شعر عبدالرحمن العشماوي عن ثورة تونس
نقش شعري على واجهة الإباء في تونس الخضراء
الصَّحارى قاحلَه
وصفيرُ الرِّيحِ يغتال طموح القافلَهْ
وهجومُ اللَّيلِ يُخفي صورةً كانت أمامي ماثلهْ
وأنا أزدادُ خوفاً حينما أقرأ سِرَّ الخوْفِ..
في تلك العيونِ الذَّاهلهْ
وصدى صوتٍ ينادي:
(فاصلهْ)
ما الذي يجري هنا؟!
كيف استشاط الرُّملُ غيظاً..
وجرتْ هذي الخطوبُ الهائلهْ؟!
كيف ألقى السَّفْيُ دوني حاجبَ الرُّؤْيةِ..
واستنفر كُثْبان الرِّمال الغافلَهْ؟!
كيف؟
واستوقفني الصوتُ ينادي:
(فاصلَهْ)
صوتُ مَنْ هذا؟!
سؤالٌ ألْجَمَتْه الرِّيحُ بالصمتِ
وصدَّتْ سائلَهْ
ساعةٌ واحدةٌ، أصبح فيها الحالُ غيرَ الحالِ..
في هذا المكانْ
كلُّ شيءٍ صار شيئاً غيرَ ما كانَ، وكانْ
كُلُّ ما كانَ هنا في ظُلمَةِ الإخفاء ، بَانْ
كلُّ (زَيْنٍ) ها هنا شانَ..
وبَعْضُ الشَّيْنِ زانْ
كلُّ ما كان هنا متَّزناً أصبح لا يعرف معنى الإتزانْ
ها هنا صار جباناً كلُّ من كانَ شجاعاً..
وشجاعاً ها هنا صار الجَبَانْ
تُونسُ الخضراء ما زالتْ هنا..
تبحث عن خُبْزٍ وماءٍ وأمانْ
وصدى الصوتِ ينادي!
(فاصلَهْ)
فاصلَهْ؟؟
وأنا أُبْصِرُ أَهدابَ العيونِ الدَّامعَهْ
وأرى قارعةً تتلو خُطاها قارعَهْ
حاجبُ الرُّؤْيةِ لم يحجبْ عن العينِ خيوطَ الفاجَعَهْ
وصفيرُ الرِّيح ما زال هنا..
يُوقِظُ آلاف العيونِ الهاجعَهْ
ها هنا اللَّيْلُ بهيمٌ..
غيرَ أنَّ الشمسَ في أُفْقِ يقيني ساطعَهْ
وصدى الصوت ينادي:
(فاصلهْ)
إنها حادثةٌ كُبرى تُسَمَّى نازلَهْ
هَا هُنا زَمْجَرَ مقتولٌ وأرْدى قاتِلَهْ
إنَّها دوَّامةٌ عَجْلَى، وأحداثٌ كِبَارٌ عاجِلَهْ
خَالَطَ الحابلُ فيها نابِلَهْ
هذهِ الظَّلْماءُ تُخفي هارِباً مستوحِشاً منها..
وتُخفي العائلهْ
وعلى مقربةٍ منْ صرحِهِ المبنيِّ بالوهمِ ..
جموعٌ صائلهْ
ليلةٌ ليلاءُ و الهاربُ لا يعرفُ معنى الفَرضِ ..
أو يفهم معنى النَّافلهْ
كانَ عملاقاً ، وما كانَ ..
ولكِنْ عَمْلَقَتْهُ الكِذبة الكبرى …
وأقوالُ النِّفاقِ الباطِلهْ
فلماذا أيٌّها الصوت تنادي :
( فاصلهْ )
يا لَها من ليلةٍ لم تعرِف الفَجْرَ المنيرا
حينَما ارتدَّ إليها بَصَرُ الهارِبِ مكسوراً حسيرا
كانَ مخدوعاً وخدَّاعاً كبيرا
ربَّما كانَ كفرعونَ عُلُوَّاً ..
لمْ يجدْ إلاَّ كهامانَ وزيرا
كُلُّ ما في الأمرِ أنَّ الهارِبَ الليلةَ ..
" قد كانَ خطيرا "
كانَ لا يرضيهِ إلاَّ أن يرى الشَّعْبَ أسيرا
ويرى قلبَ الَّذي يؤمنُ باللهِ كَسيرَا
ساعةٌ واحِدةٌ أصبح فيها ذلكَ العِمْلاقُ قزماً
وبدا في أعيُنِ الناسِ حقيرا
هكذا يأتي جزاءُ الظُّلْمِ ذُلّاً وسعيرا
أيها الصوت المنادي:
(فاصلَهْ)
هذه تُونُسُ عنر (النَّاصيَهْ)
قَدَمٌ تَنْتَعِلُ الإصرارَ والعَزْمَ..
وأُخرى حافيَهْ
مقلةٌ تَسْتشْرفُ المستقبلَ الزَّاهي..
وأخرى لم تزلْ تُيصِرُ وجهَ الطَّاغيهْ
يَدُها اليُمْنى إلى الأغصانِ تَمْتَدُّ..
ويُسْراها تَصُدُّ اللَّيْلَ عنها والخطوبَ القاسيَهْ
هذه تُونُسُ لا تَخْشى من الشَّوْكِ
ولا توقفها تلك الصخور العاتيَهْ
(فاصلَهْ)
ها هنا استمتع موجُ البحر بالبحرِ وأدْنَى ساحِلَهْ
واختفتْ تلك الصحاري القاحِلَهْ
واستعادَ الليلُ أضواءَ النجومِ الآفِلَهْ
ورأى المسجدُ آلافَ المصلِّينَ..
وأهدابَ الخشوعِ الهامِلَهْ
ها هنا هَبَّ نسيمٌ أَنْعشَ الرَّوْضَ..
وأحْيَا الزَّهراتِ الذَّابِلَهْ
ها هنا طَابَ لسمعي ذلك الصوتُ الذي كان ينادي:
(فاصلَهْ)
إيهِ يا تُونُسُ يا مَأْوَى الخيولِ الصاهِلَهْ
إنَّها فاصلةٌ ما بين عَهْدينِ..
فَنِعْمَ (الفاصِلَهْ)