: مناسك الحج والعمرة - السعي والوُقوف بعرفة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ، مع اللقاء الرابع حول موضوع مناسك الحج ، وقد أنْهَيْنا في الدرس الماضي بحول الله عز وجل الطواف حول الكعبة ، واليوم ننتقل إلى السعْي بين الصفا والمروة .
النقطة الدقيقة أنَّ السعي بين الصفا والمروة منْسَك من مناسك الحج ، وكُلُّ منْسك من مناسك الحج لا بدّ أن يُقابله شُعور يشْعر به الحاج ، فلما لا يشْعر الأخ الحاج بِشيء في بعض المناسك نقول له كما قال بعض الفقهاء : سقط الوُجوب وإن لم يحْصل المطْلوب ، فلا بدّ من حُصول المطْلوب ، لأنَّ الحج فريضَةٌ لا تتكَرَّرُ في الأصْل ، وهي تجب عليك في العُمْر مرَّةً واحدة ، فإذا تَفَقَّهْتَ قبل الحج ، وأتْقَنْتَ هذا المَنْسك ، ورافق هذا المنسك شُعور داخلي ، لأنَّ الله سبحانه وتعالى قَبِلَ منك ، وذكرت لكم في الدرس الماضي أنَّ الذي يقف في عرفات ولم يغْلب على يقينه أنَّ الله تعالى غفر فلا حجَّ له ! لأنَّه يسْتحيل على إلهٍ عظيم يدْعوك إلى بيته بلا معنى ! بل أمْرُ الله أعظم من ذلك ، فَكُلُّ منْسك له شُعور ، وبالتعبير الشائع والذي يسْتعمله أولو الأمْر في ديار الحج ، يقولون لك : المشاعر مُقَدَّسة ، فالأماكن مُقَدَّسة ، ولا بدّ من أن يشْعر فيها الحاج بِمَشاعر مُقَدَّسَة ، فهذا الكلام قَدَّمْتُهُ لكم من أجل ذلك الإنسان الذي سعى بين الصفا والمروة وما شَعَرَ بِشَيْء ، وهو في بلاد الله الحرام ، فأنا أتَمَنى عليه أن يُعيدَ السَّعْي مَرَّةً ثانِيَة ، فقد لا يتمكَّن أن يُعيده في اليوم نفْسه ، لكن لا بدّ أن تطوف طوافاً كما أراده الله عز وجل ، وسَعْياً كما أراده الله عز وجل ، لكن بِشَكْلٍ أو آخر يجب أن تعْلم عِلْم يقين أنَّ الحاج إنْ لم يخْرج من بيته تائِباً من كُلِّ الذنوب ، مُؤَدِّياً كُلَّ الحقوق والواجبات ، عاقِداً العزْم على أن لا يعود إلى الذنوب ، ربما لا يشْعر بالمشاعر المُقَدَّسَة التي يتفضَّل الله بها على الحاج ، فالقضِيَّة أنَّ الحج صُلْح مع الله ، ونقْلَةٌ نَوْعِيَّة ، وقفْزَة علِيَّة ، أما إذا ذَهَبنا وطُفْنا وسَعَيْنا ، ونحن على ما عليه ، فهذا المُسْتوى مِن الحجاج لا يرْقى بهم إلى الله عز وجل ، ولم يُحَقِّقوا المُراد الإلهي من هذه الفريضة العظيمة التي فَرَضَها الله علينا في العُمُر كُلِّه مرَّةً واحدة ، وبعض هذه المعاني ذَكَرْتها البارحة في الخُطْبة لعَلَّ بعضكم سمِعها .
ويُسَنُّ إذا انتهى من ركعتي الطواف ؛ طُفنا سبعة أشواط ، وأنْهيناه بركعتين بأيِّ مكانٍ من الحرم ، دون أن نُزاحِم ، إذا تَوَهَّمْتَ أنَّ الركعتين عند مقام إبراهيم أفضل ؛ فهذا الكلام صحيح لأنّ الله عز وجل ذَكَر مقام إبراهيم ، إلا أنَّ الشيء الواقع بعد هذا الإزْدحام الشديد أنَّك إذا صَلَّيْتَ في هذا المكان ، آذَيْتَ وتأذَّيْتَ ، وتشْعر أنَّك قد أسأتَ إساءة بالغة لذلك أنْصح الإخوة الكرام إلى أنْ يُؤَدُّوا الركْعتين في أيِّ مكان من الحرم ، وفي الحقيقة ضَعْفُ الفقه يُسَبِّب بعض الإرباك ، فإرْباكات الحُجاج أساسها ضعْفُ الفقه ، طوافٌ مُزْدَحِم ، وحركة مُسْتَمِرَّة تتعثَّر عند مقام إبراهيم ، ولا تجد إلا حاجاً يرْكع ويسْجد ، والحُجاج فوقه ، فهو يلجأ إلى أساليب لا تُرْضي الله عز وجل ، ويُهَيِّئ حُراسًا ومُرافقة يقفون حوله ، ويقبض أحدهم ذراع الآخر ويدْفعون بِأكْواعهم كُلَّ من سَوَّلَتْ له نفْسه أن يقْترب من هذا الحاج في هذا الزِّحام الشديد ، ذكرتُ هذا الكلام مراراً ، لأنَّ النفْس تتوق إلى أن تُصلي خلف مقام إبراهيم ، وقد ذَكَرْتُ في الخطْبة البارحة من ضَعْف فقه الحاج أنْ يحْرص على سُنَّة وينْتَهِكَ من أجْلها حُرْمة ، ويقع في معْصِيَة ، ويُفْسِد الحج على بقِيَّة الحجاج ، وكما أنَّكم إذا دخلتم إلى المسْجد لِتُصَلوا ولم يَحِنْ بعدُ وقْت الصلاة فالنبي عليه الصلاة والسلام طَمأننا وقال : من انتظر الصلاة فهو في صلاة ، وإذا كنت تحْضر مجالس العلم لتتفقَّه في مناسك الحج فهذا من الحج ، اِعْتبر أنَّهُ من الآن إلى أن يحين وقْتُ الحج يجب أن تُطالع وتسأل ، لأنَّك كلَّما ازْدَدْتَ فِقْهاً اِرْتقى حجُّك إلى المُسْتوى المَقْبول ، ولهذا قال سيّدنا عمر رضي الله عنه : تَفَقَّهوا قبل أن تَحجُّوا .
ويُسَنُّ إذا فرغ من ركْعتي الطواف أن يتوَجَّه إلى المسْعى ، وهو على وزْن مفْعَل أيْ اسم مكان ، بعدما يسْتلم الحجر الأسْود فَيَخْرج من باب الصَّفا إلى باب المَسْعى ، وفي الحرم المكي هناك ضوْء أخْضر مُتألِّق ، هذا الضَّوْء هو الذي ينقلك إلى المَسْعى ، فالإنسان داخل الحرم الواسع يضيع ، وهناك ضوْء أخضر مُتألِّق ، إذا تَوَجَّهْتَ إليه ينْقلك إلى أوَّل المَسْعى .
وتصْعد إلى الصَّفا ، وتشْعر أنَّ هناك صَخْرات مُرْتفِعَة ، والأوْلى أن تقف على هذه الصَّخْرات كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام ، وأن تتوَجَّه نحو الكعْبة ، هذا قبل أن تسْعى وأن ترْمُقَها بِنَظَرِك ، وتقول : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أوْلانا ، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يُحْيي ويُميت بِيَدِه الخير ، وهو على كُلِّ شيءٍ قدير .
مرَّةً ثانِيَة ، قد تشْعر بالضِّيق لأنَّك لا تحْفظ هذا الدعاء ، إلا أنَّك إذا وقفْتَ في هذا المكان ، بِقَلْبٍ خاشِع ، وتَوَجَّهْتَ إلى الله عزوجل ، فأيُّ دُعاءٍ آخر يُجْزِؤُك ، وهذه من السُّنَن والآن أنا مُقْبِلٌ على السَّعْي ، ومعي كُتَيِّب صغير أقْرأ فيه ، وأُعيدُ ما سَمِعْتُ ، وأحْفظ الدُّعاء وهَيِّأتُ نفْسك قبل كُلِّ مَنْسَك ، فإذا كنتُ ذاهِباً لِرَمْيِ الجِمار أقْرأ الأدْعِيَة ، وأُحاوِلُ حفْظَها فالوقت الذي يسْبق أداء المَنْسك يجب أن يكون إعداداً لهذا المَنْسَك ، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يُحْيي ويُميت بِيَدِه الخير ، وهو على كُلِّ شيءٍ قدير ، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له أنْجزَ وعْده ، ونصر عَبْده ، وهَزَمَ الأحْزاب وحْده ، لا شيء قبله ، ولا شيء بعده لا إله إلا الله ، ولا نعْبد إلا إياه ، مُخْلِصين له الدِّين ولو كَرِهَ الكافرون "، ثُمَّ يدْعو بِما شاء من أمْر الدنيا والآخرة ، بِشَكْل أو بآخر يكاد الحجُّ كُلُّه أن يكون دُعاءً ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : الدعاء مُخُّ العبادة ..." فأنت الآن في أعلى درجات العبادة ، لذلك كما اتَّفَقْنا ، أكْثِر من حِفْظ الأدْعِيَةِ التي أُثِرَتْ عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وهناك في الحج ترى أنَّ الدعاء من أكْثر ما تمْلكه ، لأنَّكَ سَتُمْضي وقْتاً طويلاً ، فَكَيْف تكون فيه ساكِتاً ؟! أو أن تدْعو بِدُعاءٍ مُتَكَرِّر ؟ أو بالعامِّيَّة ! من دون تَحْضير ، فالدُّعاء شيءٌ ثمين في الحج .
الآن بدأنا بالسَّعْي ، الشَّوْط ثلاثمئة وخمس وتسعون متْر ، وكذا الرَّجْعَة ، سَبْعة أشْواط تحْتاج إلى ثلاثة أرباع الساعة ، أليس كذلك ؟ الذَّهاب شَوْط ، والعَوْدَةُ شوْط ، وهناك ازْدِحام ، وهي عبادة ، وأنت في البيت الحرام ، ماذا تفْعل ؟ أثْمَن شيء تفْعلهُ هو الدُّعاء ، وكلَّما حَفِظْتَ أدْعِيَةً أكْثر شَعَرْتَ أنَّك أقْرب إلى الله عز وجل ، فأنا أرى أنَّ الذي ينْبغي هي كتب الدُّعاء ؛ اِحْفظ أدْعِيَةَ النبي عليه الصلاة والسلام ، ومن بعْد حينٍ تحْفظُها عن ظَهْر قلب ، وتُصْبِحُ جُزْءًا من كيانك .
يدْعو الحاجُّ بما شاء ، من أمْر آخرته ، فإذا قال الواحد منَّا قال : اُرْزقني بِزَوْجٍ مؤمنٍ لابنتي ، هل هو ممكن ؟ نعم ، هذا مَطْلب شريف ، فأنت في ضِيافة الرحمن ، إنْ كان في الطواف ، أو المُلتزم ، أو السَّعْي ، وقال تعالى :
[سورة غافر]
والاسْتِجابة مُحقَّقَة ، كما قلنا لكم في الدَّرْس الماضي ، فإذا وَقَعَ بصرك على الكعْبة المُشَرَّفة فلَكَ أنْ تدعوَ ، و في المُلْتَزم كذلك ، وفي الطَّواف ، يا ربِّ وَفِّق أوْلادي ، خَصِّص شَوْطاً لأوْلادك ، وشَوْطًا لإخوتك ، وكذا الدعاء للشفاء من الأمراض ، فالله عز وجل يخْلق الشِّفاء خلْقاً ، وينبغي أن تشْعر أنَّك في ضِيافة الرحمن ، والأمْر بِيَدِه ، وكذا أمْرَ آخرتك ؛ اهْدِني ، واهْدِ بي ، أطْلِق لِساني بالدَّعوة إليك ، والقرب منك ، هَبْني عمَلاً صالِحاً يُقَرِّبُني إليك ، لا تجْعل تعاملك روتينيًّا ، دَعِ الأمْر يحوي الرَّجاء ، وتمْريغ الوجْه بأرْضِه وكذا في السُّجود ، وهو أقْدَس مكان ، والصلاة في الحَرَم تعْدل ألف ركْعة في غيره .
اللهمّ إني أسْألك كما هَدَيْتني إلى الإسلام ألاّ تنْزِعَهُ مِنِّي ، وتوَفَّني مُسْلماً ، يدْعو بهذا كُلَّما وَصَلَ إلى الصَّفا إلى سَعْيِه ، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام : نبْدأ بما بدأ به الله تعالى ، فالصَّفا هو المُنْطلق ، وكلَّما وَصَلْتَ إلى الصفا قِفْ على هذه الصخْرات وتَوَجَّه إلى الكعْبة المُشَرَّفَة وادْعُ بما شِئْت ، وفي أثْناء السَّعْي أيْضاُ اُدْعُ بما شئْت ، فإذا اخْتَرْت وقْتاً مُناسبًا للسَّعْي إذْ هناك أوْقات فيها ازْدِحام شديد ، ومع الازْدِحام سَتَجِدُ هؤلاء الحجاج - أصْلحهم الله تعالى -يرْفعون أصْواتهم ، كُلُ فوج يمْشي وراء مُوَجِّه ، وهذا الصَّوْت يُشَوِّش على الحاضرين ، فإذا اخْتَرْتَ وقْتاً بعد الساعة الواحدة ليلاً ، أو فما فوق ، أو في وقْتٍ مُريحٍ كي يخُفَّ الضجيج عليك كي تخْلو مع رَبِّك ، فإذا وجدت أنَّ النَّظر يُزْعِجُك فأغمِض عينيك ، وامْشِ على مَهْلِك ، فواجب عليك أن تكون مع الله في هذه الأشْواط ، فأنا أتَعَجَّب من الحاج وهو يسعى وكأنَّهُ يمْشي في ِطَريق الصالِحِيَّة ! أين أنت ؟! هنا مكان للتَّعَبُّد وليس للتطَلّع ، وفُضول النَّظر والتّعْليقات ، فهذه بعض المُلاحظات .
لَدَيْك ميلان أخْضَرَان ، بعد الثلث الأوَّل من المَسْعى تجد إضاءة خضْراء بين هذين الميلين ، فينْبغي أنْ تُهَرْوِل ، لكن أخْطر شيء أن يكون الإنسان مع زوْجتِهِ فَيُهَرْوِل وتُهَرْوِل هي معه ! فلا يجوز للمرأة أن تُهَرْوِل إذْ تبْدو مفاتِنُها ، فالهَرْوَلَة للرِّجال فقط ، فأنا كنت أُهَرْوِل وأنْتَظِر ، ثمَّ تمْشي هي مَشْياً طبيعِياًّ ، ولما ينتهي الميل الأخْضر تقف على اليمين ، وتنْتظر مجيء زَوْجتك ، فلا بدَّ أن تُنَبِّهَها ، وأنا أُلاحظ أنَّ أكثر النِّساء بِنِسْبَةِ تِسْعين بالمئة يُهَرْوِلْنَ مع أزْواجهم ! وهذا من قِلَّةِ فقْه الحُجاج .
فالملاحظة الأولى أنَّهُ إذا كان مَنْسَكٌ من مناسك الحج لم يُعْجِبْكَ ، ووجَدْتَ في القلب غفْلة ، وشَعَرْتَ بعدم تأدِيَتِه بحقِّه ، فالأفضل أن تُعيده ، وبالمناسبة أقول إنَّ الله عز وجل يعْلم أنَّك حريصٌ على تأديَة الحج كما يُريد ، فيتجلّى في المرَّة الثانِيَة على قلْبك ، وتشْعر وكأنَّ الله قبِلك وهذا ليس بالسَّهْل ، هناك أشْخاص يطوفون كُلَّ صلاة ، أجْمل ما في الحج الطواف ، وحتى بعد التَّحَلّل ولبس الثياب .
واجبات السَّعْي :
أن يقْطع جميع المسافة بين الصفا والمرْوة فلا يترك منها أيَّة خُطْوة ، هناك نقْطة مُهِمَّة ، فالمَسْعى عبارة عن مَمْشى كبير مَسْقوف في طابِقٍ ثانٍ ، إلا أنَّ رأي العلماء أنَّ المَسْعى الأفضل أن يكون في الطابق الأرْضي ، على خِلاف الطواف ، فالطواف له حُكْم والسَّعْي له حُكْم فالطابق الأرضي أوْلى لأنَّ الطابق العُلْوي فيه خِلاف ، أما الطواف في الطابق العلوي على الكعبة ليس فيه خِلاف ، إذْ كُلُّ الفراغ الذي فوق الكعْبة من الكعْبة ، إلا أنَّك لا تشْعر بالسعادة إذا كنت تطوف والكُعْبة من تحت ، فالأفْضل الطواف من تحت ، أما من دون شكّ أنّ السَّعْي من الطابق العُلْوي قَضِيَّة مُختلف على صِحَّتِها فأنت كُنْ مع الأحْوَط ، وإخْواننا السَّعودِيِّون أقَرُّوا أنَّ هناك فَتْوى عندهم ، دَفْعاً للازْدِحام ، فأنت كُنْ مع الأحْوَط .
فبالمَسْعى طريق للذَّهاب ، وآخر للإياب ، وبينهما طريقان للعَرَبات ، ويتوَهَّم الحاج أنَّ أوَّل هذا الحاجز للعربات هو للمَسْعى ، فهذا خطأ فالمَسْعى يبْدأ من الصَّفا ، فإذا عُدْتَ من المَرْوة يجب أن تدور حَوْل الصَّخْرات ، ولا تخْتَصِر الطريق ، فأوَّل واجبات المَسْعى أن تقْطع جميع المَسافة بين الصفا والمرْوة ، فلا تترك منها أيَّة خُطْوة ، ولْيَعْلَمْ أنَّ بِداية الحاجِز بين طريق الذَّهاب والإيَّاب بين طَرَفَيْ المَسْعى كما هو مُوَضَّح لا يُمَثِّل بداية المسْعى ولا نهايته ، فلا يصْعد بِمِقْدار قامَةٍ على كُلٍّ من الصفا والمرْوة ، وأينما تجد الصَّخْرات اصْعَد عليها ولو بِمِقْدار قامة مِتْر واحد فقط ، فإذا صَعدْت على الصَّخْرات كان سَعْيُك صحيحاً .
ويبْدأ بالصَّفا ولو بدأ بالمَرْوة لم يَصِحّ ابْتِداؤُه ، ويُعْتَبَرُ الصَّفا ابْتِداءَ سَعْيِه ، لأنَّ هذا مَنْسَك يُؤَدى كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام ، وإتْمام سَبْعة أشْواط ، الذَّهاب من الصَّفا مَرَّة والعَوْدة من المَرْوة مَرَّة ، فالطريق الواحد شَوْط .
وأن يكون سَعْيُهُ بعد طوافٍ صحيح ، دون أن يفْصل بين الطواف والسَّعْي بِرُكْنٍ من أرْكان الحجّ ، فَيَصِحُّ السَّعْيُ سواء بعد طواف القُدوم وهو سنَّة ، أو بعد طواف الإفاضة وهو رُكْن وأنا أنْصَحُكَ أيّها الحاج إذا أتَيْتَ البيْت الحرام ، أوَّل عمل من أعْمالك طواف القُدوم ، لكن هذا سنَّة ، والسَّعْي مَرَّةً واحدة ، فبِإمْكانك أن تسْعى بعد طواف القُدوم ، وبإمْكانك أن تسْعى بعد طواف الإفاضة ، لكن بعد طواف الإفاضة الحُجاج جميعاً مُتَواجِدون في هذا المكان ، لذلك هناك إحْراج ، فأنا أنْصَحُكَ أن تسْعى بعد طواف القُدوم ، لأنّ الازْدِحام سيَكون أشدَّ بِكَثير ، وسَيَكون معك طواف الإفاضة الذي هو رُكْن الحجّ الثاني صعبًا ، ومعه سَعْي فيمكن ألاَّ تتحَمَّل .
كما أنَّهُ لا يُسَنُّ تَكرار السَّعْي ، نحن قلنا أنَّك إنْ لم تجد في نفْسك أنَّك أدَّيْت السعْي جيِّداً تُعيدُه ، لكن هذا ليس كالطواف كلَّما تجد نشاطاً تطوف حوْل الكعبة ، فالسَّعْيُ مَرَّةً واحدة .
فالواجبات أن تقْطع جميع المسافة ، وتبْدأ بالصفا ، مع إتمام سبْعة أشْواط ، و أن يكون السَّعْيُ بعد الطواف الصحيح ، و أنت مُخَيَّر أن تسْعى بعد طواف القُدوم ، أو بعد طواف الإفاضة ، أما السنن ؛ فالذِّكْرُ والدعاء ، اللَّذيْن ذَكَرْناهما آنِفاً ، "ربِّ اغْفِر وارْحم ، وتجاوَزْ عمَّا تعْلم إنَّك أنت الأعَزُّ الأكْرم ، اللهمَّ ربَّنا آتنا في الدنيا حَسَنَة ، وفي الآخرة حَسَنة وقِنا عذاب النار .
ولا بدَّ من الطهارة في السَّعي ، وهو أن تكون مُتَوَضِّئاً ، إلا أنَّها سُنَّة ، فَيَصِحُّ سَعْيُ المُحْدِث ، والحائِض ، فلو كان مع أحدنا زوْجته ، أو قريبته وجاءَتها الدَّوْرة وهي تسْعى ، فإذا كانت تطوف وشَعَرَتْ أنَّ الدَّوْرة قد جاءَتْها ، فلا يمكنها المتابعة ، إلا أنَّها تستطيع أن تسْعى .
ويُسْتحبّ السَّعْيُ الشديد بين الميلين الأخْضَرين ، إلا المرأة فَتَمْشي مَشْياً عادِياً وينْبغي أن يتجنَّب إيذاء الناس ومُزاحمتهم ، فالأفضل أن يسْعى ماشِياً ، فإن سعى راكباً لعَجْزٍ أو غير ذلك صَحَّ سَعْيُه ، فاللهمَّ متِّعْنا بالصِّحة كي نؤدي مناسكنا مَشْياً ، ثمَّ إنَّ الله تعالى يتولى المرض ويُجَمِّدُهُ في أثناء الحج ، إلا أن يقول لك الطبيب : لا تبقَ تحت الشمْس فإن فعلْتَ أثِمْت ثمَّ إنَّ ضربات الشَّمْس مُؤذِيَة ، وأحْياناً تصل الحرارة في الظلّ ستًّا وخمْسين درجة ، وأنا أنصح إخواننا ، بما قال تعالى :
[سورة النساء]
ونحن لدينا في الشَّرْع مقاصد كُبْرى ؛ حِفْظ الدّين ، والنَّفْس والعقل ، والعرض ، و المال ، فالحياة ليسَت مِلْكك بل هي مِلْكُ المُسْلمين ، فالخُروج في مكَّة والمدينة في النَّهار ينْبغي أن يكون لِضَرورة بالغة ، فالأولى أن تكون كُلُّ أعْمالك بالليل ، كما أنَّني أرى على من كان سكنُه بعيداً عن الحرم أن يُصلي بالبيت ، والإنسان عليه أن يُرَكِّز في أداء هذه المناسك على وقت المغرب والعشاء والفجْر ، لأنَّها أوقاتُ للبرودة .
الآن سننتَقِل إلى الوُقوف بِعَرَفة ، وهو رُكْنُ الحج الأعظم ، كأنَّ الله سبحانه وتعالى جعل الوُقوف بِعَرَفة اللِّقاءَ الأساسيَّ للحاج ، فأنت مع موْعِد مع الله عز وجل في عرفة ، لذلك الاهْتِمام بالذي ستأكله وتشْربه ، هذا شيءٌ بعيدٌ عن مناسك الحج ، ففي هذا اليوم فَكِّر أن تأكل فيهما مَوْزَتَيْن أو ثلاثة ، وسَنْدويشة ، المُهِمّ عدم التركيز على الأكل ، لأنَّكَ مَدْعُوٌّ لِلِقاء الله عز وجل ، فالصلاة والذِّكْر والتِّلاوة والدعاء أهمّ شيء .
فالأيام الخمْسة أو السِتَّة التي قبل وُقوف عرفة اسْتِعداد لِهذا اللِّقاء ، أنا أُفَضِّل للإنسان قبل عرفة بِيَوْمٍ أو يوْمَيْن يُوَفِّر جسْمه بشيء قليل ، لأنَّ هذا اليوم يحْتاج إلى ِصحّة وقوَّة ، فلا بد أن يرْتاح كي يشْعر بِعَرَفات أنَّهُ بأتَمّ اسْتِعداد ، لأنَّ الحج كُلَّه عرفة ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال : الحج عرفة ..." .
الآن ذَكَرْنا أنَّ أوَّل طواف للحجاج حين دُخول مكَّة هو طواف القُدوم وهو سنَّة ، أما للمُعْتَمِر فهو طواف رُكْنٍ ، فإذا سَعى المُعْتَمِر بعد الطواف حلق شَعْر رأسه ، أو قَصَّر وتَحَلَّل إلى أن يُصْبح اليوم الثامن من ذي الحجَّة ، وعلى كُلٍّ الشيءُ الذي ورد في السنَّة أنَّ الإنسان يتوَجَّه بعد فجْر اليوم الثامن من ذي الحجَّة إلى مِنى ، والمبيت بِمِنى قبل عرفات سُنَّة ، لكن أكْثر الأفواج الآن يتجاوزون هذه السنَّة ، نَظَراً للازْدِحام الشَّديد فَيَتَوَجَّهون إلى عرفة مُباشَرَةً ، فأنتم مُخَيَّرون بين أن تتوَجَّهوا إلى منى ، وتُصلوا الظُّهْر والعصْر ، والمغْرب والعِشاء ، والفجْر ، ثمَّ تتوَجَّهون إلى عرفات ، أو تتوَجَّهون في اليوم الثامن من ذي الحجّة في أيّ وقْتٍ تشاؤون إلى عرفات وتنامون بها ، ويَصِحّ أن تتوَجَّهوا إلى عرفات في اليوْم التاسِع ، لكن نحن نأخذ بالأحْوط ، إذْ في اليوم التاسع هناك ناس لم يصلوا إلى عرفات ، فهؤلاء الأفواج يتجاوزون المبيت بِمِنى ، وهي سنَّة ، فَمَن ترك الواجب فعليه دم ، ومن ترك رُكناً بطل حجّه ، ومن ترك سنّة فلا شيء عليه .
ونحن في عَرفات ماذا نفْعل ؟ نحن في يَوْم اللِّقاء الأكبر ، فالوقْت المناسب للدعاء بعد أن تُصلي الظهر والعصْر مُؤْتماً بإمام جمْعَ تقْديمٍ ، وهناك خطْبة بِجامِع نَمِرَة ، إلا أنَّ الحجاج ألِفوا أنّ كُلَّ فوْجٍ يقوم فيهم خطيب ، ويُصلون الظهْر والعصْر جمْع تقْديم ، فَمِن بعد الزَّوال إلى بعد الغروب ليس هناك عمل أفْضل من أن تدْعوا الله عز وجل واقِفاً ، وأنت مَدْعوٌّ في هذا اليوم إلى لِقاءٍ روحيٍّ مع الله عز وجل ، وإلى أن تعرض حاجاتك أمام الله عز وجل ، وإلى أن تطْلب المغْفرة عمَّا مضى وإلى أن تصْطَلِحَ مع الله ، لذلك على الإنسان أن يُهَيِّئ نفْسه تهْيئة كاملة وكافية ويلْتَفِتَ إلى الله بِكُلِّيَّتِه ، ولا يوجد شيء يُؤْلِمني بِعَرفات إلا هؤلاء الحجاج الذين يتبادلون أطراف الأحاديث ، وهم يجْلِسون في خِيامهم وكأنَّهم في نُزْهة ، أو في سَهْرة ، ولك أن تقْرأ القرآن وتدعو ؛ مَرَّةً جالساً ، وقاعِداً ، وواقِفاً ، فأنت في فُرْصة لا تتكَرَّر ، فالوِرْد له طَعْم ، والاسْتِغفار له طعْم ، والذِّكْر له طعْم ، فهذا الوقْت من بعد الظهر إلى بعد الغروب مِن أشْرف الأوْقات ، قال تعالى :
[سورة البقرة]
شُعور الحاج وهو يخْرج من عرفات وكأنّه رجع كَيوم ولدتْه أمّه ، وبعد ذلك الذَهاب إلى مزْدلفة ، هناك من يجْلس في مسْجد نَمِرَة ، إلا أنَّ فيه مكانًا ليس من عرفات وهذا مشْكلة ، فلا بدّ من أن تتواجد بِعَرفات ولو لحْظة واحدة من بعد الظهْر إلى أن تغيب الشَّمس ، وبِالخِيام أفضل ، لأنَّك لن تجد في هذا المسْجد مكانًا ، وذلك لأنه مُكَيّف فَيَتَهافت عليه الناس من كُلِّ مكان وبِالخِيام هناك ذِكْر جماعي ، ويقف العلماء ويدْعون وأنتم تُؤَمِّنون ، والمُؤمِّن كالداعي تماماً ، قال تعالى :
[سورة يونس]
مع أنَّ الداعي هو سيّدنا موسى فقط ، وكان معه سيّدنا هارون ، فهناك دعاء جماعي ودعاء فرْدي ، وصلاة ، و تِلاوة ، و اسْتغفار ، فالحج عرفة ، وعرفات كُلَّها موقف ، والسنَّة أن تقف وتتوَجَّه نحو الكعبة .
ويُسَنُّ أن يخطب الإمام قبل الظهْر في مسْجد سيِّدنا إبراهيم خطبتين ، يُرْشِدُ فيهما الحجاج إلى ما ينبغي أن يشْغلوا أنفسهم به ، ومع الخطبة الثانية يقوم المُؤَذِّن فَيُؤَذِّن للظهْر فَيُصلي الناس الظهْر والعصر جمْعاً وقصراً ، وعليهم بعد إتمام الصلاة أن يُبادِروا إلى الوُقوف بِعَرَفة ، وعرفات كُلَّها مَوْقف ، وأفضل مكان بِعَرفات عند الصَّخرات أسفل جبل الرَّحْمة ، لكن إذا كان الوقتُ ظُهْراً ، والوقتُ شديد الحَرِّ ، وربَّما كان هذا الشيء مُهْلِكًا ، وأنا أنصحُ إخواننا وقْتَ الظهْر الحار أنْ يبْقوا في الخِيام ، وقبل الغروب بِساعة انْطلِقوا إلى خارج الخِيام .
وقْتَ الوُقوف بِعَرَفة يبْدأ بعد زوال شمْس اليوم التاسع من ذي الحجّة إلى طُلوع فجْر ليلة يوم العيد .
أنا حججتُ مَرَّتَين ، وإخواننا بالبِعْثة قالوا : نبْقى بِعَرَفات للساعة العاشرة أو أكثر و أعتقد أنّ هذه السَّنة الأمورُ مُيَسَّرَة كلُّها ، لأنَّ مأساة العام الماضي لن تتكَرَّر إن شاء الله .
وفيما يخص عرفة ؛ أوَّلاً الاغتِسال ، و يجزئُ الاغتسالُ في مَكَّة قبل أن تأتي إلى عرفات .
ثانياً : المُبادرة بالوُقوف في عرفة بعد الصلاة ، فلا تتأخَّر .
ثالثاً : الحِرْص على الوُقوف بِعَرَفة في موقف النبي عند الصَّخرات ، أسفل جبل الرحمة ، أما إذا تَعَسَّر الأمْرُ فهذه سُنَّة .
يُسَنُّ للرجل أن يدْعو واقفاً إلا إن شَقَّ عليه ذلك ، فله أنْ يجْلس ، وأنا أنْصحك أن تُنَوِّع بين هذا وذاك ، أما المرأة فالأفْضل لها القُعود ، لأنَّهُ أسْتَرُ لها ، وأصْوَنُ .
ويُسَنُّ أن تُحافظ في عرفات على تمام الطهارة ، وسَتْر العوْرة ، ودَوْرات المياه مَيْسورة ، فالطهارة ضروريَّة ، ويُسَنُّ أن تكون مُفْطِراً كي تتَقَوَّى على طاعة الله ، ولأنَّهُ أكثر عونًا له على الدعاء ، كما أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام وقف مُفْطِراً .
كما يُسَنُّ حُضور القلب وفراغه عن المشاغل الدنيَوِيَّة ، فعليه أن يُنْجِزَ كُلَّ مشاغله كالطعام والشراب قبل الزَّوال ، وبالمناسبة لَدَيَّ تعْليق صغير وهو أنَّ هناكُ تَفَرُّغ ، وهناك تَفْريغ فأنت حينما ذَهَبْتَ إلى الحج وتركْتَ بيْتك ، ومشاكل العمل ، ومشاكل بلدك ، والخُصومات كُلُّ شيء تَرَكْته وذهَبْت إلى البيت الحرام ، فهذه العَمَلِيَّة اسْمها تَفَرُّغ ، إلا أنَّ الله تعالى يتَفَضَّلُ عليك بِنِعْمة أُخْرى اسْمها التَّفْريغ ، وهي عَدَمُ خُطور ولو قَضِيَّة صغيرة في بالك على بلدك ، فأولادك وبيْتك ومشاكلك لا تخْطر بِبَالك ولو كانت ضَخْمة ، وهي نعمة من الله تعالى ، ولكن حينما ينتهي الحج تقْفز الهُموم فَجْأةً واحدة .
والإكثار من التَّلْبِيَة مع رفْع الصَّوْت بشَكْلٍ مُعْتَدِل ، والإكثار من الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ، وغير ذلك من الأذْكار ، وأن يبْرز للشَّمْس ولا يسْتظِلّ ، إلا إن خاف على نفْسه ، أو أجْهده ذلك ، أو أعاقهُ عن الخُشوع .
وأن يظَلَّ في الموْقف حتى غُروب الشَّمْس ، حيث يجْمع بين الليل والنهار ، فإن خرج من عرفات قبل الغروب ولم يعُدْ إليها أراق دماً اسْتِحْباباً ، كما يُسْتَحَبُّ الإكثار من الدعاء بِتَذَلّل وخُشوع وافْتِقار ، وأن تُلِحَّ في الدعاء بِرَجاءٍ قوِيّ ، وأمَلٍ كبير ، لأنَّ الله تعالى يُحِبُّ المُلِحِّين في الدعاء ويمكن أن تُكْثر من التَّسْبيح والتَّحْميد والتَهْليل والتَّكْبير ؛ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، وسوف نأخذ في الدرس القادم إن شاء الله أدْعِيَةَ عرفات التي أُثِرَتْ عن النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وبعدها الانْطِلاق إلى مزدَلِفة ، ورمْي الجِمار ، وطواف الإفاضة والزِّيارة .
الحمد لله ربِّ العالمين
[quote]