الدعاء الثاني :
==========
﴿ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وما أنا من الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ له وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأنا من الْمُسْلِمِينَ ، اللهم أنت الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إلا أنت ، أنت رَبِّي وأنا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لي ذُنُوبِي جميعا إنه لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا أنت ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلا أنت ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلا أنت ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكَ وَالشَّرُّ ليس إِلَيْكَ ،أنا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ﴾
========================
وفيه فوائد :
الفائدة السابعة والعشرون :
ذكر الوجه دون غيره من الأعضاء لأنه أشرفها ، ففيه دلالة على التعبير عن الكل بالجزء ، وتسمية الشيء ببعضه ، فقد عبر عن الجسم بالوجه .
الفائدة الثامنة والعشرون :
لم يذكر القلب – في الحديث - مع أنه أهم في توجهه ، ولعل السبب لأن المؤمن مطالب بأفعال الظواهر لأن عليها الثواب والعقاب ، أما البواطن فأمرها إلى الله ، فعلق الأمر على أمر ظاهر يمكن مشاهدته .
الفائدة التاسعة والعشرون :
ذكره الوجه دليل على ارتباط الظاهر بالباطن ، والقلب بالجوارح كما هو مذهب أهل السنة والجماعة في العلاقة بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح .
فتوجه قلب المصلي لله أثر على توجه جوارحه ومنها الوجه ، ثم يبقى بعد ذلك مقدار هذا التوجه مبني على مقدار توجه القلب لربه ، فكلما زاد توجه القلب لربه زاد توجه الجوارح ، فخشع البصر فلم يتعد موضع سجود ، وسكنت جوارحه فلم تطيش ، وأما إذا ضعف توجه القلب لله ضعف أيضا توجه الجوارح ، فأصبح البصر يلتفت وهذا اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة المرء ، والجوارح تعبث ، وقد يصل الأمر إلى أضعف من هذا .
الفائدة الثلاثون :
قوله : " وجهت وجهي للذي فطر السموات " دليل على تلازم توحيد الربوبية مع الألوهية ، فمن عرف أن الله هو فاطر السموات والأرض قاده ذلك إلى التوجه له بالعبادة .
الفائدة الحادية والثلاثون :
قوله : " فطر السموات والأرض " فيه حث على التفكر في مخلوقات الله وآلائه ، وأن التفكر فيها يهدي للتوجه لربها وفاطرها ومبدعها سبحانه وتعالى .
فكم يمر الإنسان بجبال وأنهار ؟ وكم نغفل عن الليل والنهار والشمس والقمر ؟ وصدق الله وفي أنفسكم أفلا تبصرون .
الفائدة الثانية والثلاثون :
فيه دليل على أن قراءة جزء من الآية في الدعاء أو غيره لا يعتبر قرآناً ، لأن قوله : " فطر السموات والأرض وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " هذه جزء من آية ، فلو كانت قرآنا لكان المستفتح بهذا الدعاء مخالفا للسنة حيث قرأ قرآنا قبل الفاتحة ، فصح القول بجواز قول الدعاء والذكر ولو تضمن جزء من آية ، وعلى هذا لو قرأ في ركوعه تسبيحا فيه جزء من آية لم يكن داخلا في النهي عن قراءة القرآن وهو راكع .
الفائدة الثالثة والثلاثون :
فيه التوكيد على الاعتراف بالتوحيد لله سبحانه ، وقد تكرر الاعتراف له في هذا الدعاء أكثر من مرة :
فقوله : " وجهت وجهي " ، وقوله : " حنيفا " ، وقوله : " مسلما "( ) ، وقوله : " وما أنا من المشركين " .
كلها عبارات تدل على التوحيد ، وتعطينا الأهمية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن في ذكره لتوحيده ، وهذا التكرار والاعتراف يناسب دعاء الاستفتاح جدا ، فإن المصلي يريد أن يناجي ربه ، ولهذا يذكر له توحيده له ويكرر هذا الأمر فإنه لن يجد أمرا يذكره في هذا المقام أفضل من ذكره للتوحيد .
الفائدة الرابعة والثلاثون :
ما تقرب متقرب لله سبحانه وتعالى أفضل من أن يوحده ، ويبرأ من الشرك به .
الفائدة الخامسة والثلاثون :
بين هذا الدعاء أن الإنسان لا يخلو من حالتين فقط :
حنيف موحد أو مشرك ، لأنه قال : " حنيفا وما أنا من المشركين " ولو كان هناك خيار ثالث لذكره ، لأن المقام مقام إثبات ونفي ، فيقتضي الحصر ، فعلى الإنسان أن يفتش عن نفسه ، ويجدد إيمانه بالله سبحانه وتعالى .
الفائدة السادسة والثلاثون :
الملاحظ أن الصيغة في أول الحديث صيغة إفراد ، ثم قال: " وما أنا من المشركين " وهي صيغة جمع ، ولعل ذلك – والله أعلم – ليبين أن المؤمن لا يغتر بكثرة الهالكين ، فكأن لسان حال المؤمن الموحد : أني وجهت وجهي موحدا لك ، ولست من أولئك الذين أشركوا بك ، فلم أغتر بهم وبعددهم لأنهم على ضلالة .
الفائدة السابعة والثلاثون :
في قوله : " صلاتي ونسكي " ذكر أهم عبادتين وهما : الصلاة والذبح لأنهما يتضمنان كثيرا من العبادات الأخرى ، فالصلاة تتضمن الذكر وقراءة القرآن والدعاء والخشوع والإخلاص وغيرها ، والذبح يتضمن التسليم والانقياد والتعظيم والبذل المادي وغيرها ، وكثيرا ما تقترن الصلاة بالذبح كما في قوله : " فصل لربك وانحر " .
الفائدة الثامنة والثلاثون :
قوله : " ومحياي ومماتي " يشمل ما يلي :
أ ـ حال الحياة وحال الموت ، والمعنى على هذا : أن حياتي كلها ، وموتي لله رب العالمين ، أحيا على التوحيد وأموت عليه،وهو هنا يشمل الحياة على التوحيد والثبات عليه .
ب ـ حال الحياة وما بعد الموت ، والمعنى على هذا : أن حياتي كلها لله أطيعه فيها ، وأعمل الصالحات ، و ما بعد الموت أيضا لله من الحشر والصراط وغيره ، إلا أن ما بعد الموت على هذا التفسير لا يستقيم مع قوله " لله رب العالمين " فإن الآخرة در جزاء .
ج ـ أن حال الحياة وحال الموت بيد الله ، الله متصرف فيها كما يشاء ، وهذا وإن كان صحيحا من حيث المعنى إلا أنه ناقص المعنى فإن الله متصرف بكل شيء بقوته وقهره سبحانه وتعالى .
ولا شك بأن المعنى الصحيح من هذا الأمور هو أكملها وأوسعها وهو الاحتمال الأول ، لأنه يشمل حال الحياة وحال الممات ، فكان لسان حال المؤمن :
أن حياتي كلها بجميع أعمالها أصرفها لله وحده ، فأعبده فيها موحدا له لا أشرك معه غيره ، وأستمر على هذا التوحيد إلى حال مماتي فاثبت عليه أيضا موحدا بالله غير مشرك .
الفائدة التاسعة والثلاثون :
دل قوله : " وبذلك أمرت " أن المؤمن يستسلم لأمر الله ، وأنه لا خيار له في عبادته لربه ، وإنما هو طاعة لأمره ، وتنفيذا لحكمه سبحانه ، فإن قصر في ذلك فقد قصر في واجب من الواجبات التي شرعها الله له .
الفائدة الأربعون :
في قوله : " وأنا من المسلمين " روايتان :
" وأنا من المسلمين " و " وأنا أول المسلمين " وكل واحدة لها معنى :
فرواية مسلم : " وأنا من المسلمين " أي أصرف صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله وحده لا شريك له ، وأنا بذلك من المسلمين المأمورين بذلك .
والرواية الأخرى : " وأنا أول المسلمين " أي : أنا أمرت بأن أصرف صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ، وسأكون أول المسلمين الممتثلين بذلك ، وعلى هذا فيها دلالة على المسارعة في فعل الخيرات ، وامتثال الأوامر .
الفائدة الحادية والأربعون :
المستفتح بهذا الدعاء تلكم عن نفسه أولا بما مضى بيانه " وجهت وجهي ..." ثم توجه بخطابه إلى ربه بأنه الملك " اللهم أنت الملك ... "
وهذا أحسن ما يكون من ترتيب الخطاب أن يبدأ الفقير ببيان حاله وأنه قاصد الملك لا يقصد غيره أبدا ، ثم يثني على الملك بما هو أهله ، فإن ذلك يقع من الملك الموقع الحسن ، ولهذا بعد أن بيّن المصلي حاله وأنه توجه لربه لا شريك له ، وأنه لم يتجه لغيره ، بدأ بالثناء المباشر على ربه بأنه الملك لا إله غيره ، فقال : " اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت " .
الفائدة الثانية والأربعون :
اسم الله الملك يناسب مقام الاستفتاح دون غيره من الأسماء الحسنى لأن المقام مقام مناجاة ومخاطبة وتذلل ، واسم الملك أليق بذلك ، ولهذا بدأ به المصلي في قوله في هذا الدعاء " اللهم أنت الملك " .
الفائدة الثالثة والأربعون :
هذا الدعاء كله ثناء على الله ومن ذلك :
" الذي فطر السموات والأرض " و " لله رب العالمين " و " اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت " و " أنت ربي " و " إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " و " لا يهدي لأحسنها إلا أنت " و " لا يصرف عني سيئها إلا أنت " و " والخير كله في يديك ، والشر ليس إليك " و " لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، تباركت ربنا وتعاليت " .
ومقام الاستفتاح يناسب أن يكثر المصلي من الثناء على الله فإن الثناء بوابة الملوك ، والله ملك الملوك ، ولا يليق المدح إلا له سبحانه وتعالى .
الفائدة الرابعة والأربعون :
هذا الدعاء يُظهر فقر العبد لربه ، ومن ذلك :
" وبذلك أمرت " و " وأنا عبدك ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي " و " أنا بك وإليك " .
ومقام الاستفتاح يناسب أن يظهر العبد فقره لربه وذله له ، فإنه أرجى لرحمة ربه.
الفائدة الخامسة والأربعون :
في قوله : " أنت ربي وأنا عبدك " تمام منزلة العبودية لله ، والمسكنة له ، فإن المصلي يعترف بربوبية الله التي تعنى أنه قائم بشئون عبده وحاجاته كما هي دلالة معنى " رب " في اللغة ، وبالمقابل العبد يعترف بأنه عبد لهذا الرب ، ومن صفات العبد أنه لا يملك شيئا ، ولا يتصرف بشيء إلا فيما يرضي سيده ، فأي فقر يظهره العبد لربه أشد من قوله " أنت ربي وأنا عبدك " .
الفائدة السادسة والأربعون :
كما أن قوله : " أنت ربي " يشعر بالتودد لله ، ويتضمن معنى طلب الرحمة ، فإن الرب يرحم مربوبه ، والمصلي بحاجة لرحمة الله وهو قائم يناجي ربه .
الفائدة السابعة والأربعون :
في قوله : " ظلمت نفسي " دليل على أن ما يرتكبه العبد من خطأ وذنب هو ظلم لنفسه في المقام الأول .
الفائدة الثامنة والأربعون :
كما يشعر أيضا قوله : " ظلمت نفسي " بأن العبد هو المتضرر الوحيد في حال ارتكابه الذنب ، وأن ضرر ذنبه سيعود على نفسه ، فكأن لسان حال العبد : يا رب ما فعلته من ذنوب لا يعود ضرره عليك لكمالك ، وإنما أنا المتضرر به ، وقد اعترفت بظلمي لنفسي .
الفائدة التاسعة والأربعون :
يدل قوله : " ظلمت نفسي واعترفت بذنبي " أن العدل مع النفس هو بإقامتها على شرع الله وقهرها عليه .
الفائدة الخمسون :
في ترتيب قوله : " ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعا " ترتيب بديع حيث قسم الأمور إلى ثلاثة أشياء :
أولا : منزلة الاعتراف بالذنب ، وهي قوله : " واعترفت بذنبي " .
ثانيا : منزلة الطلب ، وهي قوله : " فاغفر لي ذنوبي جميعا " .
ثالثا : منزلة النتيجة ، وهي قوله : " ظلمت نفسي " .
فكان الأصل أن يقدم قوله : " اعترفت بذنبي " لكنه بدأ بالنتيجة " ظلمت نفسي " إظهار لتمام الافتقار لله ، فكأنه قال : لم أستفد شيئا ، فقد أذنب ، وها أنا اليوم أطلب منك المغفرة ، وهذا بهذا المقام أليق ، فسبحان اللطيف الحكيم .
الفائدة الحادية والخمسون :[/b]
في قوله : " واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعا " تحقيق لما جاء في الحديث الآخر القدسي :" علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ، قد غفرت لعبدي فليعمل ما يشاء " .
ولعمر الله إن الإنسان ليعمل الذنب وهو عالم به ، معترف بخطيئته ، نادم على مخالفة ربه ، لهو أهون عند الله ممن يعمل الذنب متحايلا على شرع الله كما يحدث اليوم في بعض المعاملات المالية ، وقضايا الأنكحة ، والله المستعان .
الفائدة الثانية والخمسون :
من تأمل الحديث وجد جميع رواياته - التي وقفت عليها – بلفظ " واعترفت بذنبي " ثم لما طلب المغفرة قال : " واغفر لي ذنوبي " فنلاحظ أنه غاير بين اللفظين ، فأفرد أولاً ثم جمع ثانيا ، فما السر في ذلك ؟
لعل من الأسرار – والله أعلم وأحكم – أن المصلي المستفتح بهذا الدعاء يتكلم عن نفسه أولا مبينا توحيده وتوجهه للذي فطر السموات والأرض ، ثم أثنى على ربه بما هو أهله ، ثم تحدث عن نفسه وأنه عبد لله ، وقد ظلم نفسه وجاء معترفا بذنبه ، فهو يبين حاله ، وأنه كالعبد الآبق الهارب من سيده الذي جاء عائدا لسيده معترفا بخطئه ، فناسب ذلك أن يقول : " واعترفت بذنبي " .
فلما انتقلت المناجاة إلى طلب بين يدي ربه ناسب أن يطلب من ربه مغفرة خطاياه جميعا ، فإن مقام الطلب يناسبه الجمع .
الفائدة الثالثة والخمسون :
في قوله : " إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " مع قوله : " فاغفر لي ذنوبي جميعا " تناسب واضح في الدعاء ونهايته ، وهذا يرجع إلى فقه العبد بدعائه ، وتفكره وتدبره له .
الفائدة الرابعة والخمسون :
قوله : " إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " أليق بهذا المقام من قول : إنك أنت الغفار ، وذلك لأن مقام المصلي في استفتاحه مقام العائد إلى ربه ، والعائد يناسبه أن يعترف بأنه لم يجد غير ربه ، فناسب أن يبدأ بالنفي " إنه لا يغفر " .
ولذلك جميع ألفاظ الحديث بدأت بالنفي : " لا يغفر الذنوب إلا أنت " و " لا يهدي لأحسنها إلا أنت " و " لا يصرف عني سيئها إلا أنت " و " لا منجا ولا ملجأ " .
الفائدة الخامسة والخمسون :
قوله : " واهدني لأحسن الأخلاق " يدل على أن الأخلاق فيها حسن وأحسن ، وأنها مقامات ، والمؤمن الموفق من هداه الله لأعلى مقاماتها ، وهذا يجعل الإنسان يتجاوز التفكير بالانتصار للنفس من الغير عدلا من دون ظلم إلى خُلُقٍ أحسن من ذلك وهو العفو والصفح ، وحياة النبي > فيها الدلالة على التعامل بأحسن الأخلاق ، فمنه تستقى مادة أحسن الأخلاق .
الفائدة السادسة والخمسون :
في سؤال المصلي - المستفتح بهذا الدعاء - حسنُ الأخلاق لطيفة على التأكيد على موضوع الأخلاق ، وأن أهميتها وصلت إلى أن المصلي يسألها ربه قبل صلاته .
وهذا يرد على الذين ينظرون على الأخلاق وأنها من محاسن الأمور ، ومن نوافل الإيمان دون فرائضه، فقد رفع هذا الحديث قدر الأخلاق حتى جعلها مما يستفتح بها المصلي صلاته ، وأنها من الواجبات شرعا ، فإن الدين كله يقوم على الأخلاق .
الفائدة السابعة والخمسون :
أظهر الحديث أن العبد لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، وأن الأمر بيد الله ، فالله هو الهادي لأحسن الأخلاق ، وهو الصارف لسيئها ، وهو غافر الذنب ، وهذا شعور يجب أن يخالط العبد الداعي لربه لأن العبودية تقوم على ذلك .
الفائدة الثامنة والخمسون :
قول المصلي في دعاء الاستفتاح : " واهدني لأحسن الأخلاق " دليل على ارتباط الصلاة بحسن الخلق ، فمن حسنت صلاته ، وقام بحقوقها وأركانها وواجباتها ، وخشع فيها ، كان له نصيب وافر من حسن الأخلاق ، كما أن الصلاة الكاملة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والتي هي في مقابل حسن الأخلاق ، فكذلك تأمر بحسن الأخلاق .
ويمكن لنا أن نستنبط أن من وسائل حسن الأخلاق المحافظة على الصلاة بسننها ، بما في ذلك دعاء الاستفتاح هذا .
الفائدة التاسعة والخمسون :
الملاحظ أن لفظ دعاء الاستفتاح :" واهدني لأحسن الأخلاق " ولم يقل بعد ذلك : واصرف عني أسوأ الأخلاق ، تماثلا في اللفظ بين " أحسن " و " أسوأ " ، وإنما قال : " واصرف عني سيئها " لأن المؤمن لا يريد أدنى المرتبتين في السوء ، بينما يسعى لأكمل المرتبتين في الكمال ، فكأن لسان حال المؤمن : اهدني لأكمل الأخلاق الحسنة ، واصرف عني أي خلق سيء ، ففي الأخلاق الحسنة يسعى لأكملها وأعلاها وأفضلها ، وفي الأخلاق السيئة يسعى لإزالتها كلها لا يفرق بين السيئ والأسوأ .
الفائدة الستون :
في قوله : " واهدني لأحسن الأخلاق " تربية للمؤمن على الهمة العالية ، والسعي في تكميل نفسه ، ولا يرضى بالمرتبة الدنيا مع وجود غيرها أعلى منها .
وكم أصبح الحصول على أدنى مراتب العلم الشرعي ، وبذل أقل جهد دعوي ، عذرا في عدم المواصلة ، ولا يزول ذلك إلا بهمة عالية تجعل المؤمن يسعى للكمال دائما .
الفائدة الحادية والستون :
في الحديث تربية للمسلم على الاستعاذة بالله من الأخلاق السئية .
الفائدة الثانية والستون :
لم يكتف الحديث بسؤال الله حسن الأخلاق ، وإنما أضاف لها سؤال الله أن يصرف عنه سيئها ، مع أن المتبادر للذهن أنه إذا رزق أحسن الأخلاق فقد صُرف عنه سيئها ، لكن هذا يدل على أن الأخلاق مراتب ، وهي حسب تقسيم الحديث :
1ـ أحسن الأخلاق ، وهي أعلى المراتب .
2ـ سيء الأخلاق ، وهي أسوأ المراتب .
3ـ يكون فيه حسن أخلاق من جهة وسوء أخلاق من جهة أخرى .
ولهذا لم يكتف بسؤال الله حسن الأخلاق حتى أضاف لها السلامة من سيء الأخلاق ليصل بذلك إلى أعلى المراتب ، وهي التي تجمع بين حسن الأخلاق مع السلامة من سيئها ، وهو هديه > .
الفائدة الثالثة والستون :
قوله : " لبيك " قيل في معناها أربعة أمور :
" أحدها : إجابتي لك يا رب ، وإقامتي معك مأخوذ من : ألب بالمكان وألب به : إذا أقام به ، ومعنى التثنية فيه ، أي : إجابة بعد إجابة ، وإقامة بعد إقامة ، كما يقال : حنانيك ، أي : رحمة بعد رحمة .
والثاني معناه : اتجاهي إليك وقصدي ، من قولهم : داري تلب دارك ، أي تواجههما ، والتثنية للتأكيد .
والثالث : محبتي لك من قول العرب : امرأة لبة : إذا ما كانت محبة لولدها .
والرابع : إخلاصي لك "( ) .
والخامس : أنه انقياد ، من قولهم لببت الرجل إذا قبضت على تلابيبه ، ومنه لببته بردائه والمعنى انقدت لك .
السادس : أنه من قولهم داري تلب دارك أي تواجهها وتقابلها ، والمعنى مواجهتك بما تحب متوجه إليك
السابع : من قولهم فلان رخي اللبب ، وفي لبٍ رخي أي : في حال واسعة منشرح الصدر ، والمعنى : أني منشرح الصدر متسع القلب لقبول دعوتك
الثامن : من الإلباب ، وهو الاقتراب أي : اقترابا إليك بعد اقتراب ، كما يتقرب المحب من محبوبه( ) .
والمستفتح للصلاة المناجي ربه تشمله هذه المعاني كلها ؛ لأنه لا تناقض بينها فالمؤمن مقيم على إجابة ربه كلما دعاه ، منقاد له ، وقصده واتجاهه لربه سبحانه لا لغيره حسا ومعنى ، ومحبته الكاملة لله أيضا فهو المحبوب لذاته ، وإخلاصه عبادته لربه لا يخالطه شرك ولا رياء ، وهو بذلك منشرح الصدر ، ومن استفتح صلاته بهذا الشعور فحري أن يستجاب له .
الفائدة الرابعة والستون :
قوله : " وسعديك " أي مساعدة في طاعتك ، فهي تتضمن طلب المساعدة من الله على طاعته ، كما تتضمن السعد والسرور بذلك .
الفائدة الخامسة والستون :
الجمع بين " لبيك وسعديك " يدل على :
أن المؤمن يستجيب لدعاء ربه ، ومع ذلك يطلب منه العون على عبادته ، فرجع أمر المؤمن كله لله بداية ونهاية .
فالاستجابة لدعاء الله هو " لبيك " وطلب العون منه هو " سعديك " .
الفائدة السادسة والستون :
دل قوله : " وسعديك " على أن المؤمن يعبد ربه بانشراح صدر مسرورا بذلك ، ولا يكون ذلك إلا بتحقيق ركني العبادة : الذل والمحبة .
وهما لا يجتمعان إلا لله ، فالله هو المعبود لذاته ، المطاع محبة له ، وهذا كله من قول المستفتح بهذا الدعاء " وسعديك " فهي كلمة تدل على السعد والانشراح والفرح بطاعة الله
الفائدة السابعة والستون :
في قوله : " لبيك " في استفتاح الصلاة مناسبة ؛ لأن الله نادى المؤمن لحضور الصلاة عن طريق المؤذن ، والمؤمن يقول : " لبيك " فهي إجابة لنداء حقيقي .
الفائدة الثامنة والستون :
الملاحظ أن قوله : " لبيك وسعديك " لم تأت في أول دعاء الاستفتاح مع أن النظر يقتضي أن يكون موقعها أول الكلام ، وذلك لأن اللائق بحال العبد الذي يريد مناجاة الله أن يبدأ الكلام بالثناء على الله ، وبيان ضعفه وخطئه وذنبه .
وحاله في ذلك حال العبد المتمرد على سيده ، وسيده يدعوه ، فالأولى بحال هذا العبد إذا رجع لسيده أن يبدأ بالثناء على سيده والاعتراف بخطئه ثم يذكر أنه إنما رجع إجابة لنداء سيده ، وهذا أليق من كونه يبدأ خطابه بإجابة نداء سيده ، لأن الذنوب تدل على عدم تمام صدق العبد في تلك الإجابة .
الفائدة التاسعة والستون :
في قوله : " والخير كله في يديك " تفاؤلا من المؤمن بما عند الله ، وأن ما عند الله كله خير للعبد ، وتفاؤلا بقبول صلاته .
الفائدة السبعون :
قوله : " والخير كله في يديك " مناسب جدا لما قبله ، وهو قوله : " لبيك وسعديك " فكأن لسان حال المؤمن المستفتح بهذا الدعاء يقول : استجيب لك يا رب ، فساعدني على طاعتك ، فإن الخير كله في يديك ، ولا يأتي منك إلا الخير
فائدة الحادية والسبعون :
في قوله : " والخير كله في يديك " أبلغ من قول : والخير في يديك كله ؛ لأن المقام مقام ثناء على الله ، وصيغة الحديث أبلغ في تحقيق الثناء على الله بتقديم " كل " لئلا يحول بين المؤكَد والمؤكِد شيء .
الفائدة الثانية والسبعون :
في قوله : " والشر ليس إليك " لم يقل : كله ، كما قال في الخير " والخير كله في يديك " وذلك لأن الله لا ينسب له شر محض البتة ، مهما دق كما هو منهج أهل السنة والجماعة .
الفائدة الثالثة والسبعون :
قوله : " والشر ليس إليك " يبين منهج أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر وأن الله لا ينسب له شر البتة ، وهذا يعود أثره على إيمان الإنسان وثقته بربه .
فالمؤمن يعيش حياته واثقا بربه أنه لن يقدر عليه شر محض ، وكل أمر كان ظاهره شرا فإن عقيدة المؤمن تجعله ينظر له بأن في باطنه من الخير ما لا يعلمه إلا مقدره سبحانه فإن الخير كله في يديه ، والشر ليس إليه .
الفائدة الرابعة والسبعون :
قوله : " والشر ليس إليك " فيها أدب مع الله حتى في الألفاظ ، فلم يقل : والشر ليس في يديك ، كما قال في الخير " والخير كله في يديك " وذلك لأن ظاهر قول : ليس في يديك يدل على أنه خارج عن ملك الله ، والله سبحانه لا يخرج عن ملكه شيء ، فكان الأولى أن يقال :
ليس إليك ، وهي أبلغ في أداء المقصود ، وهذا يجعل المؤمن يتحرى حتى في ألفاظه أنسب العبارات والجمل .
الفائدة الخامسة والسبعون :
قال في نفي الشر عن الله : " والشر ليس إليك " والقياس أن يقول : والشر ليس منك ، وقد عدل عن ذلك لأنها أكثر أدبا في حق الله ، ولأن المؤمن ينفي نسبة الشر لربه ، وهي نتيجة لأن الله لا يخلق شرا محضا ، فذكر النتيجة ونفاها ، وهذا أبلغ ، فإن نفي النتيجة نفي لمقدماتها .
الفائدة السادسة والسبعون :
قوله : " أنا بك وإليك " شملت حياة الإنسان وموته ، وبيان ذلك :
أن قوله : " أنا بك " يشمل حال الحياة ، فالإنسان في حال حياته مرتبط بربه ، ولولا ربه لم يحيا ولا يستطيع فعل أي شيء .
وقوله : " وإليك " يشمل حال الموت ، فمرجع الإنسان إلى ربه ، وعودته إليه .
فالمصلي المستفتح بهذا الدعاء أرجع أمر حياته وموته لربه سبحانه ، وهذا من عظيم منازل العبودية لله ، وهذا المعنى أوسع المعاني التي قيلت في هذه اللفظة .
الفائدة السابعة والسبعون :
قوله : " أنا بك " تدل على ضعف الإنسان وأنه لا يستطيع شيئا ، ولا يملك شيئا ، وإنما قوامه بالله ، فربط أمره بربه " أنا بك " .
الفائدة الثامنة والسبعون :
قوله : " أنا بك وإليك " يحتمل أيضا أن المراد حالات المؤمن مع الطاعة والمعصية ، وبيان ذلك :
أنه في حال الطاعة لله ما كان ذلك إلا بالله وإعانته ، وهو المراد بقوله :" أنا بك".
وفي حال المعصية المرجع والمآب لله وحده ، وهو المراد بقوله : " وإليك " ، والإنسان لا يخلو من حالة طاعة أو المعصية .
فكأن لسان حال المؤمن أن يقول : يا رب في حال طاعتي لك فإن هذا لم يكن إلا بإعانتك لي ، وفي حال معصيتي لك فليس لي أحد أرجع إليه إلا أنت .
الفائدة التاسعة والسبعون :
في بعض الروايات : " لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك " وهو تفسير لقوله في هذه الرواية : " أنا بك وإليك " ، ولقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وبيان معناها في الفقرة القادمة.
الفائدة الثمانون :
قوله : " لا منجا ولا ملجأ إلا إليك " معناها لا مفر منك إلا بالرجوع إليك ، فأين المهرب وأنت تملك كل شيء ، ولا منجي من قدرك إلا إلى قدرك ، ولا من عذابك إلا إلى طاعتك .
الفائدة الحادية والثمانون :
قوله : " لا منجا ولا ملجأ " ليشمل الهروب والاختفاء ، والإنسان لا يخلو من هاتين الحالتين ، فرجع الأمر كله لله .
الفائدة الثانية والثمانون :
قوله : " لا منجا ولا ملجأ إلا إليك " إغلاق لجميع الطرق إلا طريق واحد ، وهو طريق الرجوع إلى الله ، فمن خلاله يدخل العاصي والطائع ، فالعاصي لا طريق للسلامة من عذاب الله إلا بالرجوع إلا الله والتوبة ، والطائع لا طريق لقبول طاعته إلا بالالتجاء إلى الله وسؤاله ، فرجع الخلق كلهم لله .
الفائدة الثالثة والثمانون :
قال في الدعاء : " لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك " ولم يقل " إلا بك " وذلك ليتضمن معنى الرجوع إلى الله ، أما الاستعانة بالله فقد مضى الاشارة إليها بقوله " أنا بك " فاقتضى السياق أن يكون هنا لفظ يشعر بالرجوع فجاءت صيغة " إليك " .
الفائدة الرابعة والثمانون :
قوله : " تباركت ربنا " جاءت في آخر الدعاء ، وهذا المكان أليق بها من غيره لأن التبارك كثرة الخير فناسب أن يختم بها صفات الثناء على الله لأن غيرها يدخل فيها ، ومخاطبة الملوك تقتضي هذا ، فإن المخلوق يثني عليهم ويمدحهم فإذا أراد أن يختم جاء بصفة مدح عامة ليدخل ما لم يذكره من الصفات فيها ، والله ملك الملوك سبحانه وأحق بذلك .
الفائدة الخامسة والثمانون :
قوله : " تباركت وتعاليت " يكثر الاقتران بين هاتين الكلمتين " تبارك " و " تعالى " والمناسبة بينهما ظاهرة لأن التبارك تعني السعة والعظمة والرفعة ، فناسب أن يأتي بلفظ يناسب الرفعة وهو " تعاليت " .
فصاحب الخير الكثير في مكان عالٍ في قلوب الناس ، والله سبحانه وتعالى لا خير أكثر من خيره ، ولهذا تعالى حسا ومعنى ، فهو عالٍ على خلقه مستو على عرشه ، وعالٍ في قلوب عباده المؤمنين .
الفائدة السادسة والثمانون :
قوله : " أستغفرك وأتوب إليك " ناسب أن يختم بها ، حيث سبقها عبارات ثناء على الله فناسب أن يختم بطلب قبل صلاته ، فطلب المغفرة والتوبة وهي أعلى أماني المؤمن .
الفائدة السابعة والثمانون :
قوله : " أستغفرك وأتوب إليك " قرن بين الاستغفار والتوبة لينصرف الاستغفار إلى الذنوب التي فعلها ، وتنصرف التوبة إلى ما بعد حال الذنب ، فالعبد يسأل ربه أن يتوب عليه ويقبل رجوعه بعدما تلطخ بالذنب .
الفائدة الثامنة والثمانون :
قدم الاستغفار على طلب التوبة لأن محو الذنب مقدم على ما بعده ، فالعبد في بداية الأمر يسعى لئن يغفر الله له ذنبه ، ثم يأتي بطلب آخر ، فجاء ذلك على هذه الهيئة .
الفائدة التاسعة والثمانون :
كرر الاستغفار في هذا الدعاء في وسطه وآخره ليعطينا بذلك تصورا عن خطورة الذنوب ، وأنها تكون حاجبا بين العبد وربه في صلاته ، فلا تؤتي صلاته ثمرتها
الفائدة التسعون :
في رواية لهذا الحديث : " واهدني لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت " وهو دليل على أن الأخلاق تؤثر في الأعمال ولهذا قرن بينهما ، فإن المهدي في أخلاقه مهدي في أعماله ، فإن الأخلاق تشمل الأقوال والأفعال ، فإذا حسنت أخلاقه حسنت أعماله ولا بد .
الفائدة الحادية والتسعون :
وبالمقابل أيضا " واصرف عني سيء الأخلاق والأعمال لا يصرف عني سيئها إلا أنت " وهو أيضا دليل على تأثير الأخلاق السيئة على أعمال العبد ، فمن ساءت أخلاقه ساءت أعماله ولا بد .
يتبع . . .
=======================