السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته
=========================
الدنيا لا تذم ولا تمدح لذاتها
=======================الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان
قال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} [الفجر: 23 32 - 24]، سيطلب الرجوع إلى الدنيا ليستدرك ما فاته فلا يمكن وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } [المؤمنون: 99 - 100]، أي أنه قائل: { رَبِّ ارْجِعُونِ }، لا محالة وليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا.
فتصوروا هذا الموقف الحرج واستعدوا له قبل أن تواجهوه، واستغلوا حياتكم الدنيا فيما خلقت له، ولا تضيعوها بالغفلات والتفريط بالطاعات، واتباع الشهوات؛ فإن الممات قريب والحساب شديد، والجزاء واقع لا محالة: { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)} [الشعراء: 227].
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله -: والله سبحانه مع كونه خالق كل شيء؛ فهو موصوف بالرضا والغضب، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والرحمة والانتقام.
فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق داراً لطالبي رضاه، العاملين بطاعته، المؤثرين لأمره، القائمين بمحابه وهي الجنة، وجعل فيها كل شيء مرضي، وملأها من كل محبوب ومرغوب ومشتهى لذيذ، وجعل الخير بحذافيره فيها، وجعلها محل كل طيب من الذوات والصفات والأقوال، وخلق داراً أخرى لطالبي أسباب غضبه وسخطه المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، العاملين بأنواع مخالفته القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله، وهي جهنم وأودعها كل شيء مكروه وسجنها مليء من كل شيء مؤذ ومؤلم، وجعل الشر بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال. فهاتان الداران هما: دار القرار، وخلق دار ثالثة هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزوّد المسافرون إليهما وهي دار الدنيا، ثم أخرج إليها من آثار الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما وما يستدل به عليهما حتى كأنهما رأي عين، ليصير الإيمان بالدارين وإن كان غيباً وجه شهادة تستأنس به النفوس وتستدل به، فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة والصور الجميلة وسائر ملاذ النفوس ومشتهاها ما هو نفحة من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال، فإذا رآه المؤمنون ذكرهم بما هناك من الخير والسرور والعيش الرخي
فشمروا إليه وقالوا: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، وأحدثت لهم رؤيته عزماً وهمماً وجداً وتشميراً؛ لأن النعيم يذكِّر بالنعيم، والشيء يذكر بجنسه، فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال: موعدك الجنة، وإنما هي عشية أو ضحاها، فوجود تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمة من الله يسوق بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها وزاد لهم من هذه الدار إليها، فهي زاد وعبرة ودليل وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك الدار؛ فالمؤمن من يهتز برؤيته إلى ما أمامه، ويثير ساكن عزماته إلى تلك، فنفسه ذواقة، إذا ذاقت شيئاً منها تاقت إلى ما هو أكمل منه حتى تتوق إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم، وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضاً من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يستدل بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النفسين الشتاء والصيف اللذين أذن الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تنفس بهما فاقتضى ذانك النفسان آثاراً ظهرت في هذه الدار كانت دليلا وعبرة عليها، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى ونبه عليه بقوله في نار الدنيا: { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } [الواقعة: 73].
تذكرة يذكر بها الآخرة، ومنفعة للنازلين بالقوى، وهم المسافرون، يقال: أقوى الرجل إذا نزل بالقي، وهي الأرض الخالية وخص المقوين بالذكر، وإن كانت منفعتها عامة للمقيمين والمسافرين تنبيها لعباده، والله أعلم بمراده من كلامه، على أنهم كلهم مسافرون، وأنهم في هذه الدار على جناح سفر، ليسوا مقيمين ولا مستوطنين، إلى أن قال ابن القيم رحمه الله: (ولما كانت هذه الدار ممزوجاً خيرها بشرها وأذاها براحتها ونعيمها بعذابها اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن خلص خيرها من شرها وخصَّه بدار أخرى هي دار الخيرات المحضة، ودار الشرور المحضة، فكتب على هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط وأعقبه بالتمييز والتخليص، فميز بينهما بدارين ومحلين وجعل لكل دار ما يناسبها وأسكن فيها من يناسبها، وخلق المؤمنين المخلصين لرحمته وأعدائه الكافرين لنقمته) انتهى.
الدنيا مزرعة للآخرة، من زرعها بالطاعة حصد الكرامة يوم القيامة، ومن زرعها بالمعاصي حصد الخسارة والندامة. السفهاء من الناس، جعلوا الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم فانشغلوا بها عن الآخرة، فخسروا الدنيا والآخرة، والعقلاء من الناس جعلوا الدنيا مطية للآخرة وتزوَّدوا منها بالأعمال الصالحة، فربحوا دنياهم وآخرتهم.
إن الدنيا لا تذم ولا تمدح لذاتها فإنها وقت ثمين ومنافع وإمكانيات مفيدة، وإنما الذي يذم أو يمدح هو تصرف ابن آدم فيها، فمن قصر همه عليها أو تمتع بها فيما حرَّم الله وضيع أوقاتها فذلك هو المذموم، ومن أراد الآخرة واستعان بالدنيا على الوصول إليها واشتغل في التزوّد النافع فذلكم الممدوح.
قال الله تعالى: { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [الإسراء: 18 - 19].
إنكم تسمعون قصص من قبلكم من الأمم والأفراد الذين اشتغلوا بالدنيا ونسوا الآخرة كعاد وثمود وفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب ماذا كانت عقوبتهم في الدنيا، وماذا تكون عاقبتهم في الآخرة؟ وتشاهدون من معاصريكم ممن تشبهوا بهؤلاء؛ فلقوا نفس المصير، قال الله تعالى: { كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)} [التوبة: 69 - 70].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: في معنى هاتين الآيتين: فإن سبحانه قال: { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } [التوبة: 69 - 70]، فتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا بها للدنيا والآخرة، وكذلك أموالهم، وتلك القوة والأموال والأولاد هو الخلاق، والخلاق هو النصيب والحظ وما خلق للإنسان وقدر له فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة لو أرادوا بها الله والدار والآخرة لكان لهم ثواب في الآخرة عليها، فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة بها، فدخل في هذا من لم يعمل إلا لدنياه، وقد توعَّد سبحانه هؤلاء المستمتعين الخائضين بقوله: { أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [التوبة: 69 - 70]، حبوط الأعمال معناه فسادها وبطلانها، فانظروا كيف بطلت أعمالهم في الدنيا والآخرة فلم يبق لهم دنيا ولا دين وخسروا الدنيا والآخرة: { ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [الحج: 11].
==================
منقول
==