"إسرائيل" تعلن حرباً ديمغرافية على الشعب الفلسطيني
علي بدوان
جاء القرار الإسرائيلي الأخير المعنون بالرقم «1650» والقاضي بإبعاد عشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين من كافة مناطق الضفة الغربية المحتلة عام 1967 بذريعة «أنهم متسللون إليها» وعدم حملهم تصاريح إقامة دائمة من قبل سلطات الاحتلال، بمثابة إعلان صريح وواضح للحرب الديمغرافية الصهيونية التي تمارسها سلطات الاحتلال يومياً على أرض الواقع منذ الاحتلال الكامل للضفة الغربية والقدس، واستكمالاً لعمليات التطهير العرقي وعمليات الترحيل «الترانسفير» التي خاضتها ومازالت دولة الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني منذ عام 1948، خصوصاً وأن القرار الجائر يقضي أيضاً في فقرة من فقراته بترحيل كل فلسطيني يحمل هوية يتحدد فيها مكان سكنه بقطاع غزة، الأمر الذي يطال حال تنفيذه عشرات الآلاف تبدأ بأبناء الشعب الفلسطيني الذين انتقلوا للسكن في أي من مدن وبلدات الضفة الغربية، لسبب أو لآخر كما هو حال أي مواطن في العالم فوق أرض وطنه.
فسلطات الاحتلال في هذا المسعى تحاول حشر العدد الأكبر من المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة، وتعمل بالتالي على تحويل القطاع إلى محشر بشري يتم فيه وضع الفلسطينيين في كانتون مغلق وكبير ومطوق من كل الجهات والجوانب، وعلى حساب تفريغ الضفة الغربية من مواطنيها الفلسطينيين «أو تخفيف أعداد سكانها في أحسن الأحوال» وجعل أراضيها مرتعاً لعمليات التهويد والاستيطان المتلاحقة.
وعليه، فالقرار الإسرائيلي يراد منه في واحدة من تجلياته الأساسية والرئيسية استحداث نكبة فلسطينية جديدة كالتي حدثت عام 1948 من حيث التهجير القسري والتطهير العرقي للمواطنين الفلسطينيين من على أرض وطنهم التاريخي، وتفريغ متتابع للأراضي الفلسطينية المحتلة من مواطنيها، بقصد استجرار المزيد من المستوطنين اليهود إليها من أصقاع المعمورة، وتهويدها بشكل كامل.
كما أن القرار الإسرائيلي الأخير يحاول هذا المرة في واحدة من استهدافاته اللئيمة والخبيثة، إعادة إنتاج تفتيت الأرض والشعب الفلسطيني، وتقسيمه مابين داخل وخارج، ومابين غزة، وضفة غربية، وقدس، وهي عملية لا تحمل استهدافاتها المباشرة للأرض الفلسطينية فقط، بل تتعدى ذلك باتجاه إحداث «فرط للعقد التوحيدي» للشعب والأرض والقضية الفلسطينية بشكل عام، في سياقات عملية التذويب والابتلاع الوطني والقومي، التي مورست بحق الشعب الفلسطينية وكيانيته الوطنية منذ اقتلاعه عن ارض وطنه التاريخي اثر نكبة عام 1948م. ولهذا نقول بأن القرار المذكور قرار عنصري وعدواني بامتياز، يهدف إلى تكريس حالة الانقسام الحاصلة حالياً داخل الساحة الفلسطينية، ويعمل على تعميق الانقسام جغرافياً، كما ويمثل في الوقت نفسه خطوة إضافية في مسلسل الترحيل والتهجير التي شنت تاريخيا على الشعب الفلسطيني منذ نكبة عام 1948، في مشهد متكرر للنكبة الكبرى التي ألمت بشعبنا ومازال يعيش آثارها المؤلمة حتى هذا اليوم.
عدا عن ذلك، أن القرار الإسرائيلي الأخير، يشكل انتهاكاً فظاً للقانون الدولي ولشرعة حقوق الإنسان، ولاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 والمتعلقة بحماية السكان فوق الأراضي المحتلة وحماية ورعاية بقاءهم. فالقرار في محصلته ضربة موجهة بشكل مباشر إلى القوانين الدولية، وإلى مفاوضات السلام وحتى للتصورات الأميركية الموعودة للتسوية في المنطقة، والتي كانت قد أطلقت على لسان الرئيس باراك أوباما في السنة الماضية. فالقرار الإسرائيلي يشكل في حد ذاته تحدياً سافراً وغير مسبوق للجهود الأميركية «اللفظية» الجارية من اجل إعادة إطلاق عملية المفاوضات على مساراتها المختلفة. والتحدي الإسرائيلي للجهود الأميركية المعلنة ما كان ليأتي لولا الموقف الأميركي ذاته البعيد عن التوازن، والمليء بالانحياز ل"إسرائيل".
وبالطبع فإن "إسرائيل" تحاول استثمار الغطاء الأميركي حتى النفس الأخير، حيث لم تحرك الإدارة الأميركية ساكناً عقب إعلان تل أبيب لقرارها الأخير، ولم تتفوه أي من مواقع القرار في واشنطن ولو بتصريح لفظي ينتقد القرار الإسرائيلي. فالتواطؤ الأميركي واضح وصارخ، وواشنطن مازالت إلى الآن متمترسة في مربع الانحياز للدولة العبرية الصهيونية بالرغم من ضجيج الأصوات التي تصدر من البيت الأبيض من حين لأخر والداعية لتنشيط عملية السلام وعودة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لطاولة المفاوضات.
إضافة لذلك، فان حالة الفتور والضعف العربية على مستوياتها الرسمية، وتسارع الخطى وتسابق الزمن للاستفادة إلى أقصى الحدود من حالة الانقسام في الموقف العربي، ومن حالة فرقة العرب، وترهلهم، وانعدام المسؤولية عند بعضهم, وقد شجعها على ذلك تواضع قرارات ونتائج قمة سرت العربية الأخيرة، فالقمة العربية الأخيرة لم تنجح في بناء الحد الأدنى المطلوب في الموقف الرسمي العربي بالرغم من هول الأحداث وتسارعها على أرض فلسطين.
بل وتعمل "إسرائيل" اليوم أكثر فأكثر، على تحدي النظام الرسمي العربي إلى درجة الاستفزاز المتعمد، بالاستمرار في تماديها وفي مواصلة انتهاج طريق التطهير العرقي بشكل خافت أحياناً، وبشكل صارخ في أحايين، وذلك بإطلاق المزيد من القرارات الاستيطانية الجائرة في مناطق القدس وداخل أحياءها العربية الإسلامية والمسيحية، وإزالة المعالم الإسلامية والعربية منها، وتدنيس المقدسات المسيحية والإسلامية فيها، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، وكنيسة القيامة، وأخيراً بإصدار القرار الجائر المنافي والمخالف للقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان.
قضية النازحين
ومن المعروف بأن سلطات الاحتلال أبعدت عن مناطق الضفة الغربية والقدس منذ احتلالها عام 1967 أعداداً كبيرة جداً من المواطنين الفلسطينيين، ومنعت عودة الآلاف من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس ممن كانوا خارج الضفة الغربية والقدس لحظة احتلالها، أو ممن غادروها مؤقتاً بسبب الدراسة أو العمل خارج فلسطين، حيث وصلت أعداد المبعدين بمن فيهم الممنوعون من العودة إلى أكثر من «850» ألف مواطن فلسطيني من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، ومازالت سلطات الاحتلال ترفض عودتهم حتى اللحظة، وتمنع حتى تطبيق ما يسمى قانون «لم الشمل». فتحولت أعدادهم الكبيرة إلى «نازحين» يقيمون في الأردن بشكل رئيسي في تجمعات «مخيم الطالبية، مخيم البقعة، مخيم جرش، مخيم ماركا»، وبعض منهم في دول الخليج العربي.
حيث يستهدف القرار جزءاً يسيراً ممن عاد منهم إلى الضفة الغربية في إطار مؤسسات السلطة الفلسطينية، ومن هؤلاء الفلسطينيون المصنفون تحت مسمى «النازحين»، حيث لا تعترف سلطات الاحتلال بهم، وأكدت أكثر من مرة في سياق المفاوضات مع الطرف الرسمي الفلسطيني بأنها لن تعترف سوى بالذين كانوا مسجلين ومقيمين في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة قبل يوم الرابع من يونيو 1967 كسكان في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا تعترف بمن خرج منهم قبل ذلك التاريخ أو بعده، وأنها لن تعترف بأفراد عائلاتهم وأقاربهم من الذين كانوا خارج فلسطين في ذلك الأسبوع ولم يتمكنوا من الرجوع.
وفي اجتماع لجان العمل التفاوضي بين الجهة الرسمية الفلسطينية والطرف الإسرائيلي في سياق عملية المفاوضات فإن الطرف الفلسطيني تمسك بتعريف النازحين من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة بأنهم: أولئك الذين خرجوا من ديارهم في الضفة والقطاع بفعل نتائج حرب 1967م. كذلك أولئك الذين كانوا خارج الضفة الغربية وقطاع غزة عندما اندلعت الحرب ومنعتهم "إسرائيل" من العودة إلى وطنهم، وهم من كانوا خارج فلسطين بقصد العمل أو الدراسة أو لأي سبب كان. إلا أن الموقف الإسرائيلي بقي عند تخومه المعروفة، ومازالت سلطات الاحتلال إلى الآن لا تعترف بحق أي مواطن من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس من الذين كانوا خارج الأراضي المحتلة أثناء حرب عام 1967 من العودة إلى وطنه. إنها فلسفة الاحتلال والتطهير العرقي، على مسمع العالم بأسره دون أن يحرك هذا العالم ضميره ودون أن تعلن الأمم المتحدة موقفاً واضحاً إزاء هذا السلوك العنصري الإسرائيلي تجاه حق شعب فوق أرضه الوطنية. فتصوروا على سبيل المثال لو حددت ألمانيا من هو المواطن الفرنسي الذي يحق له العودة إلى فرنسا أثناء الاحتلال الألماني للعاصمة باريس ولأجزاء كبيرة من فرنسا في الحرب العالمية الثانية..!
مواجهة القرار الإسرائيلي
من نافل القول إن حجم وأبعاد ومسستتبعات القرار الصهيوني الأخير، واسعة، واكبر من أن يقف الشعب الفلسطيني وحده في مواجهتها، فالموقف على الأرض يتطلب وقفة عربية جديدة بعيدة هذه المرة عن لغة المناشدات، ولغة الدبلوماسية الناعمة داخل الغرف وصالونات الاجتماعات، وبعيدة عن منطق الاتكال والارتهان والاعتماد على دور ما لواشنطن من أجل كبح جماح السياسات الدموية والفاشية والعنصرية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في فلسطين. إن الشعب الفلسطيني الذي يشكل رأس الحربة في مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني الزاحف باتجاه المنطقة العربية بأسرها، سيواجه هذه المرة القرار الإسرائيلي الجائر بكل الإمكانيات المتوافرة بين يديه، ولكن الضرورات والمصالح القومية تتطلب من العرب أجمعين الوقوف مع الشعب الفلسطيني هذه المرة بطريقة مغايرة، طريقة يغادر فيها العرب الرسميون «سياسة بيع الكلام» باتجاه مواقف أكثر تحديداً وملموسية.
ومن الطبيعي القول بأن القرار الصهيوني إياه، يفترض أن يدفع باتجاه إجراءات عربية سريعة وملموسة، ترتقي لمستوى الحدث، وليس اقلها طرد سفراء وممثلي الدولة الإسرائيلية الموجودين في بعض العواصم العربية. والانتقال نحو اشتقاق رؤية سياسية عربية تقوم على استثمار كل أدوات وعناصر القوة والفعل الممكنة في اليد العربية، بما في ذلك إعادة النظر بما يسمى «مبادرة السلام»، وتوفير كل أسباب الدعم والإسناد للشعب الفلسطيني في الداخل، ورفع الحصار عن قطاع غزة.
من جانب آخر، من الواضح أن القرار الإسرائيلي الأخير «1650» ألغى حتى السلطة الفلسطينية، وحولها إلى سلطة أكثر من هزيلة، وأضعف مكانتها ودورها بين الفلسطينيين في الضفة الغربية. فالقرار الإسرائيلي الأخير الرقم «1650» مخالفة واضحة وصريحة لكل الاتفاقات الموقعة بين السلطة الوطنية الفلسطينية والدولة العبرية الصهيونية، خاصة اتفاقية إعلان المبادئ المعروفة باتفاق أوسلو والذي أنشئت بموجبه السلطة الوطنية الفلسطينية، والذي اعتبر أن الأراضي الفلسطينية وحدة جغرافية واحدة، بل وأكد على أهمية الربط بين الضفة الغربية وقطاع غزة بممر آمن يربط بينهما، أي أنه يحق للمواطن الفلسطيني أن يقيم حيثما يشاء في أرض وطنه دون إعاقة من أحد.
إن ما يترتب على القرار الإسرائيلي الأخير حري بكل كل القوى الفلسطينية والفعاليات الوطنية داخل فلسطين والشتات، للارتقاء بمسؤولياتها الوطنية والتاريخية والترفع عن التباينات الجانبية، لمواجهة المخاطر التي تتهدد الشعب الفلسطيني وأرضه الوطنية، والسير باتجاه توحيد الصف الفلسطيني على أساس برنامج ائتلافي مشترك من أجل إفشال ومواجهة الإجراءات والسياسات العنصرية الصهيونية.
وهنا، فإن حركتي حماس وفتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحزب الشعب الفلسطيني وباقي القوى السياسية في الخريطة الفلسطينية تتحمل مسؤولية كبرى في العمل من أجل إنهاء الانقسام والعودة إلى الوحدة والالتفاف حول برنامج وطني وحدوي قادر على التصدي للسياسة الفاشية لدولة الاحتلال، والتأكيد مجدداً أن الأرض الفلسطينية ستبقى واحدة موحدة لكل أبناء الشعب الفلسطيني، وان الشعب الفلسطيني سيبقى أيضاً واحداً موحداً في الداخل والشتات، وأن لا مجال للحديث عن «فلسطيني من الداخل وفلسطيني من الخارج، أو فلسطيني ضفاوي وفلسطيني غزاوي» بالرغم من كل الظروف الصعبة المحيطة بنضاله الوطني.
صحيفة الوطن القطرية
[quote]