خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابُه إلى مكة يريد العمرة ، وذلك زمن الحديبية ، حتى إذا دنَوا من مكة قالت عيون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين بثـَّهم يستطلعون له الطريق : إن خالد بن الوليد ـ وكان كافراً ـ يجول بمئتي فارس من فرسان قريش في منطقة قريبة من المسلمين تُدعى (( الغميم )) ، فتابع المسلمون السير وراءهم حتى أدركوا مؤخّرتهم ، فأحسَّّ بهم خالد ، فأسرع بفرسانه يركض نذيراً لقريش .
وسار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمسلمين ، فقال : (( مَنْ يخرجنا من هذا الطريق الذي ساره فرسانُ مكة تحسّباً لكمين قد ينصبه المشركون ؟)) ، فقال رجل من أسلم : أنا يا رسول الله .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( خذ بنا عن يمين الطريق إلى سِيف البحر )) ، فسلك بهم طريقاً وعراً أوصلهم إلى أرض سهلة ، فقال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( استغفروا الله )) ، ففعلوا .
قال - صلى الله عليه وسلم- : " والذي نفسي بيده إنها لـَلحِطّة التي عرضت لبني إسرائيل فامتنعوا ". قال المسلمون: الحمدلله الذي هدانا لطاعته، فلما دنـَوا من مكة بركت القصواء راحلة الرسول - صلى الله عليه وسلم- فألحّ المسلمون عليها أن تتابع المسير، فقالوا لها ما يقال للناقة إذا بركت: " حَل حَل " فأبت أن تقوم فقالوا: خلأت القصواء وحَرَنت، وهذا من عادة النوق.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- : " ما خَلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق ولا اعتدنا منها هذه العادة، ولكن حبَسها الله عزّ وجلّ عن دخول مكة، كما حبس الفيل عن دخولها " .
قصة الفيل معروفة مشهورة ذكرها الله تعالى في سورة الفيل مطلعها ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) . . . ).
ولعل الناقة حين بركت وتوقف المسلمون بتوقفها كان ما فعَلته خيراً للمسلمين، فلو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدّتهم قريش لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، كما كان حين دخل الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين أنه سيدخل في الإسلام خلق كثير، وسيخرج من أصلابهم من يوحد الله ويجاهد في سبيله.
كما أن بمكة جمعاً كثيراً من المؤمنين المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فلو دخل المسلمون مكة وجرى قتال فقد يصيب هؤلاء المؤمنين المستضعفين بأيدي المسلمين ما يسوءهم كما قال الله تعالى في سورة الفتح الآية 25 : ( وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ . . . ).
وأقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن المشركين إذا سألوه خصلة فيها تعظيم لحرمات الله فليجيبنّهم إليها، ألم يقل - صلى الله عليه وسلم- : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ؟!.
ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- زجر الناقة فوثبت، فرجع بها حتى نزل بأقصى الحديبية على حفيرة فيها ماء قليل، لا يُتناول إلا بالكفين لقلّته، فشرب منه بعضهم حتى انتهى، أما جلّ الناس فقد افتقدوا الماء، فدعا بدلو فتوضأ منه ثم أفرغ وضوءه في العين وانتزع سهمه صلى الله عليه وسلم فوضعه فيها، ودعا الله تعالى ، ففارت الماء وتدفقت حتى ارتوى الناسُ ، وملأوا آنيتَهم ، وصدروا عن الماء وهو كثير ينبع لا يتوقف .
وبينما هم على ذلك إذ جاء بُديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه فيهم المسلم والمشرك ، وكلهم ناصحون للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد كانت بنو خزاعة وبنو هاشم أحلافاً في الجاهلية ينصح بعضهم بعضاً ، واستمروا على ذلك في الإسلام.
فقال بُديل : يا رسول الله لقد غزوتَ ولا سلاحَ معك فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لم نَجئ لقتال ، وليس معنا إلا السيوف في أغمادها )).
قال بُدَيل : ولكنَّ قريشاً نزلت في الحديبية على آبارها ، وتركت لكم هذه الحفيرة يريدون لكم أن تعطشوا ، ويهيئون أنفسهم لقتالكم رجالاً وعدة وعتاداً.
قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ولكنَّ الله تعالى أمدَّنا بالماء الوافر ، فهذه الحفيرة صارت نبعاً يروي المسلمين جميعاً . ولم نجئ للقتال ، ولكننا إن أرادوا قتالاً جالدناهم )).
قال بُدَيل : يا رسول الله لقد أقسموا أن يدافعوا عن مكة ، ولا يظنون إلا أنك مقتحم عليهم.
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( جئنا عمّاراً للبيت العتيق يا بُديل . . . وإن قريشاً نهِكتهم الحربُ ، وأضرَّت بهم ، فإن شاءوا مادَدْتُهم مدَّة ( هادنتهم ) ويُخلُّوا بيني وبين الناس من العرب أدعوهم إلى الإسلام ، فإن ظهر غيرهم عليَّ كفَوْهم مؤنتي ، وإن أظهرْ على العرب فَأسُودَهم فلهم الخيار ، إن شاءوا تابعوني كسائر العرب ، وإلاّ فما تنقضي مدة الصلح إلا وقد استراحوا وتهيأوا لحربي ، وبهم قوة.
أمّا إذا أبوا مصالحتي ومهادنتي فليس أمامهم سوى القتال حتى ينصرني الله عليهم أو أقضيَ شهيداً . وإني على يقين أن الله تعالى ناصرني عليهم وخاذلهم )) . يا رسول الله صلى الله عليك ، ما أعظم ثقتك بربك سبحانه !!
قال بُديل : يا رسول الله سأبلغهم ما تقول فأذن لي.
قال : (( على بركة الله )).
فانطلق بُدَيل وقومه إلى الحديبية من الطرف الآخر ، حيث كان المشركون ، فقال لقريش : إنا قد جئناكم من عند محمد ، وسمعناه يقول قولاً معقولاً ، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا . قال سفاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء فانصرف.
وقال ذوو الرأي : هات ـ يا بُديل ـ ما سمعته يقول.
فحدّثهم بما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقام عروة بن مسعود – وهو من الطائف ، سيد بني ثقيف وحليف لقريش فقال : أيْ قوم ألستُم مني وأنا منكم ؟.
قالوا : بلى ، ومكانـُك فينا عظيم كريم.
قال : أتتهمونني في حب وولاء وسداد رأي ؟.
قالوا : لا ، فأنت في الصدارة منا حكمةً وفهماً .
قال : ألم آمر أهل عكاظ أن ينصروكم ، فلما أبَوا نَصَرْتُكُم بأهلي وولدي ومَنْ أطاعني ؟.
قالوا : صدقت أيها الشيخ ولا ننسى يدك البيضاء هذه .
قال عروة : فإن محمداً قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها منه ، وإن أردتم أن تستوثقوا من صحّة ما نقله بُدَيل فدعوني أذهب إلى محمد أتأكد من مقالته .
قالوا : افعل ما بدا لك ، لا نخالفك .
فانطلق عروة بن مسعود إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، يكلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والرسول الكريم يجيبه بما قاله لبديل . . . فلما تأكد عروة من صدق ما نقله بُديل التفت إلى الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا محمد إن للحرب إحدى نتيجتين : النصر أو الهزيمة. فإذا انتصرت على قومك واستأصلتهم فهناك العار والشنار على مدى الدهر . . إن العرب ستقول : إن محمداً أباد أهله وعشيرته ، وإذا كانت الهزيمة بدل النصر فهل هؤلاء الذين معك قادرون على الدفاع عنك وافتدائك بأرواحهم ؟!! إني لأرى أخلاطاً من الناس معك ، ولا أرى رجالاً ، وخليق بهم أن يفرّوا ويدعوك ، حين يحمى الوطيس وتَحْمَرُّ الحِدق . ( ما يقوله وقاحة واستفزاز للمسلمين مهاجرين وأنصاراً ).
وسمع المسلمون ما تقوّله وادّعاه فاشمأزّت النفوس مِن قالته وتجرأوا عليه .
وكان أكثرهم نفوراً منه أبو بكر رضي الله عنه ، فأجابه بما لم يكن يظن أن يسمعه . . ولكنّه يستحقه على سفاهته ، قال الصدِّيق : يا هذا ألست تدعي أن اللات التي تعبدها بنت لله ، وحاشا لله أن يكون له ولد ، فاذهب إلى اللاَّت وامصص بِظْرها (( وهي القطعة التي تبقى بعد الختان في فرج المرأة )) .
كان الجواب مقذعاً ، ولكنه شافٍ للنفس من سماجة هذا المدّعي . . ولكنْ أن تخرج هذه الكلمة من الصدِّيق الحيي اللطيف ؟! فهذا مؤشر على عمق الإساءة التي صدرت عن عروة بن مسعود هذا في حق المسلمين ـ وضحك المسلمون احتقاراً وازدراء لهذا الدعيّ المتطاول .
وقال عروة بعد أن وجم برهة لهذا الردِّ الذي لم يكن يتوقعه : مَنْ هذا الرجل الذي سبَّني ؟
قالوا : هذا الصدِّيق أبو بكر وزير الرسول الكريم . رضي الله عن الصديق صاحب رسول الله.
قال عروة : لولا أن لك جميلاً في عنقي ـ فقد ساعدتني في دية بعون حَسَنٍ ـ لرددت عليك ، ولكنْ هذه بتلك .
وكان عروة كلما كلم النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مدَّ يده إلى لحيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه السيف ، وعلى وجهه المغفر كلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضرب المغيرةُ يده بقائم سيفه وقال له : أخِّرْ يدك عن لحية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن لا تصل إليك ، فإنّه لا ينبغي لمشرك أن يمسّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ويقول عروة لهذا الواقف : ويحك ما أفظك وأغلظك !! .
فلما أكثر المغيرة من قرع يد عروة قال :
ليت شعري يا محمد من هذا الذي آذاني من بين أصحابك ؟ فوالله لا أحسب فيكم ألأم منه ولا أشرَّ منزلة . . .
فتبسَّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
فقال عروة : من هذا يا محمد ؟
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( هذا ابن أخيك ، المغيرة بن شعبة يا عروة )) .
قال عروة بن مسعود : بئس الابن أنت ، أحسنتُ إليك ، وأسأت إليَّ ! ثم التفت إلى ابن أخيه المغيرة فقال :
ألم تخرج إلى مِصْرَ مع ثلاثة عشر من ثقيف زائرين المقوقس ، فأحسن إليهم وأعطاهم أكثر مما أعطاك ، فغِرتَ منهم ، فلما كانوا بالطريق شربوا الخمر وسكروا ثم ناموا ، فوثبتَ عليهم وقتلتهم وحملتَ أموالهم ولحقت بمحمد في يثربَ ؟!!
إنني أنا الذي دفعتُ ديتَهم وما سلبتـَه منهم ، وحقنتُ دماءنا ودماء بني ثقيف .
والتفت بعد ذلك إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أما الإسلام يا عروة فقد قبلته منه ، فالإسلام يجبُّ ما قبله وقد حَسُن إسلام ابن أخيك .
وأما المال في الجاهلية فليس لنا أن نسأل عنه : إنما يكون هذا في الإسلام )) .
وأراد المسلمون أن يردّوا عملياً على تخرصات عروة حين قدح فيهم وذمَّ فقال : (إنهم أخلاط ، يفرون من اللقاء . . . لا كرام فيهم )، فما وقعت نخامة أو رذاذ من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في يد أحدهم حتى دلك بها يديه ومسح بها وجهه تبركاً بها .
وما سقطت شعرة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بادروا إليها يحفظونها في ثيابهم ، ولا توضأ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بادروا إلا وضوئه يمسحون به وجوههم وجلودهم ، وإذا تكلموا بحضرته خفضوا أصواتهم ؛ ولا يديمون النظر إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعظيماً له .
فرجع عروة إلى قريش فقال : يا قوم ، لقد وفدْتُ على قيصر وكسرى ، والنجاشي ، فلم أر مليكاً قط يعظمه أصحابـُه ما يعظم أصحابُ محمدٍ محمداً ، وقصَّ عليهم ما رآه من المسلمين في حق النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ثم قال عروة : إن محمداً قد عرض عليكم ما فيه خير وعدل وإنصاف ، فاقبلوها منه .
لانت قناة المشركين لِما سمعوه من عروة في وصف المسلمين وهابوا لقاءهم ، خاصة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاء معتمراً لا يريد حرباً . . كما أن دينه يعظم بيت الله الحرام ، الذي سيبقى قبلة العرب ، وستبقى لهم المكانة العالية ، فهم سدنته .
قال رجل من بني كنانة يدعى الحُليس بن علقمة : دعوني أستجلي الخبر ، قالت قريش : لك ذلك ، فانطلق . . وكان الرجل ممن لا يرضون أن يُصَدَّ أحد عن زيارة بيت الله ، ورآه المسلمون قادماً ، فلما عرفوه قالوا : هذا أمره سهل أرسلوا عليه الهدي . . فلما رآى الهِدْيَ يسيل في الوادي عادَ إلى قريش وهو يقول :
والله إنهم عمّارٌ لبيت الله وليسوا محاربين ، ومن الظلم أن تصدوا مَنْ قَصَدَ بيت الله ،،، يا معشر قريش ما على هذا عاقدناكم .
قالت قريش : كفّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى .
قال حليس : والله لا أكون معكم ، وعاد إلى مكة .
ثم جاء سهيل بن عمرو يفاوض المسلمين . . وكان ما كان من صلح الحديبية .
يا أصحــاب رسول الله أنتــم رهبــان الـليـــلِ
أمّا في الحرب الدهماءْ فـتــدفُّقُ مـاءِ الســيــلِ
أنـتـم نــور لـلأجــيــالْ يـهـدي للـحقِّ الأمـثـلْ
أنـتـم صخرٌ بَلْهَ جـبـال ثَبَّتتِ الدين الأكملْ (1)