بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ؛ مع اللِّقاء الثاني من دروس الحج ، ففي اللِّقاء الأول تحدَّثنا عن آداب السَّفر ، والحج سفر إلى الله عز وجل ، ورِحْلةٌ روحِيَّة إلى الله تعالى ، وفي هذا اللِّقاء الحديث عن أركان الحج ، بهذا سَنَدْخل في صميم مناسك الحج .
أنتم لا يعْنيكم أركان الحج عند أبي حنيفة وعند الشافِعي ، فَكُلُّ حاجٍ عليه أن يؤدي الأركان والسُّنن والشروط ، فأركان الحج عند أبي حنيفة الوُقوف بِعَرَفة ، وطواف الإفاضة ، فهي عنده رحمه الله تعالى رُكْنان ، والشيء الذي يُؤْلِمُ ألَماً كثيراً أنَّ حُجاجاً كثيرين عادوا إلى أوطانهم ولم يَطوفوا طَواف الإفاضة .
يا أيها الإخوة الأكارم ، إنَّ هذه العِبادة هي عِبادة العُمْر ، وهي فيه مَرَّة واحدة وهي من أرْقى العِبادات ، فلا بدَّ من أن تتَفَقَّهَ في مناسِكَها وشُؤونها ودقائِقِها ، وهي عند الإمام الشافِعي الإحْرام ، والوُقوف بِعَرَفَة ، والطواف ، والسَّعْي ، والحَلْقُ أو التَّقْصير ، والترتيب بين الإحرام والوقوف والطواف ، فإذا قلنا : عند الشافعي سِتَّة ، وعند أبي حنيفة اثْنان ، فَكَيْفَ نُوَفِّقُ بينهما ؟ فهذه الأربعة تنْقلب عند الإمام الحنفي إلى واجِبات ، فكما قُلْتُ قبل قليل : لا يعْنيكم هذه الخِلافِيات فلا بُدَّ أن تُحْرِموا وتَقِفُوا بِعَرَفة وأن تطوفوا وأن تَسْعوا وتُحَلِّقوا أو تقْصروا ، وأن تطوفوا طَواف الإفاضة ، إذاً نحن نَدْخل الآن إلى صميم الدَّرْس .
أوَّلُ شيءٍ ؛ هو الإحْرام ، وفي الحقيقة من الأخْطاء الشائِعَة عند بعض الحُجَّاج أنَّهُ بِمُجرَّد أن يخْلع ثِيابه ويرْتدي ثِياب الإحْرام ، يظُنُّ أنَّهُ قد أحْرم ، لو تَصَوَّرْنا أنَّ إنْساناً دخل الحمام وخلع ثِيابه واغْتَسَل وارْتَدى مناشِف ليتنَشَّفَ بها فهل أحْرم ؟ فالإحْرام ليس هذا ، لكنَّ الإحْرام أساسه نِيَّةُ الحجّ والدُّخول فيه ، لأنَّ الحجَّ عِبادةٌ عظيمة ، فإذا بدَأْتَ بِها كان عليك إتْمامها لِقَوْل الله عز وجل
[ سورة البقرة ]
فهي عِبادة من أرْقى العِبادات ، فَبِمُجَرَّد أن تبدأ بها عليك إتْمامها وهناك تَلْبِية خاصَّة فيما إذا كان الحاج أصابه أمْرٌ قاهِر ، كما حصل في العام الماضي ؛ أُناسٌ كثيرون ما تمَكَّنوا أن يَقِفوا في عَرَفَة ، فما حُكْمهم ؟ بعد قليل نَصِل إلى هذا الموضوع .
فالإحرام نِيَّةُ الحجّ والدُّخول فيه ، وليس هو مُجَرَّدَ خَلْعِ الثِّياب ، ولُبْس الإزار والرِّداء ، وثمة مُلاحاظات ، فَبَعْضُ الحُجاج يحْرِمون من بُيوتِهم ، وهذا جائِز ، إلا أنَّني لا أنْصَحُهُم أن يفْعلوا هذا ، لأنَّك إذا أحْرَمْتَ من بيْتِك ، ولِسَبَبٍ قاهِر لم تتمَكَّن من السَّفَر ، فأنت مُحْرِم ، وتُطَبَّق عليك كُلّ مَحْضورات الإحرام ، لذلك لا تُحْرِم إلا وأنت في الطائِرَة ، وهناك حُجاج أحْرموا ولم يتيسَّر لهم الحج ، فعادوا إلى بُيوتِهم ، وظنُّوا أنَّ الحج أُلْغي ، فالْتَقوا مع زوْجاتِهم ، وقد فعلوا كبيرة من كبائِر الحج ، إذاً لا تُحْرِم إلا وأنت في الطائِرَة ، من أجل أن تظْمن أنَّ الإقْلاع قد حصل ، لكن بالمناسبة هناك طَيَّارون لا يعْبَؤون بِمَناسِك الحج ، ولا يُبَلِّغونهم الميقات فأنا أنْصَحُكم نصيحة ثانِيَة ، وهي أن تُحْرِموا بعد نِصْف ساعة من إقْلاع الطائِرَة ، أما الإحرام الصحيح فهو بعد ساعة .
الآن نتحَدَّث عن الإحْرام من دمشْق ، أو من المدينة فهو واحد ، الإحرام أيها الإخوة له ميقات زماني وله ميقات مكاني ، فأما الميقات الزماني فهُوَ شَهْرُ شوال وذو القِعْدة وعَشْر ليالٍ من ذي الحجَّة ، ولا يَصِحُّ الإحرام قبل هذه الأشْهر ، ولا بعدها إذْ يكون الحج قد انتهى ، ولو أنَّه أحرم قبل هذه الأشهر كان إحْرامه عُمْرَةً ، أما الميقات المكاني فيخْتَلِف على حسب مَوْطن الحاج .
وبادِىء ذي بدْء ، لدينا حاج آفاقي وحاج مكِّي ، فَمَن كان بلده مَكَّة ، أو من كان مُقيماً بين مكَّة وبين حُدود الميقات ، فهذا الحاج ليس آفاقيًّا وله أحْكام خاصَّة ، ولكِنَّنا كُلُّنا حُجاج آفاقيون ، أي نقْطُن خارِجَ حدود الحرم ، فميقات إحرام الحاج أبيار علي إن كان من أهل المدينة ، والجُحْفة أو رابِغ إن كان من أهل الشام أو أهل المغرب أو مصْر ، وقرن المنازل إن كان من أهْل نجْد ، ويَلَمْلَم إن كان من أهْل اليمن أو تِهامة ، وذاتُ عِرْق إن كان من أهْل العِراق ، وقد قال العلماء : هذه الموقيت لِمَن كان بِها ، ولِمَن مرَّ بها ، فالصينيون إنْ جاؤوا من العراق فَميقاتهم كأهل العراق ، وأهل المغْرب إن جاؤوا من جهة الشام فميقاتهم كأهل الشام وهكذا .
وبالمناسبة هناك خطأ يُمْكن أن يقع فيه الحاج ؛ وهو حينما جمع أغراضه في المحافظ الكبيرة وضع المناشف مع هذه الأغراض ، وحينما أقْلَعَت الطائرة قال : أعْطونا المناشف هذه لا حلَّ لها ، إذا دَخَلْتَ منطقة الحرم وأنت غير مُحْرم يجب عليك الدمّ ، أما إذا دخلْتَ مُتَعَمِّداً فلا يصِحُّ حجُّك إطلاقاً ، فلو أنَّ غَنِياً قال : أنا لا أحبّ أن أرتدي لِباس الإحرام إذا دخلت مكَّة فماذا عَلَيَّ ؟ يقولون : عليك كذا وكذا ، فيقول : أنا أدفع ثلاث أضعاف ما تقولون ! فنحن نقول لِهذا الصِّنْف : لو دفعْت ألف مليون لما صَحَّ حجُّك ! فالذي يقصد الخطأ ويتعمَّده لايصِحّ حجُّه البتَّة ، أما الناسي والساهي فعليه دم فقط ، فالملاحظة المُهِمَّة أنَّ ثياب الإحرام يجب أن تكون في مِحْفظة اليد ، لا في محفظة الشحن .
وكما قلتُ قبل قليل يجوز أن يُحْرِم الآفاقي من بيته قبل الوصول إلى الميقات ، إلا أنَّ الأفضل الإحرام من الميقات ، والأحْوط قبل الميقات بقليل مثلاً ؛ كنت في رِحْلة للحج قبل عامين أو ثلاثة ، وَزَّعوا الطعام ، ووزَّعوا مناديل مُعَطَّرة ، ولم يتجَشَّم الطيار أن يُبَلِّغ الحُجاج أنَّ هذه المناديل توجِبُ عليهم هدْياً ! أقول لكم هذا الكلام ، هناك طيارون لا دين لهم ، ولا يعْرفون شيئاً من الدِّين ، لذا الأفضل الإحرام بعد نصف ساعة من إقلاع الطائرة حتى يتجنَّب المرْء الخطأ، أو أنَّ الطيار نَسِيَ أن يُذَكِّر بهذا .
فإنْ كان الحاجُّ مُقيماً بين حُدود الميقات وبين مَكَّة ، فإحْرامُهُ من قَرْيَتِه ومن مكان إقامَتِه ، أما إذا كان مُقيماً بِمَكَّة فيُحْرِمُ من بيتِه .
هناك حالة من الحالات ، وهي لو تجاوَزَ الحاجُّ الميقاتَ وهو يريد حجَّة أو عُمْرة ولم يُحْرِم ، فلهُ خِياران ؛ إما أن يعود إلى ميقات بلدِهِ وإما عليه الدَّم .
أمّا آداب الإحْرام ، فيُسْتَحَبّ إذا أراد الحاجُّ الإحرامَ أن يقوم بالأعْمال التالية :
أوَّلاً : الغُسل ، يغْتَسِلُ اغْتِسال الإحرام ، وغُسْلُ الإحرام سُنَّة ، حتى الحائِض والنُّفساء ، للذي معه زوْجَتُه بِإمْكلنها أن تفعلَ كُلَّ شيءٍ في الحجّ إلا الطواف والصلاة ، أما الإحْرام ، والتَّلبِيَة ، والوُقوف بِعَرَفة ، فإن لم يجِد الحاج فلْيَتَيَمَّم ، والغُسل أحبّ .
ومن لوازِم الغُسل اسْتِكْمال التَّنْظيف بالحَلْق ، وقَصِّ الأظافر ، والنَّتْف وقص الشوارب ، أي التنْظيف لا بدّ أن يكون كامِلاً ، من حلْقٍ العانة ، والإبِط ، وغَسْلِ الرأس بالصابون ، ونحوه ، هذه من سُنن الإحرام ، ثمَّ خلْعُ المخيط والمحيط ، فلو فَرَضْنا أنَّ هناك ثِيابًا ليسَتْ مَخيطة ، ولَكِنَّها مُحيطة فهي لا تجوز ، لكنَّ المنْشفة لو دَرَزْت الخيوط الخارجة منها شرْط أن تكون سائِبة فلا مانع ، أما المرأة فتَلْبسُ كُلَّ شيء ، بل حجّها يقوى كلَّما أكثرتْ من اللِّباس وتَسَتَّرَتْ .
والتَجَرُّد عن المَلْبوس المَحظور للمُحْرِم ، وأن يلْبِسَ رِداءً ، وهو ما يضعُهُ الحاج على كَتِفَيْه ، لِيَسْتُرَ به جُزْءَهُ الأعلى ، هناك مُلاحظة ؛ ثمّة حُجاجٌ كثيرون يَخْلعون هذا الرِّداء فما دام هناك حجاج وحاجات فهل من اللَّباقة ، ومن أدب الحاج أن يبْدُوَ أمام النِّساء عارِياً من قِسْمِهِ الأعلى ؟! فأنا أتمنى من إخواننا أن يكونوا في المُسْتوى الأعلى من الأدب ، لذلك فهذا الرِّداء يوضَعُ على الكَتِفَيْن ، ولك أن تجْمَعَهُ ، فأصبح الكتفان والظهْر والصَّدْر مُغَطّاةً بِهذا الرِّداء والإزار هو ما يسْتر به الحاج عَوْرته من سُرَّتِه إلى رُكْبَتيْه ، وكثيرٌ من الأشْخاص تَجِدُ الإزار تحت سُرَّتِه ، معنى ذلك أنَّ سُرَّتَهُ مَكْشوفة ، فلا بدَّ أن تضع الحزام بِقِسْمٍ عالٍ ، وينبغي أن يكون الإزار واسِعاً لِيَلُفَّ الحاج عِدَّة لَفات ، وينبغي أن يُباعِدَ بين قَدَمَيْه حينما يلُفُّه عليه ، أما إذا لَفَّهُ وهو متقارب القَدَمَيْن شَعَر بِصُعوبة الحركة ، كما أنَّ المناشف القصيرة لا تصْلح إطْلاقاً ؛ لأنَّهُ ليْس في الحجّ أبْشع من أن تظْهر عَوْرةُ الحاج ، فلِإخْواننا الذين لم يَحُجُّوا فالقَضِيَّة ليْسَت سَهْلة ترْتَدي مَنْشَفة بلا ألْبِسَة داخِلِيَّة ، وأن تبْقى مُحْرِماً عَشْرة أيام ، ولا تبْدو عَوْرتُكَ لأحدٍ فهذا من الأدب العالي والحِرْص الشديد ، لذلك عليك أن تسْعى لأنْ يكون الإزار طويلاً ، وعريضاً ومعنى أنّه عريض ، حيث بإمْكانك أن ترْفَعَهُ فوق السُرَّة ، وبإمكانك أن تجْعله يتجاوز الركْبتين ، وبإمكانك أن تلفَّهُ لفات كثيرة ، وقد لا حظْتُ في الحج بعض الإخوة اشْتَرَوا مناشف خفيفة ، ولما غسلوها قصُرَت ، فينبغي التنبيه لهذا ، حتى إذا اشْترى الحاج منشَفَة تنبَّه لأن تكون طويلة وعريضة أكثر من اللازم ، حتى إذا غُسلتْ أصبَحت بِقِياسِها اللازم ، والأفْضل أن يكونا أبْيَضَيْن إذْ أحْياناً نجد ألواناً مُزَرْكَشَة ومُلَوَّنة ، فهذا يُلفِتُ النَّظر .
ولُبْس نَعْليْن لا يسْتُران أصابع القدمين ولا الكَعْبين ، فأنا بِحَسب خِبْرتي فإن الشحاطة الصينيَّة زنوبية طَرِيَّة كثيراً ، وهي شَرْعِيَّة ، فالسنَّة أن يُكْشَفَ العَقِب ، والكعب وعْقِد الشِّراك أي ظاهر القدم ، وأخْطر شيءٍ في الحج هذا الذي تَلْبَسُهُ بِرِجْليك ، فإذا صار هناك دمامات وفقاعات بالجلد ، والْتِهابات ، أصبح الحج مُعَكَّرًا ، فعلى الإنسان الاهتمام بما يلبسه في رجله .
ولك الحق في الإحرام أن تُطَيّب بدنك ، فلو طَيَّبْتَ المنْشَفَة فَسَدَ إحْرامك ، لأنَّ الطيب يبقى فيها ، ثمَّ إنّ الإنسان حينما يُحْرِم له أن يغْتسل ما شاء ، ويعود ويرْتدي ثياب الإحرام .
ثم يصلي ركعتين سنَّة الإحرام ، ولك أن تُصَلي وأنت في مقعد الطائرة ، أما أن تُصَلي في ممرّ الطائرة ، والمُظيفات ذاهبات وراجِعات ، فهذا غير وارد إطْلاقاً ، لأنّ قبلة المسافر جهة دابَّته ، أي طائِرَتِه ، وتقرأ في هذه الصلاة ما تقرأه في سنَّة السَّفر ؛ قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ، بشرْط عدم وجود أوقات الكراهة ، وبعد أن يصلي الحاج ركعتي الإحرام في الميقات أو في بيته ، ينوي بقلبه الدخول في الحج ، وأقول لكم من علامة القبول البِداية الطيِّبة ، فالحاج حينما يقول : لبَّيك اللهمّ لبَيْك ، يدْخل في عبادة الحج ، وشَعَر بأشْواق وتَجَلِّيات وكأنَّهُ يبكي ، فَحَجُّهُ يبْدأ حينما يبْدأ بالتَّلْبِيَة ، أما ما يجب أن يقول : نوَيْتُ الحج وأحْرَمْتُ به لله تعالى : لَبَّيْك اللهم لبِّيْك ، لبِّيْك لا شريك لك لبَّيْك إنَّ الحمد والنِّعْمة والمُلك ، لا شريك لك ، وفي الدرْس القادم إن شاء الله تعالى نتَحَدَّث عن الإفراد والقران والتَّمَتُّع ، فإذا أردْتَ أن تُفْرِد ، ولا أقول ينبغي ، وإنما أقول : يُمكن أن يأتي إفرادك في نِيَّتِك ، والأفضل أن تكون نِيَّة الحجّ مَلْفوظة بِلِسانِك ، وقد قال العلماء : العِبْرة بما نوى لا بما لبَّى ، فلو فرضْنا أنَّ أحداً نوى الحج وقال : نوَيْتُ العمرة فيَسِّرْها لي ! فالعبرة على ما نعقد عليه قلبه ، وإنما الأعمال بالنيات .
ومعلوم عند إخواننا الحجاج أنَّ الإفراد أن تنوي الحج فقط ، وهذا أفضل شيء ، فإذا انْقضَتْ أيام العيد لك أن تأتي بعمرة ، وانتهى الأمر ، وهناك من يدْخل الميقات مُعْتَمِراً ، يطوف ويسْعى ويحْلق ويفكّ إحرامه ، ويبقى في مكَّة أياماً طويلة مُتَمَتِّعاً ، يَرْتدي ثيابه العاديَّة ، ويأكل ويتطَيَّب ويحْلق ويقلِّمُ أظافره ويفعل ما يشاء ، كما لو كان في بلده ، فإذا كان يوم الثامن من ذي الحِجَّة نوى الحج ؛ هذا اسْمُهُ مُتَمَتِّع وعليه هَدْيُ جَبْر ، فَهَدْيُ التَّمَتُّع هَدْيُ جبْر ، لأنَّ هناك نقْصًا أما دمُ القران فَدَمُ شُكْر ، فأنت أكرمك الله تعالى بِعُمْرة ، وبقيتَ مُحْرِماً إلى أيام الحج ، فَحَجَجْتَ وبقيتَ مُحْرِماً أياماً كثيرة ، فقد جَمَعتَ بين الحج والعمرة ، فأنت إذاً قارن ، وعليك دم الشُّكْر لكن أكثر العلماء ، وأكثر أعضاء البِعْثات الدينيَّة يَحُجون مُفْردين .
والتمتّع أن يحْرم من الميقات بعمرة في أشْهر الحج ، فإذا انتهى من مناسكها تَحَلَّلَ ولَبِسَ ثيابه ، إلى أن يحينَ وقْتُ الحج ، فَيُحْرِم بالحج من مكَّة ، وعليه إذا تَمَتَّعَ دمُ شاةٍ وبالمناسبة أنا مع أنصار من يروْن بأنَّ ذبائِحَهم تُهْدى إلى فقراء المسلمين من الصُّومال وباكستان وهو عبارة عن اشْتراء شيك ، وثمنها مئتان وخمسون ريالاً ، تذهب طائرة خاصَّة تَرَوْنها في الأخبار إلى هذه البلدان الفقيرة ، ويجوز التوكيل في موضوع الهَدْي ، فكُلُّ الأماكن في مكَّة وجدَّة هناك بنك التوكيل الراجحي ، وأنت تكتب في الشيك نوع الذَّبْح إن كان شكْراً ، أم جبْراً ، أم ذبح كفارة ، وهم الذين يتَوَلَّوْن الأمر ، وعلى الإنسان أن يُبَكِّر في اشْتِراء هذا الشيك ، ثمَّ إنَّ المملكة حرصتْ على عدم ضياع هذا الهدْي ، فقد كان في الأوَّل تبْقى منى الأشْهر بِرائِحةِ الجِيَف ، هذه القَضِيَّة انْتَهَت والحمد لله .
وعليه إذا تَمَتَّع دَمُ شاةٍ فمن لم يجِد فَصِيامُ ثلاثة أيامٍ في الحج ، وسبعة أيام بعد أن يعود إلى أهْله ، وإنَّما يجب الدمُ والصوم على المُتَمَتِّع بأرْبعة شُروط :
الشرط الأول : ألاَّ يخْرج عندما يريد الإحرام بالحج إلى ميقات بلده فَيُحْرِم ، فإذا دخل الإنسانُ من الميقات ، وأدى عمرة ، ثمَّ عاد إلى الميقات ، وأدَّى الحج لم يصبح مُتَمَتِّعًا ، أما أن يبقى في مكَّة ويُحْرِم من مكَّة فهذا هو التَّمتّع .
والشرط الثاني : أن يكون إحْرامه بالعُمْرة في أشْهر الحجّ ، ولو ذَهَبَ قبل شوال وأحْرم لم يكن مُتَمَتِّعاً ، ويجب أن يُحْرِمَ بالعُمْرة في أشْهر الحجّ ، والشيء الثاني أن يكون إحْرامه بالحجّ في نفْس سنة العُمْرة ، وألاّ يكون من حاضِري المَسْجد الحرام ، فإذا كان آفاقِياً وكان الحج والعمرة في سَنَة واحدة ، وتَمّتْ العُمْرة بِأشْهر الحج ، وما عاد إلى الميقات لِيُحْرِم بالحج من جديد فقد وجب عليه الدم ، فإن لم يسْتَطِع وجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى بلده .
أما القران فأن يُحْرِمَ بالحج والعُمْرة معاً ، فَيَطوفُ طوافاً واحِداً ، وسَعْياً واحِداً وحَلْقاً واحِداً ، ويُجْزئ عن ذلك أعمال الحج والعمرة معاً ، إذْ تدْخل أعمال العُمْرة في الحجّ ، ويجب عليه الدم أيْضاً كما في المُتَمَتِّع ، بِشرْط أن لا يعود إلى الميقات فَيَكون من حاضِري المسْجد الحرام ، فأنت مُخَيَّر بين القران والإفراد والتَّمَتّع ، ففي القران تتداخل المناسك ، وفي التمتَّع تتباعد وفي الإفراد حجٌّ فقط ، والعمرة بعد أيام عيد الأضْحى .
والوجْهُ الرابع : وأنا أُرَجِّحُ هذا الوَجْه وهو الإطلاق ، وهو أنْ ينْوي الإحرام دون أن يُحَدِّد ، فهو حُرّ .
والتَّلْبِيَةُ سنَّة ، ويُسْتَحَبّ أن تكون كما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام : لَبَّيْك اللهم لبِّيْك ، لبِّيْك لا شريك لك لبَّيْك ، إنَّ الحمد والنِّعْمة لك والمُلك ، لا شريك لك ؛ ثلاثًا ، ثمَّ يُصلي على النبي صلى الله عليه وسلّم بِصَوْتٍ أخفض ، وبِصيغة الصلوات الإبراهيميَّة ، ثمَّ يقول : اللهمّ إني أسألك رضاك والجنَّة ، وأعوذ بك من سَخَطِك والنار ، ثمَّ يدْعو لنفسه ، ولِوالِدَيه ولِمَن أحبّ ، ويُسْتَحَبّ الإكثار من التَّلْبِيَة على كُلِّ حال ، عند تغاير الأحوال ، وتلاقي الرِّفاق وإقبال الليل وإدْبار النهار ، وفي المَسْجد الحرام ، وفي مسْجد الخيف وسائر المساجد ، ويرْفع بها صَوْته من غير مُبالغة بشَرْط أن لا يُشوِّش على مُصَلٍّ أو قارئٍ أو نائِم .
ولا يُلَبِّي في أثناء الطَّواف والسَّعْي ؛ لأنَّ للطواف والسَّعْي أذْكاراً مَخْصوصة ولا ترْفع المرأة صَوْتها بالتلْبِيَة ، وهذا من عُيوب الحاجَّات .
ولا ينبغي أن تُسَلِّم على من يُلَبِّي ، لأنَّهُ في ذِكْرٍ ، أما إذا سُلِّمَ عليه فعليه أن يَرُدَّ السلام ، وإذا رأى الحاج ما يُعْجِبُهُ من مظاهر الدنيا ينبغي أن يقول : لَبَّيْك إنَّ العَيْش عيْش الآخرة ، طرقات وقُصور وسيارات وتكْييف وسوبارماركتْ .
ويبدَأ وقْتُ التلْبِيَة حينما يُحْرِم ، وينتهي حينما يشْرع في التَّحلُّل بِرَمْي جمْرة العقبة صباح يوْم العيد ، وبعد ذلك تنتهي التَّلْبِيَة .
هناك حالة خاصَّة ؛ وهي إذا كان جسْمُ الإنسان فيه بعض الأعْراض ، ويمكن أن يمْرض في الحج ، واللهُ تعالى من كرمِهِ للحجاج أنَّه يُعافيهم من أمْراض يُعانون منها في إقامَتِهم ولكن من باب الاحْتِياط يجوز ِلمُحْرِمٍ بِحَجٍ أو عمرة إذا خاف مَرَضاً ، أو عَدُوًّا ، أو نفاذ زادٍ ، أو أيّ مانعٍ يشُقّ معه الاسْتِمرار في الحج أن يشْترط في نفْسِه عند الإحْرام التَحَلّلَ عند طروء العُذْر بِهَدْي ، أو دون هَدْي بأنْ يقول : نَوَيْتُ الحجّ ، وأحْرَمْتُ به لله تعالى ، لَبَّيْكَ اللهمَّ بِحَجٍ ومَحَلِّي حيث حَبَسَني العُذْر أتَحَلَّل ، فهذا الكلام يجْعل حجَّك مقبولاً فيما إذا طرأ بينك وبين إتمام الحج طارىء ، وقد بلغني أنَّ المملكة عادَتْ إلى التَّقْنين ، وهي أنَّ مليون ونصف فقط ، وهذه الفئة يمكنها الحج بِرَاحة تامَّة ، أما أربعة ملاين فهذا غير معْقول !! كالعام الماضي .
ويجوز أن يشْترط الحاج في نفْسه عند العُذْر أن يقْلب حجَّهُ إلى عمرة ، وتُعَدُّ العمْرة مُجْزئة عن عُمْرة الإسلام ، لأنَّ الله تعالى قال :
[ سورة البقرة ]
فالعمرة لا بدّ منها ، وهي غير الحج .
الأشياء التي لا يجوز أن يفعلها المحرِم :
والأشياء التي لا يجوز أن يفْعلها المُحْرم ؛ اللِّباس بالنِّسْبة للرَّجل ، فَيَحْرُمُ عليه لُبسُ المخيط والمُحيط ، المصنوع على قَدْر البدن ، أو على قدْرٍ منه ، ويحْرُمُ عليه أيْضاً ستْرُ رأسِه بأيِّ شيءٍ يُعَدُّ ساتِراً ، وتُكْرَهُ المِظَلَّة عند الشافعِيَّة ، وتجوز عند الأحناف من دون كراهة ، إلا أنّ المظلَّة الآن واجبة ، لأنَّ تحرَّك الإنسان بِمَكَّة أو المدينة فيه احْتِمال كبير لضربة الشَّمْس ، والله تعالى قال
[ سورة البقرة ]
أما من ضاعت مِنْشفته فلا بأس أن يضع عليه جُبَّة ، ولو أنَّها مخيطة إلا أنَّها ليْستْ مُحيطة .
فلو الْتَحَفَ بِجُبَّة أو لحافة عند نومه جاز له ذلك ، لكِنَّكم لا تحْتاجون لا إلى جبَّة ولا إلى لحافة ، إنما تحْتاجون إلى مُكَيِّف ، وله أن يشُدَّ عليه نِطاقاً ، وأن يلبس خاتما ونظارات وساعة ، وله أن يعْقِدَ الإزار من طَرَفَيْه فعند الشافِعِيَّة يجوز ، وله أن يجْمعه بالدبابيس ، طبْعاً نحن نتَكَلَّم عن الإزار وليس عن الرِّداء ؛ فالإزار في القِسْم السُّفلي أما الرِّداء في القِسْم العُلوي .
وله أن يجعل في إزاره تكّةً أو خيطاً أو مطاطاً يعْقِدُهُ من طَرَفَيْه كي يشدّ الإزار على وسطِه ، ولكنّه ليس له أن يخيطه من جانِبَيْه على بعْضِهما ، أما المرأة فيجوز لها أن تلْبِسَ ما تشاء ، كما تلْبِسُ في حالتها العاديَّة ، ثمّ مسألة وجْه المرأة تعود على حسب القناعات فإذا الزَّوْجة تسْتر وَجْهها في بلدها فينبغي أن تسْتره هناك ، وهناك طريقة لِسَتْر وجْهها في الحج وهي أن تضع واقِيَة صغيرة بِمَطاطة يأتي المنديل بعدها ، فيأتي المنديل بعيداً عن وَجْهها وهي عَمَلِيَّة مَشْروعة ، وأنا أُفَضِّل سَتْر الوجه بِهذه الطريقة ؛ واقِيَة صغيرة بِمَطاطة يأتي المنديل بعدها والوجْه وجْه مهما كان بالحج أو بغيْره ، والدليل : كنا مُحْرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم - السيّدة عائِشَة - فكان الركبان إذا مروا بنا أو حاذَوْنا أسْدَلَتْ إحْدانا جِلْبابها على وَجْهِها .
فإذا خَشِيَتْ المرأة كَشْف وَجْهها جاز لها أن تسْترهُ بمنديل كما ذكرنا قبل قليل ولُبسُ القُّفازَيْن عند الأحْناف جائز ، وعند الشافِعِيَّة لا يجوز .
ولو احْتاج الرجل إلى أن يسْتر رأسه بِنَحْو مُداوات ، أو المرأة أن تسْتر وجْهها لِمِثْل ذلك جاز ووجَبَتْ الفِدْية .
ويحْرم على المُحْرم أن يتطيَّب في بدنه أو ثوْبه أو فراشه بِكُلِّ ما يُعَدُّ طيباً ، أما ما كان طَيِّبَ الرائِحَة ، وليْس بِطِيبٍ كرائِحَة الفواكه ، كالتفاح والبرتقال فلا تحْرم ، لكن الذي يحْرم أن تدَّهِنَ بالأدْهان والكريمات فهذه كُلُّها مُحَرَّمة ، ودُهْنُ ما ليس بِطيبٍ كالزَّيْت والسَمْن ونحوهما فلا يحْرم الادِّهان بِهما إلا في الرأس واللِّحْيَةِ ، ومن العادة قديماً أن يدْهنوا الشَّعْر بالزيت ويحْرُمُ اسْتِعمال الكُحْل المُطَيَّب ، وأكْل الطعام المُطَيَّب ، كبعض الحلويات .
وشمُّ الورْد عند الشافِعِيَّة يُعَدُّ تطيُّباً ، وعند الأحْناف مكْروهٌ ، فلو جلَسْتَ بِحانوت عطَّارٍ بِقَصْد شمِّ رائِحة ما عمدًا كُرِهَ ذلك ، وتطِّيب الناسي والجاهل والمُخْطىء والمُتَعَمِّد سواءٌ في وُجوب الجزاء ، إلا أنَّ الناسي لا يُحاسب عند الله ، والجاهل يُحاسب على جهْله ، والمُخْطىء كذلك ، إلا المُتَعَمِّد فيُحاسب على تَعَمُّدِه ، أما في الجزاء فهم فيه سواء .
ثمَّ الإنسان إنّ عليه أنْ يأخذ ما يكْفيه من أكْل وشُرْب ومُواصلات ، بالحدِّ الأدْنى ولا يزيد .
وتُحْرَمُ إزالة الشَّعْر بنَتْفٍ ، أو حلْقٍ ، أو حرْقٍ ، أو قَصٍّ في أيِّ موْضِعٍ كان من البدن ، وتُحْرَمُ إزالة الظُّفْر أيضاً ، أو جُزْءٍ منه ، فلو فعل أثِم وعصى ، ولَزِمَتْهُ الفِدْية ، فلا يتسَلَّى الإنسانُ بِوَضْع ظُفْره في فمه ، والمُهِمّ الانْتِباه لهذه الأمور ، ثمَّ الحلْق أوْلى من التَّقْصير ، وكذا لو عَلِمَ أنَّ شعْرهُ خفيف وكلَّما مشَطَه سقط فلا يمسّ شعْره ، أما إذا سقط شعْره من تلقائِهِ فلا شيء عليه .
وعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ قَالَ الْعَجُّ وَالثَّجُّ *
[ رواه الترمذي ]
فكلَّما كانت هيْئتك مُنَفِّرَة كلَّما كان حجّك أضبط ، فالأناقة بِبَلَدِك ، أما في الحج فالعجّ والثجّ ، وبالمناسبة بلغنا أنَّ معْجون الأسنان كريستال فيه لحْم خنزير ، وقد أخْبرنا بهذا إخوانٌ لنا .
و يحْرُمُ على المُحْرِمِ أن يُزَوِّجَ أو يتزَوَّج ، و كُلُّ عقْدُ نكاح كان فيه الوليّ والزوْج أو الزوْجة مُحْرِماً فهو باطِل ، و يجوز للمُحْرم الشهادة في عَقْدٍ لِغَيْر المُحْرِم ، قال تعالى :
[ سورة البقرة ]
ويدخل في ذلك الجماع ومُقَدِّماته كُلُّها .
وإتْلاف الصَّيْد من كُلِّ حيوانٍ برِيٍّ وَحْشيٍّ مأكول مُستأنس أو غير مُستأنِس ، مملوكٍ أو غير مملوك يحْرُمُ على المُحْرِم ، فإن فعله لزِمَهُ الجزاء ، وقيمته لِصاحِبِه إن كان مملوكاً ، ولو توَحَّشَ إنسيٌّ لم يحْرُم ، ولا يحْرُمُ صَيْدُ البحْر وتحْرُمُ الطُّيور .
كما يحْرُمُ على المُحْرِمِ كُلّ شكْل من أشْكال المُعاوَنَة على الصَّيْد المُحَرَّم ، ويجوز للمُحْرِم أن يغْتَسِل ، ويكون ذلك بالصابون غير المُعَطَّر ، فَكُلُّ هذا مُتَعَلِّقٌ بالإحْرام ، وفي الدَّرْس القادِم إن شاء الله تعالى نتحَدَّثُ عن دُخول مكَّة زادَها الله تعْظيماً وتَشْريفاً .
والحمد لله رب العالمين
[quote]