سيرة خالد بن الوليد رضي الله عنه
نقضي هذه الدقائق المعدودة مع قائد المجاهدين، وسيف من سيوف رب العالمين، وأستاذ فن الحروب والميادين، الفاتك بالمسلمين يوم أحد، والفاتك بأعداء الإسلام بقية الأيام، إنه فارس الإسلام والمسلمين، وسيف من سيوف رب العالمين، وترياق وساوس الشياطين من الكفار والمنافقين، والبطل القوي العنيد، والفارس القوي الرشيد. إنه: خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه. علم من أعلام الجهاد في سبيل الله، وعالم وحده في فن القيادة وإدارة الحروب، أحب المسلمون سيفه، وخافه أعداء الإسلام، وأقبل قادة الدنيا في كل زمان ومكان إلى عصر نابليون ينهلون من مورد خالد الخالد في فن القيادة، وإدارة الحروب، وقواعد القتال. خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه الذي تحول في عالم الحرب ودنيا الميادين إلى أسطورة، وما زالت الأبحاث والدراسات إلى عصرنا هذا تنهل من مورد قيادة خالد ، وفن إدارته للحروب والقتال، فمن هو خالد ؟ وما الذي نعرفه نحن المسلمين عن خالد ؟ والله لا نعرف عنه إلا القليل، في الوقت الذي نجد فيه كثيراً من المسلمون يعرفون الكثير والكثير عن نابليون، ولينين واستالين، وبسمر وغيرهم وغيرهم من هؤلاء الأقزام. فمن هو خالد بن الوليد أيها الأحباب؟
نشأة خالد بن الوليد رضي الله عنه
نشأ خالد بن الوليد في بيئة غنية ثرية مترفة، فأبوه هو: الوليد بن المغيرة الذي كان أغنى الناس في زمانه، وكان من كبريائه في جوده أنه كان ينهى عن أن توقد نارٌ في منى غير ناره لإطعام الحجيج، الوليد بن المغيرة الذي تحدث الله عنه وعن ثرائه وغناه في سورة المدثر فقال: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً [المدثر:11-16] ذلكم هو الوليد بن المغيرة ، وتلك هي البيئة التي نشأ فيها خالد بن الوليد رضي الله عنه. ومع هذا الغنى، وهذا الثراء نشأ خالد بن الوليد نشأةً خشنة، مروض نفسه على الغلظة، والقساوة، والخشونة، وحياة البداوة، لماذا؟ لأنه نشأ من صغره يحب الفروسية والقتال، وترك خالد هذا الثراء والمال والغنى، إلا أنه ورث الكره الشديد للإسلام من أبيه، فهو قائد الميمنة، وصاحب الحملة الشرسة في غزوة أحد التي شتت شمل المسلمين، وبعثرت صفوفهم، حتى جرح النبي صلى الله عليه وسلم، بل وأشيع في الميدان أن رسول الله قد قتل، بعد المباغتة السريعة لـخالد بن الوليد الذي طوق من خلالها الرماة على الجبل، بعدما خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخالد بن الوليد هو الذي تولى قيادة الخيل في غزوة الخندق ، ووكلت له مع كتيبة من الفرسان يركبون الخيول في هذه المعركة مهمةً عسيرة خطيرة ألا وهي: قتل النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن الله نصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وتصدى خالد بعد ذلك في مائتي فارس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو في طريقه إلى مكة في عام الحديبية ، ولما رآه النبي صلى الله عليه وسلم اضطر أن يصلي بأصحابه يومها صلاة الخوف. ولما اصطلح النبي مع مكة وعاد في عمرة القضاء لم يقبل خالد أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يطوفون ببيت الله الحرام، فترك خالد مكة وخرج حتى لا يرى هذا المشهد بعينيه.
إسلام خالد بن الوليد
تأتي كراهية خالد بن الوليد بعد كراهية أبيه للإسلام مباشرة، إلا أنه مع هذا كان يعيش صراعاً داخلياً رهيباً بين بيئته بموروثاتها الجاهلية، وبين هذا النداء الذي يصرخ في أعماقه على أنه الحق، ويقول له: إن الإسلام هو دين الله، وأن محمداً هو رسول الله، وأن الذي تركع وتسجد له يا خالد إنما هي حجارة لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، ولا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً. وسرعان ما انتهى هذا الصراع الذي طال حقاً، وشرح الله صدر خالد ، وقذف في قلبه حب الإسلام، وعلى الفور ينطلق خالد بن الوليد من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة؛ ليبدأ حياةً جديدة من تلك اللحظة الباهرة الرائعة التي خشع فيها قلبه، وسكنت فيها جوارحه، وامتدت يده لتبايع الحبيب صلى الله عليه وسلم، وليشهد بين يدي رسول الله شهادة الحق والصدق وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. ويبتسم الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويمد يده ليصافح خالد بن الوليد بوجه طلقٍ وهو يقول: (الحمد لله الذي هداك يا خالد ، فلقد كنت أرى لك عقلاً، ورجوت ألا يسلمك إلا لخير) انظروا إلى شهادة النبي عليه الصلاة والسلام: (فلقد كنت أرى لك عقلاً، ورجوت ألا يسلمك إلا لخير).
مشاركة خالد بن الوليد في غزوة مؤتة وفتح مكة
بعد شهرين أو ثلاثة فقط ينطلق خالد بن الوليد جندياً في صفوف كتائب التوحيد والإيمان، مع هذا الجيش الذي ذهب لمناطحة الصخور الصماء على حدود الشام في غزوة مؤتة ، تلك الغزوة التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه يختار لها القادة، فقال كما ورد في صحيح البخاري في كتاب المغازي من حديث عبد الله بن عمر قال: (أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوة مؤتة زيد بن حارثة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن قتل زيد فـجعفر بن أبي طالب ، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن قتل جعفر فـعبد الله بن رواحة ) وانطلق الجيش الذي لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل، ولما وصل الجيش إلى حدود الشام أذهلتهم المفاجئة الكبرى، فلقد رأوا الروم قد أعدوا لهم وجهزوا جيشاً جراراً يزيد على مائة ألف مقاتل، وهنا تردد المسلمون في القتال! كيف يدخلون هذه المعركة التي لا يمكن على الإطلاق أن نرى فيها ذرة من ذرات التكافؤ العددي والعُددي، وتردد الناس في القتال، مائة ألف إلى ثلاثة آلاف! وهنا قام الشهيد الشاعر صاحب السرير الذهبي: عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه ووقف في صفوف الجيش منادياً بأعلى صوته وهو يقول: [يا قوم! إن التي تخشون للتي خرجتم تطلبون، إنها الشهادة في سبيل الله، ووالله ما نقاتل عدونا بكثرةٍ ولا عدد، وإنما نقاتل عدونا بهذا الدين الذي أكرمنا به الله عز وجل، فانطلقوا، فإنها إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة]. وانطلق الناس للقتال، انطلق ثلاثة آلاف لقتال مائة ألف مقاتل، وتولى القيادة زيد بن حارثة وقاتل حتى قتل وسقط اللواء، فانقض إليه سريعاً جعفر بن أبي طالب وقاتل حتى سقط اللواء وسقط بعده طيار الشهداء، فانقض على اللواء عبد الله بن رواحة ورفع اللواء وقاتل حتى قتل وسقط اللواء، ودب الرعب والذعر في قلوب المسلمين، لا سيما بعد قتل القادة الثلاثة الذين حددهم واختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا انقض بسرعة الضوء ثابت بن أقرم رضي الله عنه على اللواء ليرفع اللواء خفاقاً عالياً، وأسرع ثابت بن أقرم ليبحث عن قائد الساعة وعن بطل الميدان عن أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه، وذهب إليه ثابت وقال: [خذ اللواء يا خالد ، فقال خالد -المؤدب المهذب- لا -وأبى أن يتقدم، هؤلاء الذين فيهم السابقون من المهاجرين والأنصار- وقال خالد المهذب لـثابت بن أقرم : أنت أولى به مني يا ثابت فأنت من السابقين الأولين، ممن شهدوا بدراً ، لست أحق بهذا اللواء منك، فقال ثابت بن أقرم : خذ اللواء يا خالد والله أنت أدرى بالقتال مني، وما أخذت اللواء من على الأرض إلا لك يا أبا سليمان ]. ونادى ثابت بن أقرم في المسلمين بأعلى صوته وقال: [أيها المسلمون! هل ترضون إمرة خالد ؟ قالوا: اللهم نعم] واعتلى العبقري جواده بعدما قد تحدد مصير المعركة بكل المقاييس، ودب الذعر والرعب، ومات قواد المعركة الثلاثة، وإن شئت فقل: لقد انتهت المعركة، واعتلى العبقري جواده، ودفع الراية عن يمينه كأنما يقرع بها أبواباً مغلقة قد آن لها أن تفتح بإذن الله على يد هذا البطل المغوار. ونظر العبقري نظرةً سريعة إلى أرض الميدان بعينين كعيني الصقر، وعاد تنظيم الصفوف، وثبت خالد في هذا اليوم ثبوت الجبال الرواسي، حتى خيم الليل بظلامه، وهنا ظهرت عبقرية خالد ، وظهر دهاؤه وبلاؤه وقتاله الذي قال عن نفسه: [والله لقد اندكت وتحطمت في يدي تسعة سيوف في يوم مؤتة ] والحديث رواه البخاري ، تسعة سيوف تحطمت في يد سيف الله، وأسد الله خالد بن الوليد رضي الله عنه. نظر خالد بن الوليد وفي ظلام الليل وفي سرعة البرق والضوء وعدل صفوف الجيش، فجعل الميمنة مكان الميسرة، وجعل الميسرة مكان الميمنة، وجعل الساقة في المقدمة وأخر المقدمة إلى الساقة، وكلف طائفة من الجنود أن يتأخروا خلف الجيش، وعند مطلع الصباح أمرهم أن يثيروا غباراً، وأن يحدثوا صوتاً وصياحاً وجلبةً وضوضاء. وفي الصباح الباكر بعدما بزغ الفجر، وجدت كتائب الروم وجوهاً غير الوجوه التي كانت تحاربها بالأمس، ورأت أعلاماً جديدة، ونظرت فوجدت غباراً، وسمعت صيحةً وصوتاً وجلبةً وضجيجاً، فظن الروم أن مدداً جديداً قد أقبل إلى جيوش المسلمين فدب الرعب في قلوبهم، وبدءوا في الانسحاب المذهل المروع، واستطاع خالد بذكائه وعبقريته أن يفتح ثغرة فسيحة في قلب هذا الجيش العرمرم الكبير الرهيب، وانسحب بجيشه انسحاباً آمناً دون أن يصيب الجيش بأي أذى. وبلغت البشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يعلم السر وأخفى، فلقد وقف الحبيب في المدينة المنورة يقص على المسلمين خبر غزوة مؤتة قبل أن يبلغه الخبر، فلقد أخبره علام الغيوب جل جلاله كما ورد في صحيح البخاري من حديث أنس : (وقف النبي صلى الله عليه وسلم ينعي للناس قادة غزوة مؤتة وعيناه تذرفان بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان ثم قال: حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله عليهم) وانظروا إلى هذه العبارة النبوية، سمى النبي انتصار خالد فتحاً، وأي نصر؟ وأي فتح؟ ولما خرج المسلمون يقولون لهم: يا فرار قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقولوا هذا ولكنهم الكرار وليسوا فراراً) سمى النبي انتصار خالد فتحاً (حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله) ذلكم هو الوسام الذي عاد خالد إلى المدينة ليعلقه النبي على صدره، والله إنه وسامٌ لا تقوم له الدنيا، ومن يومها أحبتي سمي خالد بن الوليد بسيف الله المسلول. ولم تمض إلا أشهراً معدودات حتى تقدم النبي في جيشه الكبير الجرار لفتح مكة ، وولى النبي خالد بن الوليد وجعله قائداً للميمنة، وها هو خالد يدخل إلى مكة المكرمة قائداً من قواد جيش التوحيد، بعد أن كان بالأمس القريب قائداً من قواد جيش الشرك.
مشاركة خالد بن الوليد في حروب الردة
ومات الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويتولى الصديق خلافة المسلمين، وتهب أعاصير الردة الغادرة الماكرة، ويجيش الصديق الجيوش، ويدفع الصديق الألوية للأمراء والقادة، ومن بين هؤلاء الأمراء والقادة جميعاً يتجه الصديق العبقري الذكي إلى قائد الساعة، وبطل الميدان، إلى سيف الله خالد ويقول له الصديق : (يا خالد ! لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد ، سيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين) والحديث رواه أحمد ، وقال الإمام الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح. وينطلق خالد بن الوليد ليشهد جميع معارك الردة من أولها إلى آخرها، وكانت أخطر معركة في هذه المعارك هي: معركة اليمامة بقيام الدعي الكذاب مسيلمة ، الذي نجح في أن يجيش جيوشاً جرارة حتى هزم عكرمة بن أبي جهل هزيمةً منكرة، وأصدر الصديق رضي الله عنه الأوامر إلى قائده المظفر خالد بن الوليد أن ينطلق مسرعاً لقتال مسيلمة . ويتحرك خالد بن الوليد بجيشه ليلتقي مع أخويه عكرمة بن أبي جهل ، و شرحبيل بن حسنة ، ويبدأ القتال الذي ليس لضراوته في عالم الحروب نظير، ويسقط الشهداء من المسلمين تباعاً بسرعة مذهلة كصقور حديقة طوحت بها عصيفة عاصفة عنيدة، ويعتلي العبقري بجواده ربوةً عالية وينظر بعينين كالصقر إلى أرض الميدان والمعركة، ثم يعود خالد ليصرخ بأعلى صوته في جنوده ويقول: [امتازوا اليوم لنرى بلاء كل حي ليتعرف من أين تأتي الهزيمة] ودب الحماس، ودبت الغيرة في قلوب الرجال، وصرخ خالد بأعلى صوته في الميدان، ونقل إخلاصه وحماسه إلى قلوب جنوده وإخوانه كما تنقل الكهرباء، وفي دقائق معدودة تحول اتجاه المعركة، وسقط الدعي الكذاب مسيلمة ، وفر جنوده وسقط جنوده بالمئات بل بالألوف كذبابٍ قتل أنفاس الحياة فيه نفثات مبيدٍ صاعق. وانتهت المعركة.. انتهت أكبر معركة في تاريخ الخلفاء.. انتهت موقعة اليمامة بنصر مؤزر من الله جل وعلا على يد القائد المظفر والبطل الفاتح خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه.
قتال خالد بن الوليد للفرس في موقعة القادسية
أيها الأحباب! انتهت حروب الردة في لمحات سريعة، وأصدر الخليفة العظيم المبارك رضي الله عنه وأرضاه أوامره إلى قائده العظيم المبارك أن يترك أرض الجزيرة العربية بعد انتهاء حروب الردة لينتقل إلى بلاد العراق . إلى بلاد العراق؟! لماذا؟! لحرب أعظم امبراطورية في بلا الشرق، وللقضاء على امبراطورية فارس، وينطلق خالد مسرعاً ملبياً أوامر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل العام الثاني عشر للهجرة، ويبدأ خالد أعماله الميمونة المباركة في العراق بهذه الكتب التي أرسل بها إلى كسرى، وإلى ولاته وأمرائه في بلاد العراق ، واسمعوا إلى هذه الرسالة، وإلى هذا الكتاب الذي أرسل به خالد رضي الله عنه وأرضاه: قال خالد : بسم الله الرحمن الرحيم "من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس، سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فالحمد لله الذي فضح دمكم، وسلب ملككم، ووهن كيدكم، من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم له ما لنا وعليه ما علينا، فإن جاءكم كتابي هذا فإني أخيركم بين ثلاثة: إما الإسلام، وإما أن تدفعوا الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون، وإما الحرب، فوالله الذي لا إله غيره لقد جئتكم بقومٍ يحبون الموت كما تحبون الحياة". الله أكبر.. ودب الرعب في قلوب أهل فارس، فلقد نُصر خالد بن الوليد بالرعب، وبالإجمال أقول: إن خالد بن الوليد دخل في خمس عشرة موقعة مع الفرس ومع أوليائهم، ولم يهزم بإذن الله في موقعة واحدة قط، وكانت أخطر معاركه مع أهل الفرس هي: موقعة ذات السلاسل بقيادة هرمز ، وفيها قيد الفرس أنفسهم بالسلاسل، حتى يضمنوا ألا يفروا من الميدان أمام ضربات خالد بن الوليد ، وانتهت معارك الفرس، ودك خالد بن الوليد عرش الإمبراطورية الفارسية في عامٍ واحد، فعل خالد بن الوليد ما عجز الرومان أن يفعلوه في أجيالٍ متتابعة. وانتهت المعارك في بلاد العراق ، وبقي على موسم الحج أسبوعان، فنظر خالد فوجد نفسه فارغاً من القتال، ولكنه حتماً لا يكون فارغاً من طاعة الله عز وجل، وفي عزمة خالدية جريئة لا يقوى عليها إلا خالد ، صمم خالد في سرية تامة أن ينال شرف أداء فريضة الحج لأول مرة بعدما منَّ الله عليه بهذه الانتصارات المروعة والرائعة، وفي سرعة البرق، وفي لمحة خاطفة، ولم يبق على موسم الحج إلا أسبوعين، ينطلق خالد بن الوليد من أقصى العراق إلى أقصى الحجاز ويؤدي فريضة الحج دون أن يشعر به أحد من الأعداء، ودون أن يشعر به أحدٌ من المسلمين في جيشه إلا من المقربين من قواده، بل حتى لم يعلم به خليفة رسول الله أبو بكر الذي كان أميراً للحج في هذا الموسم، ويرجع خالد مرةً أخرى إلى موقعه، ولما علم الصديق بذلك عاتبه عتاباً رقيقاً وأمره ألا يعود لمثلها، يقول المؤرخون: تلك عزمة خالدية وثقة مفرطة لا يقوى عليها إلا خالد .
قتال خالد بن الوليد ضد الروم في موقعة اليرموك
وكان الصديق رضي الله عنه بعدما انتهت معارك فارس قد جيش الجيوش إلى بلاد الشام للقضاء على أعظم امبراطورية في الغرب، إلا وهي امبراطورية الروم، وقد اختار الصديق لهذه الجيوش قادةً عظاماً، اختار أبا عبيدة بن الجراح ، و عمرو بن العاص، و يزيد بن أبي سفيان ، وجعل الصديق القيادة العامة لجيوش الشام في يد أبي عبيدة رضي الله عنه، ولما وصلت الجيوش إلى بلاد الشام ، وسمع هرقل امبراطور الروم بهذه الجيوش قال قولته المشهورة: والله لأشفين أبا بكر ألا يورد خيله إلى أرضنا مرة أخرى، وجيش هذا الرجل جيشاً لا مثيل له، جيش جيشاً يزيد على مائتين وأربعين ألف مقاتل، ولما رأى قادة الجيوش المسلمة هذا الجمع الرهيب، أرسلوا إلى خليفة رسول الله إلى أبي بكر يخبروه بالصورة الجديدة والموقف الجديد، أتدرون ماذا قال الصديق رضي الله عنه؟ قال: والله لأشفين وساوس الروم بـخالد بن الوليد ، وأصدر الصديق الأوامر إلى قائده المظفر أن ينتقل من العراق من أقصى المشرق فوراً إلى بلاد الشام إلى أقصى المغرب فوراً، وفي أربعة أيام يا عباد الله من طريقٍ وعرٍ مذهل! استطاع خالد بن الوليد أن يكون على جبهة الشام ، وأرسل الصديق في ذلك رسالةً إلى قائده البطل إلى خالد بن الوليد ، وكانت تحتوي على كلماتٍ عذبة رقيقة، ومما كان في هذه الرسالة أن الصديق قال له: هنيئاً لك أبا سليمان النية والحظوة، لا يدخلنك عجبٌ فتخسر وتُخذل، وإياك أن تمن بعملٍ، فإن الله هو صاحب المن وهو ولي الجزاء، وأمره أن ينطلق مسرعاً إلى إخوانه من القادة في بلاد الشام ، وأن يتولي خالد القيادة العامة على أبي عبيدة وإخوانه من القادة، وأرسل الصديق رسالة مماثلةً إلى قائد الجيوش في الشام إلى أبي عبيدة يقول فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر إلى أبي عبيدة بن الجراح ، سلام الله عليك أما بعد: فلقد أمرت خالد قيادة الجيوش في بلاد الشام ، فلا تخالفه يا أبا عبيدة ، واسمع له وأطع، وإني لم أبعثه عليك إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وإن كنت عندي أحب إلي منه، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام. ولما وصلت الرسالة إلى خالد وكلف فيها من خليفة رسول بالقيادة العامة انظروا إلى الأدب والإخلاص، أرسل خالد بن الوليد رسالة إلى الفور إلى قائد الجيوش في الشام ، إلى أخيه أمين هذه الأمة: أبي عبيدة بن الجراح وقال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى أبي عبيدة بن الجراح ، سلام الله عليك أما بعد: فلقد جاءني كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمرني فيه بالسير إلى بلاد الشام والقيام على جندها والتولي لأمرها، ووالله ما طلبت ذلك يا أبا عبيدة وما أردته، فأنت على حالك التي كنت عليها قبل ذلك لا نخالفك يا أبا عبيدة ونسمع لك ونطيع، فأنت سيد المسلمين، ولا يمكن أن ننسى فضلك ولا نستغني عن أمرك. بالله ما أورعه! بالله ما أتقاه! بالله ما أنقاه! بالله ما أخلصه! هذه هي القلوب التي تجردت لله، التي لا تبحث عن الزعامة، ولا تريد الصدارة، ولا تريد القيادة، ولو كان على حساب دين الله جل وعلا، لا فرق عند خالد الذي رباه سيد النبيين محمد أن يكون جندياً مطيعاً بعد أن كان قائداً مطاعاً، أو أن يكون قائداً مطاعاً بعد أن كان جندياً مطيعاً، طالما أن راية التوحيد ستظل خفاقة عالية تعانق كواكب الجوزاء في عنان السماء. ووصل خالد بن الوليد إلى إخوانه، والتقت الجيوش المسلمة، وقبل بدء القتال وقف سيف الله يخطب هذه الخطبة العصماء، وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه لإخوانه من القادة والجند: إن هذا يومٌ من أيام الله، لا ينبغي فيه البغي ولا الفخر، وإن هذا اليوم له ما بعده، فإن رددناهم اليوم لا نزال نردهم بعد اليوم، وإن هزمونا اليوم لن نفلح بعدها أبداً، -ثم قال-: فتعالوا بنا نتعاور -أي: نتبادل القيادة- فليكن أحدنا اليوم قائداً، وليكن بعد اليوم أحدنا قائداً -وهكذا ثم نظر إليهم خالد - وقال: وأطلب منكم أن تتركوا لي الإمارة في اليوم الأول، وتنازل القادة بمنتهى الحب والرضا للقيادة لأخيهم سيف الله المسلول وفارس الإسلام والمسلمين.. لـخالد بن الوليد رضي الله عنه، وعاد البطل ينظم صفوف الجيش بطريقته الخالدية التي لا نظير لها في عالم الميادين، وفي عالم القيادة وفن الحروب، ونظم البطل صفوف جيشه، ورسم المسلمون في هذه الموقعة موقعة اليرموك صوراً من البطولة والفداء تبهر القلوب وتأخذ الألباب، فهذا رجلٌ جنديٌ في الصفوف يقترب من أبي عبيدة بن الجراح وينادي عليه في هذه الضجة وفي هذا الضجيج تحت رنين السيوف، ووقع الرماح وصهيل الخيول: يا أبا عبيدة ! ويلتفت إليه أبو عبيدة: ماذا تريد؟ فيقول له هذا المسلم النقي: لقد عزمت على الشهادة فهل لك من حاجة أبلغها لرسول الله حين ألقاه، فقال أبو عبيدة: نعم، إذا لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: يا رسول الله! لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً -في وسط هذه المعمعة- لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً. وينادي عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه ويقول لنفسه: والله لطالما قاتلت رسول الله قبل أن يشرح الله صدري للإسلام، وهأنا اليوم أفر من الميدان أمام أعداء الله، فينادي بأعلى صوته: يا أصحاب محمد! من يبايع اليوم على الموت؟ ويبايعه كوكبة من الأبرار الأطهار الأخيار، ويدخلون في صفوف المعركة لا يبحثون عن النصر إنما يبحثون عن الشهادة، إنهم أبناء محمد بن عبد الله، إنهم تلاميذ المصطفى صلى الله عليه وسلم الذين عرفوا حقيقة الدنيا، وشرف الجهاد في سبيل الله، وبهذه القلوب، وبهؤلاء الرجال أعز الله دينه، وأعلى الله راية توحيده، وأعز الله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن تكون العزة ولا النصرة إلا بهذه القلوب، وإلا على هذه الأيدي الطاهرة، وإلا بهؤلاء الرجال الأطهار الأبرار الأخيار. وانتهت المعركة أيها الأحباب: وفي وسط هذه الانتصارات المذهلة، وإذ بـالصديق رضي الله عنه يودع الدنيا آمناً راضياً مطمئناً ليلقى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم بعدما أدى الأمانة التي كلف بها، وهنا يتولى عمر الفاروق رضي الله عنه لنرى مرة أخرى، وانتصاراً أعظم من جميع الانتصارات، مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[quote]