[size=24]
يحيى عبد اللطيف عياش (6 مارس 1966 [1] - 5 يناير 1996). ولد في قرية رافات جنوب غرب مدينة نابلس في الضفة الغربية.
من قصص البطولة والفداء
في الذكرى السابعة لاستشهاد المهندس يحيي عياش : ذكراه العطرة تتجدّد في القلوب ... و سيرته الجهادية منارة للمجاهدين ..
أسّس مدرسة الاستشهاديين و نقل المعركة إلى عقر دار الصهاينة و أذلّ دولة بكاملها
تقرير خاص :
لم يستطع "شمعون رومح" - أحد كبار العسكريين الصهاينة- أن يخفي إعجابه بيحيى عياش حين قال : "إنه لمن دواعي الأسف أن أجد نفسي مضطراً للاعتراف بإعجابي و تقديري بهذا الرجل الذي يبرهن على قدرات و خبرات فائقة في تنفيذ المهام الموكلة إليه ، و على روح مبادرة عالية و قدرة على البقاء و تجديد النشاط دون انقطاع" .. و لم يكن شمعون وحده هو المعجب بالرجل ، لكن وسائل الإعلام الصهيونية كلها شاركته الإعجاب حتى لقبته : "الثعلب" و "الرجل ذو الألف وجه" و "العبقري" … و لهم الحق في احترامه و الخوف منه ، فحين نزف الدم الفلسطيني بغزارة على أرض الحرم الإبراهيمي في خليل الرحمن ، في الخامس عشر من رمضان المبارك 1414هـ ، غلت الدماء في قلوب المسلمين في كلّ مكان . لكن قلباً واحدًا قرَّر أن يغلي بطريقة أخرى و مميزة ، تلقّن الحقد اليهودي درسًا لا يمكن نسيانه ، كان ذلك قلب المهندس "يحيى عيَّاش" الذي أسَّس مدرسة ما زال طلابها يتخرّجون فيها بتفوقّ على الرغم من غياب ناظرها ..
في مثل هذا اليوم من عام 1996 كان الموعد مع القدر ، كانت روح الشهيد البطل المهندس يحيي عياش ترتفع إلى عليين بعد جهاد و مقاومة أذلّ فيها دولة قيلَ عنها أنها لا تقهر و لكن قهرها المهندس الشهيد القائد يحيى عياش فكان حقاً أمة بكاملها .
نشأته و حياته :
ولد الشهيد يحيى عبد اللطيف عياش و نشأ في قرية رافات بين نابلس و قلقيلة لعائلة متديّنة محافظة ، و قد رزق الله الحاج عبد اللطيف ابنه البكر يحيى في الثاني و العشرين من مارس من عام 1966 .. و قد كان يحيى معروفاً بذكائه الحاد و حفظه الدقيق و بدأ بحفظ القرآن منذ السادسة من عمره و كان الصمت و الخجل و الهدوء ميزات خاصة في يحيى و كأيّ فلسطيني ..
كبر يحيى و كبر معه الألم الذي يعتري الأحرار ، كان يدرس في مدرسة القرية الابتدائية و يقف واجماً في وسط الطريق يحملق في جرافات المستوطنين التي تسوّي أراضي القرية و تلتهمها لتوسيع المستوطنة . و قد واصل دراسته الإعدادية و الثانوية و حصل في امتحان التوجيهي على معدل 92.8 % في القسم العلمي ليلتحق بجامعة بيرزيت في قسم الهندسة الكهربائية .
و يعتبر أحد نشيطي الكتلة الإسلامية أثناء الدراسة . و بعد تخرّجه حاول الحصول على تصريح خروج للسفر إلى الأردن لإتمام دراسته العليا و رفضت السلطات الصهيونية طلبه ، و قد عقّب على ذلك يعكوف بيرس رئيس المخابرات آنذاك بالقول : "لو كنا نعلم أن المهندس سيفعل ما فعل لأعطيناه تصريحاً بالإضافة إلى مليون دولار" !! . تخرّج من الجامعة عام 1991م بتفوّق و تزوّج من ابنة عمه بتاريخ 9 أيلول / سبتمبر ، 1992م و رزِق منها طفله الأول براء في 1 كانون الثاني (يناير) 1993م و كان حينها مطارداً ، و قبل استشهاده بيومين فقط رزِِق بابنه الثاني عبد اللطيف تيمّناً باسم والده ، غير أن العائلة أعادت يحيى إلى البيت حين أطلقت على الطفل عبد اللطيف اسم يحيى .
شيخ الحركة الإسلامية في رافات :
عمِل يحيى بجدٍ و نشاط ، و قام بكافة التكاليف و أعباء الدعوة الإسلامية سواء داخل الجامعة أو في مدينة رام الله أو قريته رافات ، و وظّف المهندس سيارة والده التي اشتراها في خدمة الحركة الإسلامية حين دأب على السفر إلى رافات و قام بإرساء الأساسات و شكّل أنوية لمجموعات من الشباب المسلم الملتزم . و حينما انفتح الأفق على حركة المقاومة الإسلامية حماس كانت هذه المجموعات في طليعة السواعد الرامية خلال سنوات الانتفاضة المباركة الأولى ، و نظراً للدور الريادي الذي قام به و حكمته و أدبه و أخلاقه فقد اعتبرته الفصائل الفلسطينية (شيخ الحركة لإسلامية في رافات) ترجع إليه في كافة الأمور التي تتعلق بالفعاليات أو الإشكاليات خلال الأعوام (1988 - 1992) .
ولادة المهندس :
مع انطلاق شرارة الانتفاضة أرسل أبو البراء رسالة إلى كتائب الشهيد عز الدين القسام يوضّح لهم فيها خطة لمجاهدة اليهود عبر العمليات الاستشهادية و أصبحت مهمة يحيى عياش إعداد السيارات المفخّخة و العبوات شديدة الانفجار .
أدرِج المهندس على قائمة المطلوبين لقوات الاحتلال لأول مرة في نوفمبر سنة 1992 إثر اكتشاف السيارة المفخّخة في رمات و التي أعلنت كتائب الشهيد عز الدين القسام مسئوليتها عن تفجيرها . و في السادس عشر من أبريل سنة 1993 و في مفترق "محولا" في الغور نفِّذ هجوم استشهادي بمحاذاة حافلة ركاب صهيونية قتِل فيها صهيوني و أصيب تسعة آخرين ، و في أغسطس 1993 بتوجيه من المهندس نفّذ علي عاصي و محمد عثمان هجوماً نحو موقع للجيش الصهيوني قرب مفرق قرب مفرق كفر بلوط أسفر عن مقتل جنديين ، و في يناير 1994 توجّه مع علي عاصي يحمل عبوة ناسفة محكمة و وضعها في ميدان رماية للجيش الصهيوني في منطقة رأس العين و انفجرت العبوة و أصيب جنديان بجروح خطيرة ، و انطلق الشهيد (ساهر تمام) في سيارته المفخخة التي أعدها المهندس لتتفجّر بجوار باصٍ صهيوني يقلّ جنوداً من جيش الاحتلال و قد أصيب ثلاثون جندياً بجراحٍ ، ثم انطلق الشهيد الشيخ سليمان بسيارته المفخّخة و بجوار باصٍ ينفجر حيث قتل شخصان و أصيب ثمانية بجراح .
عملياته النوعية :
عبقرية القائد "يحيى عياش" نقلت المعركة إلى قلب المناطق الآمنة التي يدّعي الصهاينة أن أجهزتهم الأمنية تسيطر فيها على الوضع تماماً ؛ فبعد العمليات المتعددة التي نُفّذت ضد مراكز الاحتلال و الدوريات العسكرية نفّذ مقاتلو حماس بتخطيطٍ من قائدهم عياش عدداً من العمليات أهمها :
·6 نيسان 1994 : الشهيد "رائد زكارنة" يفجّر سيارة مفخّخة قرب حافلة صهيونية في مدينة العفولة ؛ مما أدّى إلى مقتل ثمانية صهاينة ، و جرح ما لا يقل عن ثلاثين . و قالت حماس إن الهجوم هو ردّها الأول على مذبحة المصلين في المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل .
·13 نيسان 1994 : مقاتل آخر من حركة "حماس" هو الشهيد عمار عمارنة يفجر شحنة ناسفة ثبتها على جسمه داخل حافلة صهيونية في مدينة الخضيرة داخل الخط الأخضر ؛ مما أدّى إلى مقتل 7 صهاينة و جرح العشرات .
·19 تشرين أول 1994 : الشهيد صالح نزال – و هو مقاتل في كتائب الشهيد عز الدين القسام - يفجّر نفسه داخل حافلة ركاب صهيونية في شارع "ديزنغوف" في مدينة "تل أبيب" ؛ مما أدّى إلى مقتل 22 صهيونياً و جرح ما لا يقل عن 40 آخرين 25 .
·كانون أول 1994 : الشهيد أسامة راضي – و هو شرطي فلسطيني و عضو سري في مجموعات القسام - يفجّر نفسه قرب حافلة تقلّ جنوداً في سلاح الجو الصهيوني في القدس ، و يجرح 13 جندياً .
·22 كانون ثان 1995: مقاتلان فلسطينيان يفجران نفسيهما في محطة للعسكريين الصهاينة في منطقة بيت ليد قرب نتانيا ؛ مما أدّى إلى مقتل 23 جندياً صهيونياً ، و جرح أربعين آخرين في هجوم وُصف أنه الأقوى من نوعه ، و قالت المصادر العسكرية الصهيونية إن التحقيقات تشير إلى وجود بصمات المهندس في تركيب العبوات الناسفة .
·9 نيسان 1995 : حركتا حماس و الجهاد الإسلامي تنفّذان هجومين استشهاديين ضد مستوطنين صهاينة في قطاع غزة ؛ مما أدّى إلى مقتل 7 مستوطنين رداً على جريمة الاستخبارات الصهيونية في تفجير منزل في حيّ الشيخ رضوان في غزة ، أدّى إلى استشهاد نحو خمسة فلسطينيين ، و بينهم الشهيد "كمال كحيل" أحد قادة مجموعات القسام و مساعد له .
· 24 تموز 1995 : مقاتل استشهادي من مجموعات تلاميذ المهندس "يحيى عياش" التابعة لكتائب الشهيد "عز الدين القسام" يفجّر شحنة ناسفة ثبتها على جسمه داخل حافلة ركاب صهيونية في "رامات غان" بالقرب من "تل أبيب" ؛ مما أدّى إلى مصرع 6 صهاينة و جرح 33 آخرين .
· 21 آب 1995 : هجوم استشهاديّ آخر استهدف حافلة صهيونية للركاب في حيّ رامات أشكول في مدينة القدس المحتلة ؛ مما أسفر عن مقتل 5 صهاينة ، و إصابة أكثر من 100 آخرين بجروح ، و قد أعلن تلاميذ المهندس يحيى عياش مسئوليتهم عن الهجوم . و قد وصل مجموع ما قُتل بيد "المهندس" و تلاميذه ما يزيد عن ستة و سبعين صهيونياً ، و جرح ما يزيد عن أربعمائة آخرين .
مسلسل الملاحقة :
و نتيجة الملاحقة المكثّفة للمهندس و اعتقال كلّ من شاهد أو سمع أو علم به في الضفة يضيق الخناق ، و ينقل المهندس مركز نشاطه إلى قطاع غزة و نجاح أبو البراء في الوصول إلى غزة يعدّ بحد ذاته ضربة قاسية للكيان الصهيوني . و في الخامس و العشرين من كانون الأول 1994 يتقدّم أيمن راضي من خانيونس يحمل حقيبة الرعب و يفجّر نفسه قرب حافلة جنود بالقرب من مباني الأمة في القدس ليقتل صهيونياً و يصيب ثلاثة عشر آخرين بجراح . و في التاسع من نيسان 1995 تنفجر سيارة عماد أبو أمونة قرب نتساريم في قطاع غزة ثأراً لدماء الشهيد القائد كمال كحيل و إخوانه ، و في الخامس و العشرين من حزيران 1995 تنفجر عربة معاوية روقة قرب حافلتي جنود في غزة . و في الرابع والعشرين من تموز 1995 تنفجر الحافلة الصهيونية في رمات جان تقتل ستة صهاينة و تجرح خمسة و ثلاثين آخرين و يعلن تلاميذ يحيى عياش المسئولية ، فيما إيجال عامير يرقب إسحق رابين رئيس الوزراء ليقتله كردة فعل لهذه الضربات الموجعة .
و في الحادي والعشرين من آب 1995 ينفجر الشهيد سفيان جبارين في الحافلة المزدوجة في مستوطنة رمات اشكول في القدس لتقتل خمسة و تصيب ما يزيد عن مائة آخرين .. و يؤكّد تلاميذ يحيى عياش مسئوليتهم ليصل مجموع ما قتل بيد المهندس و تلاميذه إلى ستة و سبعين صهيونياً و جرح ما يزيد عن أربعمائة آخرين و هذا رقم قياسي لم ينازع المهندس فيه أحد ليغدو المهندس شجرة باسقة الظلال و مدرسة يأوي إليها النماذج الفريدة من المجاهدين ذوي الهمم العالية .. كان قلب أبي البراء الذي وسع كلّ فلسطين هادئ البال قرير العين ، فقد مسح دمع الثكلى و الأرامل و الأيتام و جفّف جرح كل المصابين .
رابين و المهندس :
و قد لقّب رئيس الحكومة الصهيونية آنذاك المجحوم إسحاق رابين يحيى عياش بالمهندس و أطلق عليه هذا اللقب في إحدى جلسات المداولة بين رابين و قادة أمنه للبحث في قضية عياش و سبل الوصول إليه ، أبدى رابين - كما صرح جدعون عزرا رئيس جهاز الشاباك الأسبق - اهتماماً بكفاءات و قدرات عياش و أخذ يضفي عليه لقب المهندس بعد أن علم ما يمتلكه المهندس من إمكانيات ، و قد كان رابين يبدأ كلّ جلسات الحكومة و مجلسه المصغر و مجلس الأمن بالسؤال عن المهندس ، و قد صرح رابين بهذا اللقب للصحافة أكثر من مرة حتى غدا المقاتل الفلسطيني الفذ أسطورة ملحمية خالدة و شبحاً رهيباً يطارد الكيان الصهيوني لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يختاره جميع الخبراء اليهود و الأجانب كرجل العام 1995 حيث أثّر على الكيان و حياته و مستقبله أكثر مما أثر رابين و حكومته و جيشه ، و قد بثّت الإذاعة و التلفزيون الصهيوني العديد من البرامج حول هذا الشبح الأسطورة .
قالوا في المهندس :
المعلق الصهيوني في التلفزيون الصهيوني إيهود يعاري اعتبر أن لكل مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني رموزها و أنه مثلما شكّل عماد عقل رمز العمل العسكري في حركة حماس فإن يحيى عياش يمثل رمز العمل العسكري الاستشهادي ، فيما عبر شمعون رومح عن إعجابه بالقول إنه لمن دواعي الأسف أن أجد نفسي مضطراً للاعتراف بإعجابي و تقديري بهذا الرجل الذي يبرهن على قدرات و خبرات فائقة في تنفيذ المهام الموكلة إليه و على روح مبادرة عالية و قدرة على البقاء و تجديد النشاط دون انقطاع . و كان رأي د. سيلع ود. شتايتبرغ أن المشكلة في البيئة العقائدية الأصولية التي يتنفس المهندس من رئتها هي التي تبدع و تفرز ظاهرة المهندس و ظاهرة الرجال المستعدين للموت في سبيل عقيدتهم ..
و كما هو الحال بالنسبة لكل شخصية أسطورية فإن الهوس الصهيوني ينسب له عجائب عدة ، فهو صاحب هويات مختلفة و له حضور في كل مكان ، يوجد في مصر و إيران و ليبيا و السودان و في خانيونس و غزة و رام الله ، قلقيلية، جنين ، القدس ، "تل أبيب" حتى في منزله برافات و هو متنكر بزي يهودي متدين و أحياناً كمستوطن مسلح ببندقية و أنه يتجوّل بشخصية دبلوماسية في "تل أبيب" و يقود سيارة ذات لوحات تسجيل "إسرائيلية" ، عياش يبدّل هيئته يومياً و لا يبيت سوى ليلة واحدة في البيت الواحد . و بلغ الهوس الصهيوني ذروته حين قال رابين : "أخشى أن يكون جالساً بيننا في الكنيست" .. هذا الهوس لم يطل رابين فحسب بل غدا كابوساً يتسلل إلى مضاجع الصهاينة ، فقد أصبح أكثر من 80 % من سكان الكيان يخافون استخدام المواصلات العامة و اشتكى أكثر من عشرين ألفاً من أمراض نفسية نتجت عن عمليات التفجير ، و تشاجر يوماً جنديان فقال أحدهما للآخر : "إن شاء الله تقع في يد المهندس" . و في أحد البرامج التلفزيونية عن المهندس قال المذيع : "إنني أخشى أن يفجّر المهندس هذا الاستديو أمام أعين المشاهدين" .. و قد وقف علماء النفس حيارى أمام ظاهرة المهندسلوجي فلا يملكون لها وصفاً أو إدراجاً تحت أبواب العلم المعهودة ، فهل هو رجل حقاً بمفرده أم هي أمة تنكرت على هيئة رجل له عقل واعٍ مستنير و أصابع ماهرة و قلب يطفح بالإيمان و كلما تحرّكت يداه جهز النازيون الجدد أكفانهم و أعدوا لسيول الدمع أجفانهم .
هذا الهوس الصهيوني أضفى على المهندس حالة من القداسة حتى أعظم قادة الكيان كانوا عند ذكره لا يخفون حالة الرعب و الخوف . فإسحاق رابين رئيس الورزاء السابق يقول : "لا شك أن المهندس يمتلك قدرات خارقة لا يملكها غيره و أن استمرار وجوده طليقاً يمثل خطراً داهما على أمن "إسرائيل" و استقرارها" . أما موشيه شاحل وزير الأمن الداخلي السابق فيقول : "لا أستطيع أن أصف المهندس يحيى عياش إلا بالمعجزة ، فدولة "إسرائيل" بكافة أجهزتها لا تستطيع أن تضع حلاً لتهديداته" .. و الجنرال أمنون شاحاك رئيس أركان الجيش الصهيوني السابق فيقول : "إن "إسرائيل" ستواجه تهديداً استراتيجياً على وجودها إذا استمر ظهور أناس على شاكلة المهندس" . بينما يقرّ يعكوف بيري رئيس المخابرات الصهيونية سابقاً قائلاً : "إنني أقر أن عدم القبض على المهندس يمثل أكبر فشل ميداني يواجه المخابرات منذ إنشاء دولة (إسرائيل)" . فيما جدعون عزرا نائب رئيس المخابرات سابقاً يقول : "إن احتراف المهندس و قدرته تجلّت في خبرته و قدرته على إعداد عبوات ناسفة من لا شيء" .
جمعة الشهادة :
إنه يوم الجمعة الحزينة 15 شعبان 1416هـ الموافق الخامس من كانون الثاني يناير 1996م التي لم تكن كأي جمعة فما أن أذاع تلفزيون العدو نبأ الاغتيال فاهتزت فلسطين بكلّ أرجائها و دبّت قشعريرة و سرى شعور حزين و حاولت القلوب الفزعة أن تكذّب أو تشكّك ، و اهتزت الكلمات في الحناجر حين أعلنت حماس توقّف عقل الفتى العاشق و سكنت نبضات قلبه .
فبكى كلّ شيء في فلسطين حتى كاد طوفان الدمع أن يغرق شوارع غزة و حارات نابلس و طولكرم و الخليل . و مرّ ليل الجمعة الباكية ثقيلاً على الجبال و الوديان و الناس ، ينما سكنت الأمواج في انتظارٍ حزين ، و في الصباح تراكض الباحثون عن وطن نحو رافات يعانقون جدران منزل المهندس متوعّدين بالثأر و مؤمّنين على دعاء أم يحيى (قلبي و ربي راضين عليك) ، و كم تمنى أولئك لو أنهم تشرّفوا بتشييعه أو على الأقل مشاهدة وجهه أو ملامسة كفه فيتعلمون كيف يضرب و كيف يصنع لنا الحياة .
و يروي أسامة حماد صديق المهندس أيام الدراسة و الشاهد الوحيد على عملية الاغتيال حيث قال إن يحيى التجأ إليه قبل خمسة شهور من استشهاده حيث آواه في منزله دون أن يعلم أحد و كان كمال حماد و هو خال أسامة و يعمل مقاول بناء على صلة وثيقة بالمخابرات الصهيونية يلمّح لأسامة بإمكانية زيارة يحيى له في شركة المقاولات و إعطاه جهاز بيلفون لاستخدامه ، و كان كمال يأخذ جهاز البيلفون ليوم أو يومين ثم يعيده ، و قد اعتاد والد المهندس الاتصال مع يحيى عبر البيلفون و قد طلب منه يحيى مراراً الاتصال على الهاتف البيتي و قد اتفق يحيى مع والده على الاتصال به صباح الجمعة القادم على الهاتف البيتي ، و في صباح الجمعة الخامس من يناير 1996 اتصل كمال حماد بأسامة و طلب منه فتح الهاتف المتنقل لأنه يريد الاتصال من الكيان و اتضح أن خط هاتف البيت مقطوع ، و في الساعة التاسعة صباحاً اتصل والد يحيى على الهاتف المتنقل الذي أبلغ أسامة أنه لم يستطع الاتصال على الهاتف البيتي و استلم المهندس الهاتف و قال لوالده : "يا أبي لا تظل تتصل على البيلفون" ، حينها دوّى الانفجار من الهاتف و سقط المهندس ، و اللحم يتناثر و الزجاج يتحطّم و بقع الدم تتناثر و يتضح أن عبوة ناسفة تزن 50 غراماً انفجرت في الهاتف النقال ، ليستريح المقاتل الصلب بعد سنوات الجهاد و يصعد إلى العلا و المجد يلتقي هناك بالنبيين و الصديقين و الشهداء بإذن الله . و ما إن انتشر خبر استشهاد المهندس حتى ساد في أنحاء فلسطين خاصة و العالم الإسلامي عامة حالة من عدم الاستقرار و خرجت الآلاف في شوارع قطاع غزة و فلسطين يهيمون على وجوههم بغير وعي و أعلنت سلطات الاحتلال حالة الطوارئ و أغلقت الضفة و غزة و نشرت قوات معزّزة و لم تخفِ فرحتها العظمى بهذا الخبر حيث صرّح يعقوب بيري رئيس المخابرات السابق بالقول : "موت عياش وضع حداً لأخطر و أعنف المحاربين الذين عرفناهم" .. فيما صرّح موشيه شاحك وزير الأمن الداخلي بالقول : "بتنا نتنفس بشكلٍ أفضل بعد إعلان موته" .
و خرجت جماهير غزة الأبية في مسيرة لم تشهد لها فلسطين مثيلاً لتشييع المهندس و صار الشعب كله يحيى ، و صار يحيى الشعب كلّه فعظمة الشهادة و الإنجاز أبت أن يكون المهندس ابن رافات وحدها و لا ابن حماس دون غيرها ، فكما كان عمله و حياته لكلّ فلسطين من بحرها لنهرها جاء استشهاده ليملأ كل فلسطين بالأمل و الرجاء ، تماماً كالبرق سطوعاً ليست انطفاءته إلا ميلاداً للحياة .
إن التجاوب الشعبي المدهش الذي ولده استشهاد المهندس يؤكّد أكثر من معنى و يشير إلى أكثر من دلالة ، فهو :
أولاً : استفتاء عفوي بأن خيار الجهاد و المقاومة لا يزال في قلوب أبناء فلسطين .
ثانياً : أثبت الشعب الفلسطيني بأن من يعطي فلسطين بإخلاص و أمانة كعماد عقل و يحيى عياش و عوض سلمي و صلاح شحادة و محمود أبو الهنود و غيرهم يجد صدى أفعاله لدى الجماهير مجسّداً في تشييع عماد و يحيى و صلاح .
ثالثاً : إن كرة اللهب البشرية التي اندفعت لوداع المهندس هي في إحدى صورها تعبير صريح عن حالة الغضب و مشاعر الاحتقان التي يكنها الفلسطينيون لعدوهم رغم كل الاتفاقات و الترويج لحالة الصداقة الجديدة التي كشفت زيفها انتفاضة الأقصى المباركة .
معالم و عبر :
و لعلّ سيرة الشهيد المهندس و حياته و استشهاده تقودنا إلى الكثير من العبر و العظات ، أهمها :
أولاً : قاعدة عقائدية و إيمانية :
البيئة العقائدية و الإيمان الراسخ في أعماق النفس البشرية هي التي تبدع و تفرز ظاهرة الرجال المستعدين للموت في سبيل الله و من خلال تجذّر هذه الأصول و صلابة حاملها تنفجر مدخرات الطاقة في خلايا الجسم ، و يتألّق كلّ ما أودعه الخالق سبحانه و تعالى في هذه النفس من خلق و تجرد و إخلاص و صدق و توكل و غيرها من خصائص الشهادة و معاني البقاء و الاقتداء .
و لئن غادرنا المهندس بعد نجاحه في الوصول إلى قمة هرم الصاعدين و انتصاره في مسيرته الحياتية نحو الخلود فإننا ما زلنا نمتلك التمسك بمبادئه و ثوابته و تجربته التاريخية الزاخرة بمدلولات تبشّر بدروس من السهل الاقتداء بها و تقليد العملاق الخالد على أرض فلسطين و تكرار مسيرته و التبشير بقدرات الأمة على إنجاب العظماء و صنع المستقبل المشرق .. و نستطيع أن نورد إضاءات من القاعدة العقائدية و الإيمانية التي حملت أعمدة العملاق الخالد لتكون ألوية رشد و هداية يقتدي بها السائرون .
- امتزاج الورع و التقوى بصفاء الروح و بساطة النفس إذ إن يحيى كان ملتزماً و مطيعاً لله فيما أمر به أو نهى عنه ، و هذا المفهوم لمعنى التديّن ظهر عند المهندس من خلال إكثاره من قراءة القرآن الكريم و تلاوته و حفظه و من هنا يظهر لنا سبب إصراره بعناده و إقدامه الذي لم يعرف التردد في مسيرة الجهاد رغم تفوق العدو و قسوته .
- الجدية في الحياة و صلة الرحم و حب الناس و أداء الواجب و هذا لا يعنى أن الشهيد لم يكن صاحب مزاح أو مرح نظيف و إنما كان يتجنب الصخب و يبتعد عن الأجواء الملوثة .
- توجيه و تكريس الحياة الدنيا لعمل الخير و اعتبار ذلك وسيلة لبلوغ رضوان الله ، و من هنا كان عطوفاً على الناس يقدّم المساعدة التي يقدر عليها لكل من يلجأ إليه .
- التسامح سمة من سمات المهندس في علاقاته سواء في البيت أو القرية أو الجامعة إذا كان يسامح من يسيء له و لم يحمل حقداً على أحد حتى لو أساء إليه .
- الهدوء و الاتزان و عمق التفكير و كأنه كان يحلّق في آفاق البحث عن رضوان الله مما ساقه إلى مبتغاه مع الأنبياء و الصديقين و الشهداء .
- لم يكن للذاته نصيب من الدنيا و متاعها إذ عرف عنه عفّة اليد و الزهد لا يبتغي سوى مرضاة الله و عندما قامت الحركة بإرسال مبلغٍ من المال لإعانته على شئون عائلته أرسل إلى قيادته معاتباً : "بالنسبة للمبلغ الذي أرسلتموه فهل هو أجر لما أقوم به ؟ إن أجري على الله أسأله أن يتقبّل منا فإن هدفي ليس مادياً و لو كان كذلك لما اخترت هذا الطريق ، فلا تهتموا بي كثيراً و اهتموا بأسر الشهداء و المعتقلين فهم أولى مني و من أهلي" .
و لأنه لا يريد سوى مرضاة الله و جنته فقد عمل الشهيد البطل بصمتٍ في الخفاء مستعلياً على شهوات النفس و الأضواء و وسائل الإعلام مما زاد في قدرته على المواجهة و إفشال عمليات الاستفزاز و الاستدراج . و كلّ ذلك يفصح عن وعي عميق بطبيعة المعركة و متطلباتها و عن التجرد و الإخلاص للهدف و القضية ، و لئن أحبّ يحيى العمل الجهادي بطريقة عاصفة ملكت عليه كل جوارحه مؤثراً أن تتحدث عنه أعماله لا أقواله باعتبار أنه يمثل حركة و تاريخاً و ليس نفسه فقط إلا أنه لم يكن يحب تضخيم الأمور و دوره و يرجع الفضل دائماً إلى ربّ العزة سبحانه مردداً و بشكلٍ دائم الآية الكريمة : "و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى" .
ثانياً : السرية و الكتمان :
يعدّ هذا الأمر من الأمور البدهية في حياة المهندس و أبجدية مهمة من أبجديات العمل استهداء بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان" ، فقد عمل المهندس و كتائب الشهيد عز الدين القسام بطريقة سرية منظمة جعلت من مخططات أجهزة الأمن و الاستخبارات الصهيونية لاختراق بنية الجهاز العسكري و محاولات رصد عملياته قبل وقوعها أمراً في غاية الصعوبة . فالجهاد مرصود و إجهاضه استراتيجية صهيونية و عالمية خاصة بعد أن أصبح الإسلام هو العدو الأول لمعسكر النظام العالمي الجديد أو "الأجد" ، و أدواته في حالة الشهيد القائد تتجاوز طبيعة السرية و الكتمان الحدث الطارئ أو الحاجة الآنية لتصبح خلقاً راسخاً و عادة متمكّنة .
ثالثاً : التخلّص من أعين الأعداء :
إن براعة المهندس الفائقة "بفضل الله و رعايته" في مواجهة مطارديه و عبقريته في التخفّي و المراوغة و الإفلات من الكمائن التي كانت تنصب له من قبل عدة آلاف من جنود الوحدات الخاصة المختارة من الجيش الصهيوني و قوات حرس الحدود و الشرطة بالإضافة إلى عدة مئات من أفراد جهاز المخابرات العامة الشاباك و وحدات استخبارية عسكرية خاصة كلّفت بالمشاركة في أوسع حملة مطاردة تنظّمها الدولة العبرية في تاريخها جعلت ملاحقيه يطلقون عليه لقب "العبقري" و "كارلوس الثعلب" و "الرجل ذو ألف وجه" ، و ينسبون إليه صفات الرجل المقدّس و الإنسان الذي يمتلك سبعة أرواح و من يرى و لا يُرى و هي أمور حاولت أجهزة الأمن و الاستخبارات الصهيونية إخفاء عجزها وراءها ، فقد بحثت سلطات الاحتلال عن المهندس طوال أربع سنوات و خلال تلك المدة استمر القائد في عملياته بدون توقّف أو هدوء فجنّد الخلية تلو الأخرى و بعث فيها روح المبادرة و النشاط بعد كلّ ضربة كان الصهاينة يوجّهونها للمجموعات الجهادية و بعد كلّ عملية تعترف سلطات الاحتلال بأن حتى أخباره تختفي اختفاء متقناً مما أصاب قيادة الشاباك في حيرة إزاء لغز المهندس .
و إن نجاح المهندس في الوصول إلى قطاع غزة يعتبر في حد ذاته ضربة قاسية للكيان الصهيوني جعلت إسحاق رابين في اجتماع القيادة المشتركة للأجهزة الأمنية الصهيونية يضرب الطاولة بغضبٍ شديد مطالباً بتفسيرات واضحة حول الكيفية التي استطاع المهندس خلالها أن يتجاوز آلاف المخبرين الصهاينة الذين كانوا يطاردونه و تضليل أجهزة الأمن الصهيونية .
رابعاً : جهاد .. نصر أو استشهاد :
البعد الآخر في شخصية يحيى عياش أو المهندس يتمثّل في إصراره على مواصلة العمل و النشاط و استعداده الدائم للاستشهاد و الموت في سبيل الله و رفض الخروج أو الهرب خارج فلسطين المحتلة على الرغم من إمكانية ذلك ، فالرجل الذي أرعب قيادات الاحتلال و جنوده و مستوطنيه و جعلهم يحفظون صورته عن ظهر قلب و يعلّقونها في مكاتبهم ، كان يدرك أن لكلّ أجلٍ كتاب و كان هذا الإدراك بمثابة زادٍ لهذا المؤمن المجاهد على مواصلة الجهاد و توريث خبرته و علمه لإخوانه ، و لهذا كان وجه يحيى يحمرّ غضباً حين يحدّثه إخوانه عن مغادرة الوطن لفترة و يردّ عليهم "مستحيل فقد نذرت نفسي لله ثم لهذا الدين إما نصر أو استشهاد ، إن الحرب ضد الكيان الصهيوني يجب أن تستمر إلى أن يخرج اليهود من كلّ أرضِ فلسطين" .
عياش يحجّ إلى دار الله الحرام :
بعد أن سقط عياش مدافعاً عن دينه و عقيدته فإنه لا زال يعيش في قلوب الملايين ، فقد قال شاب مسلم رفض الكشف عن اسمه أو هويته : إنه أدّى فريضة الحج لعامٍ ماضٍ عن الشهيد "يحيى عياش" و صرّح الشاب آنذاك قائلاً إنه عزم أمره "هذا العام على الحج - ليس عني أو عن والديّ - ؛ فقد سبق أن أديناها جميعًا بفضل الله تعالى ، و لكن بعد الاستخارة و استشارة العلماء أحرمتُ بالحجّ ملبيًا : لبيك اللهم حجًا عن يحيى عبد اللطيف عياش" . و أضاف أنه فعل ذلك لأن أعداء الأمة يغيظهم أن يبقى ذكر الشهداء على الألسنة و سيرتهم تتناقلها الأجيال ، و لكي يعلموا أن الأمة لن تنسى شهداءها الأبرار ، و أنهم سيبقون مشاعل مضيئة مهما تعاقبت الأيام و السنون . و أكّد المتحدث أن الحج عن يحيى عياش إنما يؤكّد "أن أبناء أمتنا ماضون على نهجهم في مقاومة اليهود المحتلين بكلّ الوسائل المتاحة ، و أن جهاد الشهيد عياش لم ينقطع و لم يتوقّف و أنه لم يمت بل ما زال حيًا ، و سيبقى ذكره حيًا كعزّ الدين القسّام تتعطر به المجالس و تنتعش به الآمال و ترتعد لذكره فرائص الأعداء". و قال الشاب : "هذا الدين قام على أكتاف الشهداء ، منذ أيام الصحابة و حتى قوافل الشهداء الذين خضّبوا بدمائهم الزكية أرض الإسراء و مهد الأنبياء مع إخوانهم في سائر بقاع الأرض من البوسنة و الهرسك و كوسوفا غربًا إلى أفغانستان و كشمير و الفلبين و الشيشان شرقًا .. و ستبقى بوصلتها متجهة نحو القدس لتعود طاهرة في يومٍ نراه قريبًا" ، و شدّد على أنه يرفض الكشف عن اسمه ، لأن الحج عن يحيى عياش "ليس ضربًا من المستحيل ، و لأنني أطمع أن يبقى ذلك بيني و بين الله عسى أن يجمعنا مع الشهداء في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر" .. حسب تعبيره .
عذابات من أجل اللقاء :
"ما زلت أحتفظ بكلّ الرسائل العائلية ليحيى عياش المكتوبة بخطّ يده في مكان آمن رغم مرور ما يزيد عن ستة سنوات على استشهاده" .. هذا ما أكدته هيام عيّاش زوجة الشهيد يحيى عياش التي شاركته مغامرات مطاردة جيش الاحتلال له في الضفة الغربية و قطاع غزة ، و نجحت في اجتياز العديد من الحواجز العسكرية متنكرة و متنقلة من بيت لآخر لتعمي الشاباك عن أخبار زوجها ، فزوجة المطارد مطاردة مثله . .
رسائل عياش :
لا شك أن كلّ امرأة تتلقّى خبر جهاد زوجها بشيء من الخوف و الفزع في البداية و تبدأ الهواجس تصوّر لها زوجها و قد تحوّل إلى أشلاء متناثرة و لكن سرعان ما يتبدّد الفزع و يتحوّل إلى فخرٍ و شعور بالأمان و الطمأنينة لأن زوجها متعلّق بالله .. و حول ذلك تقول عياش : "منذ الأيام الأولى لحياتي الزوجية كان يأتي يحيى إلى المنزل و ملابسه متسخة بالوحل و التراب و عندما أسأله عن سبب ذلك ، فكان لا يردّ عليّ ، بل كان ينصحني أن لا أسأله عن شيء ، و فعلاً استجبت لنصيحته لأني على ثقة بأخلاقه و التزامه بمبادئ دينه حتى جاء اليوم الذي حاصر جيش الاحتلال المنزل ليعتقل يحيى ، و لكنه لم يكن في المنزل ، و عندما شعر أني خائفة كثيراً صرّح لي بطبيعة عمله و خيرني بين مواصلة طريق الجهاد أو الانفصال عنه .
أما عن أهم الأمور الأمنية التي أتقنتها زوجته فقالت : "يجب أن لا أسأل أين سيذهب زوجي أو من أين أتى لأن معرفتي بأي معلومات عن زوجي ستعرّض حياتي و زوجي للخطر خاصة أنني كثيراً ما تعرّضت للتحقيق من قبل المخابرات الصهيونية ، و أن لا أسأل عن أسماء الأخوة المجاهدين الذين يتردّدون لزيارة زوجي أو من أسكن في بيتهم و إنما أكتفي بمعرفة كنيتهم فقط و أن لا أتفوّه بأي كلمة و لو كانت مزحاً لأحد . حتى ولدي الصغير براء عندما كان يخرج ليلعب مع أولاد صاحب المنزل الذي يستضيفنا كان يعرّف نفسه باسم (أحمد) بالإضافة إلى التأكد من هوية من يحمل رسالة زوجي و أنها بخطّ زوجي حيث اعتاد عياش أن يرسل الرسائل بخطّ يده" . و أكدت عياش أنها ما زالت لغاية اليوم تحتفظ بجميع رسائل زوجها في مكان آمن يصعب على قوات الاحتلال و مخابراته العثور عليها رغم مرور ما يزيد عن 5 سنوات على استشهاده .
حلاوة الجهاد :
و أما عن كيفية ملاحقة جيش الاحتلال لأسرة المهندس قالت زوجته هيام عياش : "مكثت في بيت عمي في بداية فترة مطاردة يحيى ، اختفى كثيراً عن أنظار الجيران حتى إذا ذهبت لزيارته لا يشكّ بذلك أحد ، و قبل ذهابي إلى غزة أرسل إليّ يحيى رسالة مكتوبة بخط يده الذي أميّزه من آلاف الخطوط يشاورني في إمكانية مغادرتي الضفة الغربية و تشاورت في الأمر مع والدي عياش ، و بعد ثلاثة أيام جاء أحد الإخوة المجاهدين ليحمل رسالتي إلى يحيى و عادة ما تكون مكتوبة بخطّ يدي حتى يتيقّن من مصدرها رغم ثقته الأكيدة بالشاب الذي يحمل الرسالة ثم أرسل إليّ الشاب ثانية و معه الخطة و كلمة سر جديدة أتأكد من خلالها من هوية الشاب الذي سيصطحبني إلى غزة" . و أضافت عياش : "و في الوقت المحدّد وصل الشاب و الذي طرحت عليه كلمة السر المتفق عليها لأتأكد من هويته ثم ركبت أنا و والدته و ابني براء السيارة المخصّصة لنا و بصحبة شاب كان يحمل معه العديد من البطاقات الشخصية المزيفة ليسهل علينا دخول الحواجز ، ففي كلّ حاجز صهيوني ندخل باسم مستعار و بسيارة أخرى غير السيارة الأولى حتى نعمي على جنود الاحتلال أخبارنا ، كما أن الشاب كان يمتلك قدرة فائقة على التنكر حسب شكل الصورة التي كانت تحملها البطاقة الشخصية التي سيخترق من خلالها الحاجز . أما أنا و والدة الشهيد فقد كان الأمر سهل علينا لأن جيش الاحتلال عادة لا يدققون كثيراً بصور النساء . و من ثم انتقلت إلى بيت أحد المجاهدين لأقضي فيه ليلة واحدة و من ثم انتقلت إلى بيت آخر و هكذا حتى يتم التأكد من عدم خضوعي للمراقبة من قبل المخابرات الصهيونية أو أن أحداً شكّ بوصولي إلى غزة و بعدها قابلت زوجي في بيت أحد المجاهدين و لكنه لم يكن يمكث عندنا في الأسبوع سوى ساعات معدودة ثم يخرج دون أن أعلم إلى أين مقصده ، فحياة المطاردة و إن كانت مليئة بالأخطار فهي تمتاز بحلاوة الجهاد التي لا يمكن لأحد أن يتذوّقها غير المجاهد" .
أيام في غزة :
و حول أهم المغامرات التي عاشتها في هذه الأيام قالت : "قضيت معظم أيام مكوثي في غزة مطاردة أتنقل من بيت لآخر و لا أمكث في أحدهم أكثر من أسبوع و دون أن أشاهد أحداً أو يراني أحد من زوار أهل البيت حتى لا يشكّ في وجودي ، و لا أنام إلا و عدد من القنابل اليدوية فوق رأسي و سلاحي بجواري و خاصة أنني كنت أتقن استخدامه و أتقن كيفية تحديد الهدف ، فحياتنا معرّضة للخطر في كل لحظة ، و المنزل معرّض لمداهمات جيش الاحتلال حتى يستخدمني وسيلة للضغط على زوجي" .. و أضافت عياش : "بينما أنا في منزل أحد المجاهدين لاحظ أهل البيت وجود مراقبة حول البيت و وصلت تعليمات من الكتائب أن أحد العملاء يحوم حول المنزل فاضطررت أن أختفي أنا و ولدي براء عن جميع أنظار أهل البيت و أحكم إغلاق الغرفة عليّ لمدة أسبوع تقريباً ، لا أرى أحداً من البشر غير زوجة المجاهد التي كانت تحضر لي الطعام و لا تمكث معي أكثر من ربع ساعة و خلال هذه الفترة اقتحم مجموعة من جيش الاحتلال المنزل للقبض على المجاهد و كانت ساعة عسيرة لم أتعرّض لمثلها من قبل رغم أني اجتزت العديد من الحواجز العسكرية و اضطررت أن أختبئ و ولدي في داخل الخزانة و أن أحكم إغلاقها علينا ، و الغريب أن براء الذي لم يتجاوز الأربع سنوات كان واعياً لحجم الخطر الذي يهدّد حياتنا و حياة والده و بدلاً من أن أهدّئ من روعه حتى لا يخرج صوتاً ، وضع يده على فمي حتى لا أتفوّه بأي كلمة واحدة . و كم شعرت بالفخر بوليدي ، و أنه حقاً يستحق أن يكون ابناً لمجاهدٍ و بطلاً مثل المهندس يحيى عياش" .
ألف ألف عياش :
"إذا قتِل يحيى عياش فأنا يحيى عياش و عندما أكبر سأصبح مهندس متفجرات و أنتقم لأبي" .. هذا ما بادرنا به الحديث الطفل يحيى يحيى عياش الذي ولد في الوقت الذي استشهد فيه أباه ليكمل مشواره و كأن إرادة الله أرادت أن يبقى يحيى على وجه الأرض . و الأمر لا يختلف كثيراً عند ولده البكر براء الذي عاش معاناة حياة مطاردة جيش الاحتلال لأبيه و مطاردته لهم و بدا شاباً يعي الأمور الأمنية و حجم الخطر الذي يلاحق أباه فكبر عقله و وعيه أكثر من سني عمره لذلك لم يكن غريباً عليه أن يقول لنا : "أنا لست حماس ، بل أنا من كتائب عز الدين القسام و سأعمل مهندساً مثل أبي أفجّر و أمزّق أجساد اليهود و سأحرم الذين حرموني من أبي من أبنائهم" . هكذا هم أطفال شهداء القسام سائرون على درب آبائهم .
عمليات الثأر:
بعد استشهاد المهندس لم يكن بوسع كتائب القسام أن تترك هذا العدوان الصهيوني دون ردّ خاصة و دماء جوهرتها الثمينة تنزف على أرضِ غزة ، فبعد خمسين يوماً بالضبط من استشهاد المهندس ، و في الخامس والعشرين من فبراير 1996 بدأت سلسلة هجمات استشهادية في القدس و المجدل و بعد أسبوع في القدس و "تل أبيب" ليسقط في هذا الأسبوع القساميّ ما يقرب من ستين قتيلاً صهيونياً عدا عشرات الجرحى ، و بادرت على إثرها قوات الاحتلال الصهيوني إلى هدم منزل المهندس و تشريد أهله من بيتهم في رافات ، و فيما يلي قائمة بعمليات الثأر القسامي للمهندس :
- عملية الحافلة 18 الأولى : بعد خمسين يوماً من عملية الاغتيال الجبانة بحقّ القائد البطل يحيى عياش قائد مجموعات الاستشهاديين في كتائب عز الدين القسام تمكّن المجاهد البطل مجدي محمد أبو وردة في يوم 25/2/1996 من صعود الحافلة التي تعمل على خط رقم 18 المؤدّي لمقر القيادة العامة لكلّ من الشرطة الصهيونية و جهاز المخابرات العامة (الشاباك) ، و كان المجاهد يرتدي ملابس الجنود الصهاينة و يحمل نحو 15 كغم من المتفجرات الممزوجة بكمية كبيرة من المسامير و القطع المعدنية الحادة ، و في نحو الساعة السادسة و 48 دقيقة فجّر الشهيد أبو وردة المتفجرات أثناء توقف الحافلة عند إشارة مرورية مما أدّى إلى تدمير الحافلة المكوّنة من مقطورتين بالكامل و انشطارها إلى نصفين و احتراق جزء منها كلياً . كما تحطّمت عدة سيارات كانت تقف بالقرب من الحافلة و تضررت حافلة أخرى تعمل على خط رقم 36 كانت تقف وراء الحافلة التي استهدفتها العملية البطولية .
و قد أسفرت العملية عن مقتل 18 صهيونياً بينهم 13 جندياً و عدد من ضباط و كوادر الشاباك الذين كانوا في طريقهم إلى مقر عملهم بالإضافة إلى إصابة أكثر من 50 صهيوناً بجروحٍ و حروق مختلفة حسب الإحصاءات الصهيونية .
- عملية عسقلان : بعد أقل من 45 دقيقة من ملحمة البطل مجدي أبو وردة ، و فيما كانت الساعة تشير إلى السابعة و النصف ، أوصلت مجموعات الإسناد في كتائب الشهيد عز الدين القسام البطل إبراهيم حسن السراحنة الذي كان يرتدي أيضاً زي الجنود الصهاينة و يحمل حقيبة احتوت على خمسة عشر كيلو غراماً من المتفجرات المحشوة بالمسامير و الكرات المعدنية إلى محطة سفر الجنود الصهاينة عند مفترق الطرق في مدينة عسقلان حيث تقدّم المجاهد القسامي و دخل إلى المحطة التي كان فيها أكثر من 35 جندياً و مجندة ، و قد فجر البطل نفسه وسط مجموعة الجنود مما أدّى إلى مقتل 3 جنود صهاينة و إصابة ثلاثين صهيونياً بجروحٍ وصفت جراح 19 منهم بالخطيرة .
- عملية الحافلة 18 الثانية : "إننا نغرق في الرعب" .. بهذه العبارة استقبل الشارع الصهيوني العملية الثانية التي نفّذها البطل رائد عبد الكريم الشغنوبي في الحافلة العاملة على خط 18 للمرة الثانية خلال الأسبوع . ففي يوم الأحد 3/3/1996 ، فجّر المجاهد عبواته الناسفة داخل الحافلة بعد أن تجاوز إجراءات الأمن و المراقبة الشديدة التي فرضت من قبل الشرطة و حرس الحدود بعد عمليتي البطلين السراحنة و أبو وردة ، و دمّر الانفجار الحافلة و تطاير حطامها في دائرة قطرها خمسين متراً تقريباً ، و أعلن المتحدث الرسمي باسم الشرطة العسكرية عن مقتل 19 صهيونياً بينهم 3 جنود و جرح 10 آخرين كانت جروح 7 منهم بالغة الخطورة .
- عملية ديزنغوف : و بعد أيام قليلة من عملية البطل الشغنوبي و أثناء احتفال الصهاينة بأعيادهم المزعومة فجّر المجاهد رامز عبيد عبوة ناسفة كان يحملها وسط ساحة ديزنغوف في "تل أبيب" مما أدّى إلى مقتل 13 صهيونياً و إصابة العشرات بجراح .
أحد تلامذة المهندس الأسير البطل "عبد الناصر عيسى"
إنه جنرال الكتلة الإسلامية المعتقل القسامي عبد الناصر عيسى .. قيادي من الطراز الأول ، حقد على الصهاينة و تمنى الشهادة دائماً .. (إن الموضوع يتعلق بأناس يملؤهم الحماس الديني ، إنك تحوّل من تشاء إلى عبدٍ بالعطايا أو المال أو النساء و لكن كيف ستغري إنساناً يرى في عالمنا مجرّد ممر و ليس مقرّ ، فهو سيحصل على كلّ المنح كمجاهد في سبيل الله ، لذلك لا عجب أن يتفاخر أعضاء حماس برجالهم) ، بهذا التعليق تكلّم الصحافي الصهيوني "تسفي غيلات" عن رجال حماس .. و المعتقل عبد الناصر عطا الله عيسى هو أحد هؤلاء الرجال بل هو أحد قادتهم و أمرائهم ، فقد قدّم هذا الرجل في سبيل وطنه و دينه أغلى ليالي و أيام عمره مستقبلاً حكمه بابتسامة هادئة ، ففي محاكمته نطق القاضي بالحكم و هو يضحك ، فلأول مرة يحكم على شخصٍ "مدى الحياة مرتين" و عندما تم الاعتراض على الحكم قال القاضي (بعد انتهاء مدى الحياة الأولى تبدأ مدى الحياة الثانية) ..
أكمل عبد الناصر عيسى دراسته الجامعية في جامعة النجاح الوطنية بنابلس ، و انخرط في صفوف العمل الإسلامي و الوطني في الجامعة ليصبح بعد فترة أمير الكتلة الإسلامية المحسوبة على حركة حماس ، و هكذا كان عبد الناصر ناشطاً في عمله لدينه و وطنه و متفوقاً ذكياً في دراسته . تعرّض عبد الناصر للاعتقال من قبل سلطات الا
سأحيا بالكرامة يارفاقي وأسحق دائماً أهل النفاقِ
سأمضي في طريقي نحو عز ولو قطع العدا كفي وساقي
سأمضي للشهادة في ثبات فإني والمنية في سباق
وأقصى غايتي إرضاء ربي ونيل الفوز في أعلى المراقي
رحمة الله تعالى
,