فقال له : نعم ، وقلت : أظن أني فعلت هذا ، فقال : ما ذاك بعظيم ، أنا والله راجل ولا يوجد عندي فرس أركبها ، ورزقي من أبي جعفر عشرون درهماً ، وهذه الجوهرة قيمتها مائة ألف ، وقد وهبتها لك ، ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس ، ولتعلم أن في الدنيا من هو أجود منك ، أنت مالك ما دفعته كله ولا نصفه ولا ربعه ولا ثلثه ولا عشره ، أما أنا فراجل لا أملك فرسًا أركبها ، وراتبي عشرون درهماً ، وهذه الجوهرة ثمنها مائة ألف ، ومع ذلك وهبتها لك ، فلا تعجبك نفسك ، ولا تحتقرن أحداً بعد اليوم ، ولا تتوقف عند مكرمة ، ثم رمى بالجوهرة وخلّى خطامَ الجمل ، وقال له : اذهب . فقلت : يا هذا لقد فضحتني ، والله الذي لا إله إلا هو لسفكُ دمي أهونُ عليّ ممّا فعلت ، وكان أجود العرب ، فضحك ثم قال : أردتَ أنْ تكذبني في مقامي هذا ، فو الله لا أخذها ، ولا آخذ لمعروف ثمناً ، هكذا كان أجدادنا ، الآن يقول لك : ماذا لنا على هذه الخدمة ؟ يريد ثمنًا لمساعدتك إذا طلبتَ منه المساعدة ، فو الله لا آخذها ولا آخذ لمعروف ثمناً ، قال : فوالله لقد طلبته بعد إذ أمنتُ ، وبذلتُ لمن يجيئني به ما شاء ، فما عرفت له خبراً ، وكأن الأرض قد ابتلعته ، هكذا كان أجدادنا في الجاهلية مثل حاتم طيِّئ ، وهكذا كان أجدادنا في العصور المتأخرة، فأين نحن من هؤلاء . وهذه كلمة موجزة حول آية قرآنية ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :
( سورة الأحزاب ) أما واقع الناس فهو غير ذلك ، ليس لهم برسول الله أسوة حسنة ، ولهم بزيد أو عبيد من أرباب الدنيا من أصحاب المال ، ولهم بالغرب أسوة حسنة يقلِّدون الغربيين في عاداتهم ومأكلهم ومشربهم ، فلمن هذه الآية :
( سورة الأحزاب ) فإن كنت يا أخي الكريم ترجو الله واليوم الآخر ، وذكرتَ الله كثيراً تَرَ أن النبي عليه الصلاة والسلام بسنّته المطهرة وسيرته العطرة أسوةً لك في الدنيا ، وإن كانت الدنيا أكبرَ هم بعض الناس، وصار الناس الكبراء أصحاب المال ، والجاه والسلطان والقوة هم أسوتهم السيئة ، فهذا بوارٌ وخسار ، ولكي يكون النبيُّ أسوة حسنة لنا يجب أن يرجو أحدُنا اللهَ واليوم الآخر ، فإذا رجا الدنيا انقلب كبراء الدنيا أسوة له في دنياه . والقرآن الكريم قراءته سهلة ، ولكن أن تقف عند آياته ، وتعقلها ، وأن تقف عند حدودها ، وأن تعرف أين أنت منها ، وماذا فعلت حتى وصلت ، فهذا يحتاج إلى جهد ، وهذا كلام الله سبحانه وتعالى ، ونرجو أن يكون النبي أسوة حسنة لنا ، قال عليه الصلاة والسلام : طوبى لمن وسعته السنة ولم تستهوه البدعة . والحمد لله رب العالمين
[quote]
مقبول حسون الادارة
عدد المساهمات : 2413 تاريخ التسجيل : 08/12/2009
موضوع: : الوضوء -المسح على الخفين - اليقين - من قصة جعفر بن أبي طالب السبت مارس 27, 2010 4:14 pm
: الوضوء -المسح على الخفين - اليقين - من قصة جعفر بن أبي طالب
بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. أيها الأخوة المؤمنون ؛ ( باب المسح على الخفين )، صحَّ المسح على الخفين في الحدث الأصغر ، وما هو الحدث الأصغر ؟ ما يوجب الوضوء ، والحدث الأكبر ما يوجب الغسل ، صحَّ المسح على الخفين في الحدث الأصغر للرجال والنساء ولو كانا - هذه الألف على من تعود ؟ على الخفين - ولو كانا من شيء ثخين غير الجلد ، فعلى المذهب الحنفي لا يشترط أن يكون الخف جلداً ، بل شيء ثخين غيرالجلد ، سواء كان لهما نعل من جلد أو لا ، ويشترط لجواز المسح على الخفين سبعة شرائط . الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في آخر أيامه ألَّف رسالةً عنْونَها بالمسح على الخفين ، وعدَّ الجوربين خفَّين ، ويشترط لجواز المسح على الخفين سبعة شرائط : - الأول لبسهما بعد غسل الرجلين ، فلا يجوز لك المسح على الخفين إلا إذا لبست الجوربين، لأن الخفين بعد غسلهما ولو قبل كمال الوضوء طبعاً ، الترتيب سنة ، فلو أنّ إنسانًا غسل رجليه ولبس الخفين وأتمَّ الوضوء جازَ ، لكن يجب أن يتم الوضوء قبل نقضه ، لأن الخفين يمنعان سريان نقض الوضوء إلى الرجلين ، لكنهما لا يرفعان نقض الوضوء ، وهذا شيء دقيق ، فيجب أن يلبس الخفين بعد غسل الرجلين ولو قبل كمال الوضوء ، وقبل أن ينتقض ، فلو انتقض الوضوء قبل كماله لوجب نزع الخفين ، إذاً الشرط الأول لبسهُما بعد غسل الرجلين ولو قبل كمال الوضوء ، إذا أتمه قبل حصول ناقض للوضوء . - الشرط الثاني سترُهما للكعبين ، أن يكونَ الخفان ساترين للكعبين. - الثالث إمكان متابعة المشي فيهما ، أيْ أنْ يستطيع لابسُ الخفين أن يمشي بهما ، فلا يجوز المسح على خف من زجاج ، ولا من حديد ، ولا من خشب ، فيجب في الخفَّين استطاعةُ المشي بهما . - الشرط الرابع خلوُّ كلٍّ منهما من خرق - ثقب - قدر ثلاثة أصابع من أصغر أصابع القدم ، فإذا كان في الجورب أو الخف خرقٌ يزيد عن مقدار ثلاثة أصابع من أصغر أصابع القدم لم يجُز المسحُ عليهما . - الشرط الخامس استمساكهما على الرجلين من غير شٍّد ، يعني من قماش له قوامٌ يقوم بنفسه. - الشرط السادس منعهما من وصول الماء إلى الجسد . - الشرط السابع مدة المسح على الخفين يوم وليلة للمقيم ، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر . متى يبتدئ وقت المسح ؟ قال الفقهاء : ابتداء المدة من وقت الحدث بعد لبس الخفين ، مثلاً إنسان توضَّأَ عند العصر ولبس الخفين عند المغرب ، وما انتقض وضوؤهما بين العصر والمغرب ، إذًا لم تبدأ بعدُ مدةُ المسح ، وعند العشاء انتقض وضوؤه الآن من العشاء يوم وليلة للمقيم ، أو ثلاثة أيام بلياليها للمسافر ، إذاً مِن أولِ حدثٍ بعد لبس الخفين يبدأ وقت المسح ، فإن مسح مقيمٌ ثم سافر استمتع برخصة السفر ، وهو مقيم مسح عند صلاة الصبح ، وعند العصر طرأ له سفر ، انقلبَت المدةُ من يوم وليلة إلى ثلاثة أيام بلياليها على مسحه الأول ، وإنسان آخر مسافر وصل إلى بيته ، وكان قد مضى على لبس الجوربين أو الخفين بعد غسلهما يوم وليلة ، فمنذ أقام المسافرُ يدخل في حيِّز الإقامة ، ويجب نزعهما إنْ كان قد مضى على إقامته منذ بدأ المسح يوم وليلة ، وإذا كان أقل فلَهُ أن يتمَّ يومًا وليلةً ، يعني إن كان مقيمًا وسافر يدخل في مدة السفر ، وإنْ كان مسافراً وأقام يدخل في مدة الإقامة . وقدر المسح قدر ثلاثةِ أصابع من أصغر أصابع اليد على ظاهر مقدَّم كل رِجْل ، ثلاثة أصابع إذا مررت بها من أصغر الأصابع على مقدم الرِجْل فهذا هو المسح على الخفين . سننه : مدُّ الأصابع منفرجة من رؤوس أصابع القدم إلى الساق ، ومع مدِّ الأصابع انفراجُها أيضًا ، وينقضُ مسحَ الخف أربعةُ أشياء ؛ كلُّ شيء ينقض الوضوء ينقض المسح ، ولا ينقض لبس الجوربين أو الخفين ، يعني أنك لا تحتاج إلى مسح مرة ثانية ، ونزعُ الخف ولو بخروج أكثر القدم ، فلو فرضنا طفلاً نزع جورب والده فخرجت معظَمُ الرِّجل من الجورب انتقض المسح على الخفين ، وإصابةُ الماء أكثر إحدى القدمين في الخف على الصحيح ، لو فرضنا شخصًا من دون أن ينتبه داس في مجمع ماء أكثر القدم فابتلَّتْ بالماء انتقض المسح على الخفين ، لأنه وقع عندئذٍ اختلاطٌ بين المسح والغسل ، ومضيُّ المدة ينقض المسح على الخفين، مضى يوم وليلة أو ثلاثةُ أيام بلياليها ، فالمضيُّ وحده أو نزعُ الخف أو ابتلالُ الرجل بالماءِ أو ما ينقض الوضوء ، أربعةُ أشياء تنقض المسح على الخفين ، هذا هو المسح على الخفين ، له فرض ، وله سنن وله نواقض ، وله شروط ، وله مدة ، وله تعريف وهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . روى حديثَ المسحِ أكثرُ من ثمانين صحابياً ؛ منهم العشرة المبشرون بالجنة ، وقال بعض الحفاظ : خبرُ المسحِ على الخفين متواترٌ كما في فتح الباري ، طبعاً وحتى لو كان الماء متوافرًا ، وأناس يعانون أكزمة تحسس ، أو أنْ يكون الشخص في الخدمة العسكرية ويصعب عليه خلعُ هذا البوط ، فالإسلام يُسٍرٌ في وقت حرج كبير ، وفي أيام الشتاء البارد تخاف أن تصاب الرِّجلُ بأمراض كتسليخ لحمها ، فالإسلام يُسرٌ ، فحيثما وُجِدَتْ حاجةٌ للمسح على الخفين فهذه رخصة ، وإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه .
* * * عودٌ إلى إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ؛ صفات علماء الدار الآخرة ؛ وها نحن نعرض صفةً من صفاتِ علماءِ الدار الآخرة وهي أن يكون شديد العناية بتقوية اليقين قال عليه الصلاة والسلام :" اليقين الإيمان كله " قد قال بعضهم : رأس مال الدين اليقين ، وقال عليه الصلاة والسلام : " تعلموا اليقين " ماذا فهِم الإمام الغزالي من هذا الحديث الشريف ؟ فهِم أن معناه : جالِسوا الموقنين ، واستمعوا منهم علم اليقين ، وواظبوا على الاقتداء بهم ليقوى يقينكم كما قوي يقينهم ، وبعد قليل سأشرح لكم ما هو اليقين ، قال عليه الصلاة والسلام :" تعلموا اليقين ، " اليقين الإيمان كله" ، وقد وردت في وصية لقمان لابنه : " يا بني لا يُستطاع العمل إلا باليقين" ، فإذا ثبت لك أن في هذه الأرض ماء ، وعندك مزرعةٌ كبيرةٌ توشك أن تموت عطشاً ، وقد ثبت لك يقيناً أن في الأرض ماءً ، فما الذي يحملك على أن تستأجر حفارةً ، وتدفع لها ثمناً باهظاً ، وتؤمن لها المعدات ، وتشتري القمصان ، وتدفع مبلغًا مقدمًا قد يصل إلى مائة ألف ، ما الذي يحملك على دفع هذه المبالغ ؟ إنّه يقينك أن هناك ماءً يمكن استخراجُه ، وهذه الوصية لطيفة . " يا بني لا يُستطاع العمل إلا باليقين" ، تقول لإنسان : هذه الصفقة حرام ، يقول : لا ، ليست حرامًا ، فيها ربح مئتان وخمسون ألفًا ، " ضع في الخرج" ، طبعاً ما يتيقن أن الخسارة من الله سبحانه وتعالى ، ولو تيقن أن معصية الله تسبِّب خسارةً ماديةً في الدنيا قبل الآخرة لَما أقدم عليها ، يعرض له بيت ليشتريَه ، ونقصه مالَه مئتا ألف ، فيأخذها قرضًا بفائدة، ركبتُ بالسيارة العامة منذُ يومين ، فقال رجل لآخر : مائة ألف صارت مائة ألفٍ وثلاثة وثمانين ألفًا مع الفوائد ، لأنّ يقينه ليس هناك حل لهذه القضية إلا بهذه الطريقة ، فلو كان عنده يقين بأن الله سبحانه وتعالى حاضر ناظر ، ورأى أن عبده يتهيَّب أن يأكل مالاً حراماً فإنّه يَيَسِّر له هذا المبلغ من طريق شرعي ، إذا قال رسول الله : "اليقين الإيمان كله" فهذا صحيح وصواب ، تجد طالبًا يدرس ولا يوقن بالنجاح ، ولو لم يكن موقِنًا بالنجاح لمَا درس ، تجد طالبًا يختار فرعًا في الجامعة ولا يوقن من جدواه ، فلو تتبَّعتَ أعمالنا اليومية فلن تجد إنسانًا موقنًا بأنّه لا يربح ، ولَم فتَحَ محلاًّ ، فلو لاحظت أعمالنا لوجدتَ أنّ المحرك الأول لأعمالنا الدنيوية هو اليقين ، فإذا كنت ضعيفَ اليقين تتردَّد وتقول : لا يوجد همّة ، ضعفُ الهمّة من ضعف اليقين ، وانعدام العمل من انعدام اليقين ، وقوة العمل من قوة اليقين ، فلذلك النبي الكريم قال : اليقين الإيمان كله ، وقال : تعلموا اليقين . "يا بني لا يستطاع العمل إلا باليقين" ، ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه ، فلو فرضنا إنسانًا قرأ القرآن ، وهو موقن أنه كلام الله ، وأنّ كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأن الله عز وجل وعَد المنفق بالتعويض والخَلَف ، وأنّ هذا المبلغ مهما كبُر إذا دفعه ابتغاء مرضاة الله فإن الله عز وجل سوف يعوضه أضعافاً مضاعفة ، إذا بلغ يقينك بهذه الآيات مبلغاً صحيحاً عندئذ تفتح وتعطي ، وتقول: هذه خمسة آلاف أقدِّمها للمسجد ، أوهذه عشرة آلاف ، فمتى تدفع المالَ ؟ إذا كان عندك يقين مائة بالمائة أن هذا المبلغ سوف يضاعفه الله لك أضعافاً كثيرة في الدنيا والآخرة . إذا كان الإنسانُ صاحبَ مصلحة ، وهذه البضاعة عليها طلبٌ شديد ، وأسعارها مرتفعة تراه يشتريها بقوة قلب ، ويقول له للبائع : أعطِني كلَّ شيء عندك ، فيقول له : السعر مرتفع ، يقول له : لا يهم أنا ما فاصُلتك شيء ، ولا سُمتُ البضاعة ، لماذا اشترى هذا بقوة ؟ لأنه يعرف أنه سيبيعها بسرعة ، وسوف يربح بها أضعافًا مضاعفة ، فلما يتيقن التاجر أنّ هذه البضاعة مطلوبة ، وزبونها موجود ويتقاضى الثمن نقدًا ، وسيربح بالمائة مائة ، تراه يسعى لشراء البضاعة بشكل جنوني ، لأنه متيقن من الربح ، فانظر إلى الإنسان كيف يسلك للدنيا ، أمّا إذا كانت بضاعة لا يعرفها يقول لك : لا أعرف أَتُباع أم لا تباع ، هذه بضاعة جديدة ، وسوف أجرب السوق ، هل تباع ؟ فتراه يشتريها بتردد ، أما إذا تيقن من بيعها فسيشتريها ، هذا في الدنيا ، وإذا تيقن الطالبُ أن هذه الشهادة سوف يتعين بموجبها فوراً ، ودخلُها كبير ، ترى دراسته جدية ، وانظر إلى إنسان درس الطب ، وعلِمَ أنّ البلد بحاجة إلى أطباء ، والأطباء دخلُهم كبير ، ولهم مكانة اجتماعية ، فإذا درسَ الأول الطب ، والثاني درسَ الحقوق ، فترى طالب الطب همَّتُه للدراسة أشدُّ ، وطالب الحقوق باعتبار أنّ حمَلة هذه الشهادة كثروا ، وفرص العمل قليلة ، فترى دراسته لا هِمَّةَ فيها ، لأن يقينه بالتعليم أقل . أعتقد أنّ الأمثلة أصبحت كافية ، فعندما يوقن الإنسان بالربح ، ويوقن بالفائدة تراه يحمله يقينُه على عمل صادق ، فهاتِ ليَ يقينًا بالآخرة ، وخذْ عملاً صادقًا متواصلاً ، والنفس لها قوانينها ، فإذا تيقنت أن الحياة فانية وزائلة وأن ما عند الله خير وأبقى ، وإذا تيقنت أن الآخرة هي كل شيء ، فلا يمكن إلا أن تعمل لها بصدق و مثابرة ، وإذا تيقن الإنسانُ أن هذه المعصية لها عقاب ، وأنّ لكل سيئةٍ عقاباً ، ويفوت عقاب سيئة واحدة عند الله عز وجل فلن يسيء أبدًا ، وهذا الذي جاءه زبون وطلب منه سعرًا فوق الحد المعقول، التكلفة بقيمة ألفين ، فقال له : عشرة آلاف ، فقال له جاره : لماذا طلبتَ أضعاف ما تستحقُّ ؟ فقال لجاره : هكذا أصول العمل ، وهذه تصليحة وهي غنيمة ، هذا الرجل عنده ابن يعمل بمخرطة ، فتدخل نثرة فولاذ في عينه ، تكلفه في اليوم الثاني عشرة آلاف ليرة بالعملة الصعبة ، هذا لو حضر مجلس علم وعنده يقين أن المال الحرام لا بد أن يذهب أضعافاً مضاعفة لمَّا غشَّ زبونه صاحب التصليحة ، ولماذا المؤمن يستقيم ؟ لأنّ عنده يقينًا أنّ هذه المعصية لها عند الله عقاب ، ومن الناحية المادية والتفسير العلمي أحدُ أسباب استقامة المؤمن أنه يوقن أن لكل سيئة عقاباً ، إذا أكل مالاً حراماً فسوف يتلف اللهُ له ماله ، وإن اعتدى على الآخرين أُعتُدِيَ عليه ، وإن نظر إلى نساء الآخرين فسينظر الناسُ إلى نسائه ، وإن أزعجهم أزعجوه ، فلكل سيئة عقاب ، واليقين شيء مهم . ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه ، ولا يُقصر عامل حتى ينقص يقينه ، ما يقصِّر عامل إلا إذا تزعزع يقينه ، وإذا كان عندك يقين أن كتاب الشكر من رئيسك في الدائرة يترجم إلى بعثة فوراً ، والبعثة في ورائها دكتوراه ، ومن ورائها منصب أعلى ، ودخل أكبر تهتم برضاء رئيسك اهتمامًا بالغًا ، أما إذا كان كتاب الشكر حبرًا على ورق ، ولا يقدم ولا يؤخر فإنّك فلن تبالي به ، إنّها قضايا ثابتة ، وهي قوانين مرغِّبة للنفس. وبعد ؛ فما معنى اليقين ؟ تكلمنا عن أهمية اليقين ، قال : اليقين له معنيان ؛ عند الفلاسفة له معنى ، وعند المتصوفين له معنى ، عند الفلاسفة : الأمور أربع درجات ؛ إما أن يستوي عندك الإنكار والثبوت سُئِلتَ عن فلان وأنتَ لا تعرفه أمسافر هو أم مقيم ، فتقول : لا أدري ، فهذه درجة يستوي عندك سفره وعدم سفره ، ودرجة أعلى يغلب على ظنك أنه مسافر ، ودرجة أعلى من ذلك أنّك ودَّعته في المطار ، لكن لا تدري أعاد أم لم يعد ، والدرجة الرابعة ودَّعته في المطار وجاءتك رسالة منه قبل يوم يخبرك فيها أنه مقيم هناك ، فصار اليقين عدم الشك ، أعلى درجة في اليقين انعدام الشك ، قالوا : هذا تعريف الفلاسفة ، وهناك أمثلة معقدة أنا بسَّطتُها لكم ، فإما أن يستوي عندك الثبوت أو النفي ، أو أن يغلب عندك الثبوت مع احتمال النفي ، أو أن يغلب عندك الثبوت مع ابتعاد النفي ، وإما أن يغلب عندك الثبوت مع نفي النفي ، إذاً انعدام الشك هو اليقين عند الفلاسفة . أما ضعف اليقين عند الصوفيين فله معنىً آخر ، مَن منا يشك أنه لن يموت ؟ لا أحد ، ومع ذلك معظم الناس لا يعملون لما بعد الموت ، فهؤلاء وإنِ اِنعدم الشكُّ عندهم ، وإنْ ثبت لديهم يقيناً أنهم سيموتون فلأنهم لا يعملون لما بعد الموت فهم ضعاف اليقين بالموت ، وهذا معنىً أرقى ، أحيانا يكون الطبيبُ عنده يقين قاطع أن التدخين يضر ، ومع ذلك يدخن ، نقول : هذا فلسفياً يوقن بضرر التدخين ، أما صوفياً ضعيف اليقين بضرره مع أنه يوقن ، ولكنه لأنه لم يترك الدخان فهو ضعيف اليقين به ، وهذا الموضوع دقيق . عند الصوفيين أو عند الفقهاء ضعف اليقين عدم الالتفات إلى الشيء ، إذْ يؤمن بالآخرة ولا يعمل لها ، ويؤمن بالنار ولا يتّقيها ، ويؤمن بالجنة ولا يسعى لها ، ويعرف أن هذه معصية ولا يتركها ، ويعرف أن هذه طاعة ولا يقبِل عليها ، هذا هو ضعف اليقين عند الفقهاء والصوفيين . وبعد فهذه أربعة مواضيع نموذجية عن اليقين ، فأولُ هذه الموضوعات التوحيدُ ، إذْ لا يوجد إنسان إلاّ ويعرف معنى لا إله إلا الله ، يعني لا مسيِّر لهذا الكون إلا الله ، ولا معطي إلا الله ، ولا مانع إلا الله ، ولا رافع إلا الله ، ولا خافض إلا الله ، ولا معز إلا الله ، ولا مذل إلا الله ، ولا قابض إلا الله ، ولا باسط إلا الله ، فهذا المعنى لا يوجد إنسان إلا ويعرفه ، ولكن عملياً عندما تغضب من زيدٍ لأنه حرمك شيئًا ، فهذا الغضب من زيدٍ هو إشراك بالله عز وجل، وهو ضعف اليقين بالتوحيد ، وحينما يمتلئ قلبك حباً لمن أعطاك هذا شيئًا ما ، ونسيت أن الله سبحانه وتعالى هو الذي سمح له أن يعطيك ، فهذا إشراك بالله ، وضعف يقين بالتوحيد، فالتوحيد على المستوى النظري سهل ، أما على المستوى العملي فهو صعب . لو فرضنا أن إنسانًا أساء إليك إساءة بالغة لا سمح الله ، تقول لصديقك : بقيتُ ثلاثة أيام لا أنام الليل مِن فِعلتِه ، فهل رأيتَ هذا من الله عز وجل ؟ لا ، بل رأيتَه من صديقك ، وامتلأ القلب غيظاً منه؛ هذا هو الشرك بالذات ، هذا هو ضعف اليقين ، ولكنك لو كنت قويَّ اليقين بالتوحيد لرأيت أن هذا الذي أساء إليك إنما هو عَصًا بيد الله عز وجل ، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي سمح له بذلك تأديباً لك ومعالجةً ، فينتفي من قلبك كلُّ غضب وحقد على الناس ، انظر فإنّ الأدوات بيد الله ، قال تعالى :
[ سورة البروج ]
[ سورة الفتح ]
[ سورة الأنفال ]
[ سورة هود ] لذلك أسعد إنسان في الأرض هو الموحد ، لأنّه يعلم أنّ كل علاقاته مع جهة واحدة ؛ مع الله عز وجل ، وأيّ إنسان أساء له يراه عصًا بيد الله ، عندئذٍ ينعدم من قلبه الحقدُ والكراهية ، ويرى علاقته مع الله وحده ، وهذه واحدة من وحدات اليقين ، فكل إنسان يمتحن يقينه ، من أي مستوى يقينه ؟ هل ترى الخير من الله ؟ هل تذم الناسَ على ما لم يعطك الله ؟ هل تمدحهم على ما آتاك الله ؟ هذا هو ضعف اليقين بالذات ، وما قسم الله لعباده نصيباً أوفى من العقل واليقين ، فحقائق الدين واضحة ، ولكن إمّا أن تعيشها ، وإما ألاّ تعيشها ، إن عشتها فأنت موقن بها ، وإن لم تعشها فلست موقنًا بها ، وهذا هو التوحيد . موضوع آخر لليقين هو الرزق ، قال تعالى :
[ سورة هود ] إذا بلغك أنه سوف يستغنون عن خدماتك في هذه المصلحة ، تقول : من أين آكل ؟ وعندي خمسة أولاد ، وبيتي بالأجرة ؟ تنام مذعورًا لأنّ يقينك بهذه الآية ضعيف ، أما المؤمن فهو موقن أنّ الله هو الرزاق ذو القوة المتين فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ * (رواه أحمد) المؤمن موقن أن رزقه بيد الله ، وأجله بيد الله ، لذلك يقول الحق ، ولا تأخذه بالله لومة لائم ، ولا يخشى أحداً إلا الله ، فاليقين بالتوحيد موضوع كبير ، ولاحظ نفسك حين تنقم على الناس إذا حرموك شيئًا تجِد يقينك بالتوحيد صفرًا ، ولما تحب إنسانًا أعطاك شيئًا ، أنّ يقينك بالتوحيد صفر أيضًا ، ولما يمرض أحدُ أولادك وتأخذه إلى الطبيب فيعاينه ويصف له دواء ويشفى ، فتقول : ما شاء الله ، ما أمهرَ هذا الطبيب ، يحمل شهادة بورد ، أمّا قبل أنْ تأخذه إلى الطبيب ، يا ربِّ حرارته واحد وأربعون ، التهاب سحايا ، يا رب ليس لي غيرك ، فأرسلك إلى طبيب ألهمه الدواء الناجح ، وهذا الدواء سمح له أن يؤثر ، فلمّا أثّر وتراجعت الحالة ،تقول : هذا طبيب ليس له مثيل ، فهذا هو ضعف اليقين بالله عز وجل ، أما المؤمن إذا أخذ ابنه إلى الطبيب وشفي ، يقول : يا رب لك الحمد ، أنت ألهمت الطبيب الدواء الناجح ، وأنت سمحت للدواء أن يؤثر التأثيرَ الشافي ، وأنت كتبت له الشفاء ، لكن لما تعتقِد أنّ الخيرَ والشرَّ من الناس فهذا هو ضعف اليقين بالتوحيد. وعندما يعتقد الإنسان أنّ دخله كبير نظرًا لخبرته العالية ، ويقال عنه : في هذه المصلحة ثلاثين سنة ، فهو فارسُ مهنته ، والزبائن يتزاحمون فوق بعضهم ، فالله عز وجل يؤدِّبه ، قالوا : رجلٌ وصل إلى درجة مذهلة من الغنى في قطر عربي مجاور ، فقال : أنا اغتنيتُ ، يعني أنّه لن يفتقر بعد اليوم - في اللغة الدارجة (قَبَرَ الفَقْرَ) - قال رجل صادق عندي : حينما مات جمعوا له من الناس مالاً كي تنفقوا على تجهيزه ودفنه ، هذا الذي قال : أنا اغتنيت ، فهو ضعيف اليقين ، لأن الله عز وجل الذي أعطاه يسلبه ، الله الذي أعطاه هذا المال قادر أن يسلبه إياه في دقائق ، كل خبراتك من هذا العقل لو تعطل شيء في العقل ، نقطة دم إذا تجمدت في بعض الشرايين تفقد ذاكرتك وكل معلوماتك ، قد يكون إنسان له مكانة كبيرة رجل وصل إلى درجة مدير عام معه دكتوراه بالجيولوجيا وله مكانة كبيرة وسيارته على الباب وزوجته فرنسية فقد بصره تحملوه شهر ذهب البريد إلى البيت ثم سرحوه ، زاره صديق قال له : أتمنى يا دكتور أن أبقى على الرصيف على هذا الثوب وأتسول ولكن يرد الله لي بصري . بالصحن في قطعة لحم دفعتها إلى زوجتك حتى هذا المستوى يجب أن يجزيك الله عليه ، أُعطيت قطعة حلوى قلت في نفسك هذه لابني أطعمتها له ، هذه القطعة لها عند الله حسابها ، أنت كان من الممكن أن تأكلها لا أحد يشاهدك ما قدموا لك ، قال تعالى :
[ سورة الزلزلة ] إذا عندك يقين في هذه الآية تقبل على العمل الصالح إقبالاً شديداً وتنتهي عن المعاصي انتهاءً عجيباً ، بهذا الآية . اليقين الرابع أن الله مطلع عليك ، يعني مثلاً إنسان دخل يسرح شعره بل شعره فتذكر أنه لم يصلِ العصر فقام ليصلي ، يعني أنت تدخل لمقابلة إنسان وشَعْرُك غير مسرَّح ومبلَّل ؟ سرِّحه أولاً قبل أنْ تدخل في الصلاة ، كذلك ما وجدت جاكيت البيجامة فصليت العصر بالقميص الداخلي ، ألم تعلم أنّ الله يطَّلع عليك ، وأنّ هذا اللباس لا يليق للصلاة ، قال تعالى : يَا يبَنِي آدَم خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف ] سيدنا رسول الله استأجر أجيرًا ، فخلع ثيابه واغتسل أمام الناس ، فقال له : خذ أجارتك لا حاجة لنا بك إني أراك لا تستحيي من الله . يجب أن يكون عندك يقين بأن الله مطلع عليك في سرك وجهرك ، في خلوتك وجلوتك ، من لم يكن له ورع يحجزه عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله ، ويجب أن يكون عندك يقين أنه : من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ، وتحتاج إلى يقين تدرك به أن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء ، وإلى يقين بأن الرزق بيد الله، فهذه إذًا أربعة مواضيع ؛ التوحيد ، والرزق ، وجزاء العمل ، والاطلاع عليك ، كلُّ هذا بيد الله ، ويعلمه الله ، فراقِبْ نفسَك. إذا خاطبك إنسان بلهجة قاسية تثب عليه لتأكله ، أين اليقين بأن الله تعالى هو الذي أنطقه ؟ وهو الذي سمح له أن يزعجك ، فعُدْ إلى نفسك وانظُرْ ماذا فعلت ؟ فما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بسبب منك :
[ سورة آل عمرن ] هذا هو اليقين حقًّا ، لذلك ، وما قسَم الله لعباده نصيباً أوفرَ من العقل واليقين ، فإنْ كنت عاقلاً وموقناً فقد ملكتَ كلَّ شيء ، لكن لضعف يقينه صار ضعيفًا متردِّدًا ، وقد يغدو مخذولاً . * * * لدينا بعض الوقت فلنَعُدْ إذًا إلى أخبار سيدنا جعفر رضي الله عنه ، فقدْ قضى عند النجاشي عشر سنوات آمناً مطمئنًّا هو وزوجته ، وفي السنة السابعة للهجرة غادرا بلاد الحبشة مع نفر من المسلمين متجهين إلى يثرب ، فلما بلغوها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عائداً لتوِّه من خيبر بعد أن فتحها الله له ، فَفَرِح بلقاء جعفر فرحاً شديداً ، حتى قال : ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً ؛ أبفتح خيبر أم بقدوم جعفر ، انظر إلى هذه اللغة اللطيفة . ولم تكن فرحة المسلمين عامة والفقراء منهم خاصةً بعودة جعفر بأقلَّ من فرحة النبي عليه الصلاة والسلام ، فقد كان جعفر شديد الحدب على الضعفاء ، كثير البر بهم ، حتى إنه كان يلقب بأبي المساكين ، قال أبو هريرة : كان خير الناس لنا معشر المساكين جعفر بن أبي طالب ، فإذا كان لك عمل يا أخي السامِع ، وبُحِثَ موضوعُ الفقراء والضعفاء والمساكين فلا تأخذ موقفًا عنيفًا ، بل خذ موقف العطف ، وكنْ محامياً لهم مدافعًا عنهم ، فهؤلاء المساكين الضعاف ، كما قالوا : كان يمضي بنا إلى بيته ، ويطعمنا ما يكون عنده ، حتى إذا نفدَ طعامه أخرج لنا القربةَ التي يوضع فيها السمن ، فنشقُّها ونلعق ما علق بها ، ولم يطُل مكثُ جعفر بن أبي طالب في المدينة ، ففي أوائل السنة الثامنة للهجرة جهز النبي عليه الصلاة والسلام جيشاً لمنازلة الروم في بلاد الشام ، وأمَّر على الجيش زيد بن حارثة ، وقال : إنْ قُتِل زيد أو أصيب فالأمير جعفر ، فإن قُتِل جعفر أو أصيب فالأمير عبد الله بن رواحة ، فإنْ قُتِل عبد الله أو أصيب فليَختَر المسلمون لأنفسهم أميراً منهم ، فلما وصل المسلمون إلى مؤتة ، وهي قرية واقعة على مشارف الشام ، وجدوا أن الروم قد أعدّوا لهم مائة ألف تظاهرهم وتساندهم مائة ألف أخرى من قبائل لخم ، وجذام ، وقضاعة ، أما جيش المسلمين فكان ثلاثة آلاف رجل ، وما أن التقى الجمعان ودارت رحى المعركة حتى خر زيد بن حارثة شهيدًا مقبلاً غير مدبر ، فما أسرع أن وثب جعفر بن أبي طالب عن ظهر فرس كانت له شقراء ، ثم عقرها بسيفه حتى لا ينتفع بها الأعداء من بعده ، وحمل الراية وأوغل في صفوف الروم وهو ينشد : يا حبذا الجنة واقترابهــا طيبة وبارد شرابـــها الروم روم قد دنا عذابهـا كافرة بعيدة أنسابـــها عليَّ إذا لاقيتها ضرابها وظل يجول في صفوف الأعداء بسيفه ويصول حتى أصابته ضربة قطعت يمينه ، فأخذ الراية بشماله ، فما لبث أن أصابته أخرى قطعت شماله ، فأخذ الراية بصدره وعضديه ، فما لبث أن أصابته ثالثة شطرته شطرين ، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة ، فما زال يقاتل حتى لحق بصاحبيه ، فبلغ النبيَّ صلوات الله عليه استشهادُ قواده الثلاثة ، فحزن عليهم أشد الحزن ، وأمضه الألم ، وانطلق إلى بيت ابن عمه جعفر بن أبي طالب ، فألفى زوجته أسماء بنت عميس تتأهَّب لاستقبال زوجها الغائب ، فهي قد عجنت عجينها ، وغسّلت بنيها ودهَنَتْهُم وألبستهم ، فقالت أسماء: فلما أقبل علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رأيت غلالة من الحزن توشح وجهه الكريم ، فَسَرَت المخاوفُ في نفسي ، غير أني لم أشأ أن أسأله عن جعفر مخافة أن أسمع منه ما أكره ، فحيا وقال : ائتني بأولاد جعفر ، فدعوتهم له فهبُّوا نحوه فرحين مزغردين ، وأخذوا يتزاحمون عليه ، كلٌّ يريد أن يستأثر به ، فأكبَّ عليهم صلى الله عليه وجعل يتشمَّمُهم ، وعيناه تذرفان من الدمع ، قلت يا رسول الله : بأبي أنت وأمي ما يبكيك ؟ أبلغك عن جعفر وصاحبيه شيء ، قال : نعم لقد استشهدوا هذا اليوم ، عندئذ غابت البسمة من وجوه الصغار لما سمعوا أمهم تبكي وتنشج ، وجمدوا في أماكنهم كأن على رؤوسهم الطير ، أما النبي عليه الصلاة والسلام فمضى وهو يكفكف عبراتِه ويقول : اللهم اخلف جعفراً في ولده، اللهم اخلف جعفراً في أهله ، ثم قال : رأيت جعفرًا في الجنة له جناحان مضرَّجان بالدماء وهو مصبوغ القوادم . فالإنسان له مواقف فلتَكُنْ نبيلة ، وسيدنا جعفر وقف هذا الموقف المشرف ، فما عليه إن مات شهيدًا ، فإذا كان الإنسان منا له مواقف مشرفة في الحياة ، فكل شيء زائلٌ عدا هذه المواقف ، وكلٌّ إلى زوال ، ماذا أكل ؟ ماذا شرب ؟ ماذا لبس ؟ أين ذهب ؟ ما نوع بيته ؟ ما نوع أثاث بيته ؟ كم دخْلُه ؟ هذا كله زائل ، ولكن الذي يبقى هذه المواقف المشرفة ؛ مِن حبٍّ لله ورسوله ، ألا لا إيمان لمن لا محبَّة له ، ألا لا إيمان لمن لا محبّة له ، ألا لا إيمان لمن لا محبّة له ، سيدنا جعفر له قصة مطولة مع النجاشي ، وأنا آثرت أن أتجاوزها لضيق الوقت أولاً ، ولأنكم سمعتموها مني مرات عديدة ، لكني أوجزها ؛ فقد وقف أمام النجاشي وقال : أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ قَالَ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ * [رواه أحمد] هذا الكلام الموجز من سيدنا جعفر لخَّص الجاهلية والإسلام ، فهو كلام بليغ موجز ، هكذا كنا ، وهكذا أصبحنا ، ما قال له : خِفْنَا أن نصلي ، مع أن الصلاة فرض ، والصلاة وسيلة لهذه الأخلاق ، وسبحان الله فلقد اختلف الأمر وصار الإنسان إذا صلى ولو أكل أموال الناس بالباطل ، ولو آذاهم فإنه يحجُّ ويظن أنّ حجَّه يمحو كل مساوئِهِ مع الناس ، إساءات ، وإخلاف مواعيد ، وكذب ، وعدوان ، وتلبيس على إبليس ، فهذا كلُّه يفعله ولا يبالي، لذلك زَهِدَ الناس بالدين ، وانفضوا عنه ، ولو كان أهلُ الدين يعيشون قيمًا إسلامية رفيعة ، إخلاصًا ، وفاء رحمة ، بذلاً ، تضحية لإدخال الناس في دين الله أفواجاً ، ولهذا خرج الناس حقيقةً من دين الله أفواجاً ، لأن الإسلام بقي عند الناس صومًا وصلاة وشعائر مفرغة ، وعلى المسلمين أنْ يجعلوا الدينَ مكارم أخلاقية ، وسيرة اجتماعية حسنة ، وقدوة فذَّة اقتداءً برسول الله صلى الله عليه و سلم ، وعندئذ ترفرف راية الدين عالية . لكن الإنسان يفهم الدين عبادات فقط فهذا هو الفهم القاصر ، أمَّا إذا فهم الدينَ كمالات ، فهذا هو الفهم الصحيح ، وبهذا الفهم الصحيح فتح الصحابةُ قلوبَ الناس قبل فتح البلاد . ثم إني أعرِّج على موضوع قصير أعرِّف مِن خلاله الجمال والكمال ، فاستمعوا لتعريف رسول الله حيث قال : الجمال صواب القول بالحق ، فلنتكلم بالحق ، والحق ليس عليه رد ، والحق غذاء للنفوس كما أن هذا الجسد يحتاج إلى غذاء يومي هذه النفس تحتاج إلى غذاء والحق غذاؤها ، الجمال صواب القول بالحق ، والكمال حسن الفعال بالصدق ، يكون عملك طيبًا ، ولكن ليس نفاقاً ولكن صدقاً . " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ " [ أحمد ] تقع حالات وفاة مفاجئة ، كأنْ تكون وفاة بحادث ، فهذا إنسان عملُهُ طيب ، فبينما هو بين أهله إذْ به بعد نصف ساعة قد توفي ، وبعد ثلاث ساعات صار في القبر ، لا يوجد روتين في دفن الموتى ، يموت مثلاً الساعة العاشرة وعند الظهر يصير في التربة ، يكون الساعة التاسعة لا يشكو من شيء ، وفي التاسعة والنصف أصابتهُ سكتة قلبية ، الساعة العاشرة توفي الساعة الثانية عشرة والنصف كان في التربة ، فإذا كان مؤمنًا صار في الجنة ، والنار كذلك فإذا كان في بحبوحة مثلاً ودخلٌ كبير وعز وجاه ، فحادث بسيط قد يجعله من أهل القبور ، وإذا كان عمله سيئًا فإلى جهنم ، الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ ، فالإنسان العاقل يهيِّئ نفسه ، والمؤمن العاقل يعدُّ نفسَه دائمًا كأنه على سفر ، وكل شيء جاهز ، فالموت أقرب إلى المرء من بياض العين إلى سوادها ، فاللهَ نسأل الصواب والسداد .