شرح حديث " المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف..... "
3 مشترك
كاتب الموضوع
رسالة
najat المشرفة المميزة
عدد المساهمات : 857 تاريخ التسجيل : 13/12/2009
موضوع: شرح حديث " المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف..... " السبت مايو 29, 2010 4:31 pm
الحديث ====== عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كلٍّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تَعْجَز .. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله، وما شاء فعل، فإن لَوْ تفتح عمل الشيطان" رواه مسلم.
========================== هذا الحديث اشتمل على أصول عظيمة كلمات جامعة.
فمنها: إثبات المحبة صفة لله، وأنها متعلقة بمحبوباته وبمن قام بها ودلّ على أنها تتعلق بإرادته ومشيئته، وأيضاً تتفاضل. فمحبته للمؤمن القوي أعظم من محبته للمؤمن الضعيف. ودلّ الحديث على أن الإيمان يشمل العقائد القلبية والأقوال والأفعال، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة فإن الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول: "لا إله إلا الله" وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة منه. وهذه الشعب التي ترجع إلى الأعمال الباطنة والظاهرة كلها من الإيمان. فمن قام بها حق القيام، وكَمَّل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وكمَّل غيره بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر: فهو المؤمن القوي الذي حاز أعلى مراتب الإيمان. ومن لم يصل إلى هذه المرتبة: فهو المؤمن الضعيف. وهذا من أدلة السلف على أن الإيمان يزيد وينقص. وذلك بحسب علوم الإيمان ومعارفه، وبحسب أعماله.
وهذا الأصل قد دلّ عليه الكتاب والسنة في مواضع كثيرة: ولما فاضل النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين قويهم وضعيفهم خشي من توهم القدح في المفضول، فقال: "وفي كل خير" وفي هذا الاحتراز فائدة نفيسة، وهي أن على من فاضل بين الأشخاص أو الأجناس أو الأعمال أن يذكر وجه التفضيل ، وجهة التفضيل. ويحترز بذكر الفضل المشترك بين الفاضل والمفضول، لئلا يتطرق القدح إلى المفضول وكذلك في الجانب الآخر إذا ذكرت مراتب الشر والأشرار، وذكر التفاوت بينهما. فينبغي بعد ذلك أن يذكر القدر المشترك بينهما من أسباب الخير أو الشر. وهذا كثير في الكتاب والسنة. وفي هذا الحديث: أن المؤمنين يتفاوتون في الخيرية، ومحبة الله والقيام بدينه، وأنهم في ذلك درجات {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} [سورة الأحقاف – آية 19] ويجمعهم ثلاثة أقسام: السابقون إلى الخيرات، وهم الذين قاموا بالواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وفضول المباحات وكملوا ما باشروه من الأعمال، واتصفوا بجميع صفات الكمال. ثم المقتصدون الذين اقتصروا على القيام بالواجبات وترك المحظورات. ثم الظالمون لأنفسهم، الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً.
وقوله صلى الله عليه وسلم : "احرص على ما ينفعك واستعن بالله" كلام جامع نافع، مُحِتوٍ على سعادة الدنيا والآخرة.
والأمور النافعة قسمان: أمور دينية، وأمور دنيوية. والعبد محتاج إلى الدنيوية كما أنه محتاج إلى الدينية. فمدار سعادته وتوفيقه على الحرص والاجتهاد في الأمور النافعة منهما، مع الاستعانة بالله تعالى، فمتى حرص العبد على الأمور النافعة واجتهد فيها، وسلك أسبابها وطرقها، واستعان بربه في حصولها وتكميلها: كان ذلك كماله، وعنوان فلاحه. ومتى فاته واحد من هذه الأمور الثلاثة: فاته من الخير بحسبها، فمن لم يكن حريصاً على الأمور النافعة، بل كان كسلاناً لم يدرك شيئاً. فالكسل هو أصل الخيبة والفشل. فالكسلان لا يدرك خيراً، ولا ينال مكرمة، ولا يحظى بدين ولا دنيا، ومتى كان حريصاً، ولكن على غير الأمور النافعة: إما على أمور ضارة، أو مفوتة للكمال كان ثمرة حرصه الخيبة، وفوات الخير، وحصول الشر والضرر، فكم من حريص على سلوك طرق وأحوال غير نافعة لم يستفد من حرصه إلا التعب والعناء والشقاء. ثم إذا سلك العبد الطرق النافعة، وحرص عليها، واجتهد فيها: لم تتم له إلا بصدق اللجأ إلى الله، والاستعانة به على إدراكها وتكميلها وأن لا يتكل على نفسه وحَوْله وقوته، بل يكون اعتماده التام بباطنه وظاهره على ربه. فبذلك تهون عليه المصاعب، وتتيسر له الأحوال محتاج – بل مضطر غاية الاضطرار – إلى معرفة الأمور التي ينبغي الحرص عليها، والجد في طلبها. فالأمور النافعة في الدين ترجع إلى أمرين: علم نافع، وعمل صالح.
أما العلم النافع: فهو العلم المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين. وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث وتفسير وفقه، وما يعين على ذلك من علوم العربية بحسب حالة الوقت والموضع الذي فيه الإنسان، وتعيين ذلك يختلف باختلاف الأحوال. والحالة التقريبية: أن يجتهد طالب العلم في حفظ مختصر من مختصرات الفن الذي يشتغل فيه. فإن تعذر أو تعسر عليه حفظه لفظاً، فليكرره كثيراً، متدبراً لمعانيه، حتى ترسخ معانيه في قلبه. ثم تكون باقي كتب هذا الفن كالتفسير والتوضيح والتفريع لذلك الأصل الذي عرفه وأدركه، فإن الإنسان إذا حفظ الأصول وصار له ملكة تامة في معرفتها هانت عليه كتب الفن كلها: صغارها وكبارها. ومن ضيع الأصول حرم الوصول. فمن حرص على هذا الذي ذكرناه، واستعان بالله: أعانه الله، وبارك في علمه، وطريقه الذي سلكه. ومن سلك في طلب العلم غير هذه الطريقة النافعة: فاتت عليه الأوقات، ولم يدرك إلا العناء، كما هو معروف بالتجربة. والواقع يشهد به، فإن يسر الله له معلماً يحسن طريقة التعليم، ومسالك التفهيم: تم له السبب الموصل إلى العلم.
وأما الأمر الثاني – وهو العمل الصالح -: فهو الذي جمع الإخلاص لله، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو التقرب إلى الله: باعتقاد ما يجب لله من صفات الكمال، وما يستحقه على عباده من العبودية، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله، وتصديقه وتصديق رسوله في كل خبر أخبرا به عما مضى، وعما يستقبل عن الرسل، والكتب والملائكة، وأحول الآخرة، والجنة والنار، والثواب والعقاب وغير ذلك ثم يسعى في أداء ما فرضه الله على عباده: من حقوق الله، وحقوق خلقه ويكمل ذلك بالنوافل والتطوعات، خصوصاً المؤكدة في أوقاتها، مستعيناً بالله على فعلها، وعلى تحقيقها وتكميلها، وفعلها على وجه الإخلاص الذي لا يشوبه غرض من الأغراض النفسية. وكذلك يتقرب إلى الله بترك المحرمات، وخصوصاً التي تدعو إليها النفوس، وتميل إليها. فيتقرب إلى ربه بتركها لله، كما يتقرب إليه بفعل المأمورات، فمتى وفّق العبد بسلوك هذا الطريق في العمل، واستعان الله على ذلك أفلح ونجح. وكان كماله بحسب ما قام به من هذه الأمور، ونقصه بحسب ما فاته منها.
وأما الأمور النافعة في الدنيا: فالعبد لا بد له من طلب الرزق. فينبغي أن يسلك أنفع الأسباب الدنيوية اللائقة بحاله. وذلك يختلف باختلاف الناس، ويقصد بكسبه وسعيه القيام بواجب نفسه، وواجب من يعوله ومن يقوم بمؤنته، وينوي الكفاف والاستغناء بطلبه عن الخلق. وكذلك ينوي بسعيه وكسبه تحصيل ما تقوم به العبوديات المالية: من الزكاة والصدقة، والنفقات الخيرية الخاصة والعامة مما يتوقف على المال، ويقصد المكاسب الطيبة، متجنباً للمكاسب الخبيثة المحرمة. فمتى كان طلب العبد وسعيه في الدنيا لهذه المقاصد الجليلة، وسلك أنفع طريق يراه مناسباً لحاله كانت حركاته وسعيه قربة يتقرب إلى الله بها. ومن تمام ذلك: أن لا يتكل العبد على حوله وقوته وذكائه ومعرفته، وحذقه بمعرفة الأسباب وإدارتها، بل يستعين بربه متوكلاً عليه، راجياً منه أن ييسره لأيسر الأمور وأنجحها، وأقربها تحصيلاً لمراده. ويسأل ربه أن يبارك له في رزقه، فأول بركة الرزق: أن يكون مؤسساً على التقوى والنية الصالحة. ومن بركة الرزق: أن يوفق العبد لوضعه في مواضعه الواجبة والمستحبة، ومن بركة الرزق: أن لا ينسى العبد الفضل في المعاملة، كما قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [سورة البقرة – آية 237] بالتيسير على الموسرين، وإنظار المعسرين، والمحاباة عند البيع والشراء، بما تيسر من قليل أو كثير. فبذلك ينال العبد خيراً كثيراً. فإن قيل: أي المكاسب أولى وأفضل؟ قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك. فمنهم من فضل الزراعة والحراثة. ومنهم من فضل البيع والشراء. ومنهم من فضل القيام بالصناعات والحرف ونحوها. وكل منهم أدلى بحجته. ولكن هذا الحديث هو الفاصل للنزاع، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال : "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله" والنافع من ذلك معلوم أنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. فمنهم من تكون الحراثة والزراعة أفضل في حقه، ومنهم من يكون البيع والشراء والقيام بالصناعة التي يحسنها أفضل في حقه. فالأفضل من ذلك وغيره الأنفع. فصلوات الله وسلامه على من أعطي جوامع الكلم ونوافعها.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم حضّ على الرضا بقضاء الله وقدره، بعد بذل الجهد، واستفراغ الوسع في الحرص على النافع. فإذا أصاب العبد ما يكرهه فلا ينسب ذلك إلى ترك بعض الأسباب التي يظن نفعها لو فعلها، بل يسكن إلى قضاء الله وقدره ليزداد إيمانه، ويسكن قلبه وتستريح نفسه؛ فإن " لو " في هذه الحال تفتح عمل الشيطان بنقص إيمانه بالقدر، واعتراضه عليه، وفتح أبواب الهم والحزن والمضعف للقلب. وهذه الحال التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم هي أعظم الطرق لراحة القلب، وأدعى لحصول القناعة والحياة الطيبة، وهو الحرص على الأمور النافعة، والاجتهاد في تحصيلها، والاستعانة بالله عليها، وشكر الله على ما يسره منها، والرضى عنه بما فات، ولم يحصل منها. واعلم أن استعمال " لو " يختلف باختلاف ما قصد بها. فإن استعملت في هذه الحال التي لا يمكن استدراك الفائت فيها فإنها تفتح على العبد عمل الشيطان، كما تقدم. وكذلك لو استعملت في تمني الشر والمعاصي فإنها مذمومة، وصاحبها آثم، ولو لم يباشر المعصية. فإنه تمنى حصولها. وهذا الأصل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الأمر بالحرص على الأمور النافعة، ومن لازمه اجتناب الأمور الضارة مع الاستعانة بالله – يشمل استعماله والأمر به في الأمور الجزئية المختصة بالعبد ومتعلقاته، ويشمل الأمور الكلية المتعلقة بعموم الأمة. فعليهم جميعاً أن يحرصوا على الأمور النافعة. وهي المصالح الكلية والاستعداد لأعدائهم بكل مستطاع مما يناسب الوقت، من القوة المعنوية والمادية، ويبذلوا غاية مقدورهم في ذلك، مستعينين بالله على تحقيقه وتكميله، ودفع جميع ما يضاد ذلك. وشرح هذه الجملة يطول وتفاصيلها معروفة.
وقد جميع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الإيمان بالقضاء والقدر، والعمل بالأسباب النافعة، وهذان الأصلان دلّ عليهما الكتاب والسنة في مواضع كثيرة. ولا يتم الدين إلا بهما. بل لا تتم الأمور المقصودة كلها إلا بهما، لأن قوله "احرص على ما ينفعك" أمر بكل سبب ديني ودنيوي، بل أمر بالجد والاجتهاد فيه والحرص لعيه، نية وهمة، فعلاً وتدبيراً.
وقوله: "واستعن بالله" إيمان بالقضاء والقدر، وأمر بالتوكل على الله الذي هو الاعتماد التام على حوله وقوته تعالى في جلب المصالح ودفع المضار، مع الثقة التامة بالله في نجاح ذلك. فالمتبع للرسول صلى الله عليه وسلم يتعين عليه أن يتوكل على الله في أمر دينه ودنياه، وأن يقوم بكل سبب نافع بحسب قدرته وعلمه ومعرفته والله المستعان.
============== المصدر: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار للشيخ العلاّمة عبدالرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -
نداء الاقصى مشرف
عدد المساهمات : 461 تاريخ التسجيل : 27/01/2010
موضوع: رد: شرح حديث " المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف..... " الأربعاء يونيو 02, 2010 9:18 am
موضوع قيم بارك الله فيك اختي نجاة. هو حديث قصير لكن يخفي كثير من الحقائق.
مقبول حسون الادارة
عدد المساهمات : 2413 تاريخ التسجيل : 08/12/2009
موضوع: رد: شرح حديث " المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف..... " الجمعة يونيو 18, 2010 8:02 am
صور من علو الهمة عند السلف
وبعد هذه النقاط في مقتضيات علو الهمة وبعض الأسباب التي تؤدي إلى علو الهمة لننتقل إلى تطبيقات عملية في واقع السلف في بعض الجوانب فيما يتعلق بعلو الهمة، ومن ذلك: الهمة في العبادة، والهمة في البحث عن الحق، والهمة في الدعوة إلى الله، وفي الجهاد، وفي طلب العلم. وتحت كل فرع من هذه الفروع نضرب أمثلة ونستلهم المعاني من قصص أولائكم النفر الكرام من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
الهمة في العبادة
أما الهمة في العبادة: فإن الله سبحانه وتعالى قد رغبنا في ذلك، وذكر لنا حال أصحاب الهمم العالية في العبادة؛ مثل: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:16-17] وهذا النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الأمة قاطبة في همته، فهو أعلى الناس همة في العبادة كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه. قال ابن مسعود : [صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه] يعني: يكمل الصلاة قاعداً. وروى مسلم عن حذيفة قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه). والأمثلة كثيرة في الصحابة والتابعين وذكرنا طرفاً صالحاً من هذا في محاضرة بعنوان: "اجتهاد السلف في العبادة"، فلا نطيل في ذلك. ولكن لنعلم -أيها الأخوة- أن الشيطان يثبط الإنسان أن تكون له همة في العبادة، والشيطان يعقد على قافية رأس أحدنا بثلاث عقد حتى لا يقوم الليل، فإذا قام وذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت، وإذا صلى انحلت كل العقد، ولما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجلاً نام حتى أصبح، قال: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنه). أما بالنسبة للهمة في البحث عن الحق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- كان يسأل الله أن يوفقه للحق ويدعو ربه ويناجيه في الليل وهو يصلي ويقوم الليل: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك). الإنسان مطالب بالوصول إلى الحق، وأن يحاول ذلك، سواء كان في مسائل الاعتقاد، أو العبادات ومعرفة الصواب والحق فيها، ينبغي أن يبذل جهده في ذلك.
الهمة في طلب الحق
ولنأخذ مثلاً واحداً يبين لنا الهمة العالية في البحث عن الحق، إنه سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد كان أبوه من عباد النار من المجوس، وكان مع أبيه يحش النار، فحصلت له حادثة حيث أرسله أبوه في أمر فمر على ديرٍ للرهبان فتعرف على دين النصرانية فأعجب بهم فأخبر أباه فسجنه وقيده بالسلاسل، فأرسل إلى أولئك النصارى يسألهم عن أصل هذا الدين، قالوا: هو بـالشام ، فأرسل إليهم يقول: إذا كان هناك أناس يريدون السفر إلى الشام فأعلموني فلما علم حلَّ القيد وهرب وخرج إلى الشام، وذهب إلى أسقف في كنيسة يخدمه ويتعلم منه ويبحث عن الحق، فإن عبادة النار هذه لا تجدي، ولا تنفع، ولا تصلح. ولما أوشك الرجل على الموت عَلِم سلمان أنه كان رجل سوء، وأنه كان يأخذ من صدقات الناس ويخزنها، فدل الناس عليه فرجموه وصلبوه ولم يدفنوه، وجعلوا واحداً بدلاً منه وكان رجلاً صالحاً على دين التوحيد، يعني: ملة عيسى عليه السلام، فلازمه سلمان رضي الله عنه يخدم ويتعلم منه فلما أوشك الرجل الصالح على الموت قال: لمن توصي بي من بعدك، فأوصاه إلى رجل بـالموصل ، فذهب إليه يتعلم منه، فلما نزل به الموت أوصاه إلى رجل بـنصيبين ، فلما حضرته الوفاة أوصاه برجل بـعمورية ، و سلمان ينتقل ويسافر من بلد إلى بلد. فلما نزل الموت بصاحب عمورية، سأله سلمان فقال: تدلني على من؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أنه بقي أحد على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظلك زمان يبعث فيه نبي من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. فلما واراه ودفنه أعطى كل ما يملك إلى رجال من تجار من العرب ليحملوه إلى أرض العرب، لكنهم ظلموه وباعوه عبداً لرجلٍ من وادي القرى فباعه على رجل من بني قريظة، فجيء به إلى المدينة وهو عبد، فأقام في الرق. وبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة و سلمان لا يدري عنه شيئاً، يعمل في النخل، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فجاء ابن عم اليهودي يخبره بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، و سلمان فوق النخلة فلما سمع الخبر قال: فأخذتني العرواء -يعني: الرعدة- حتى ظننت أني سأسقط على صاحبي، ونزلت أقول: ما هذا الخبر؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة، وقال: مالك ولهذا؟ ولكن سلمان عند المساء أتى النبي صلى الله عليه وسلم بطعام قال: هو صدقة، فلم يأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه مرة أخرى بطعام قال: هو هدية، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، و سلمان يقول: هذه واحدة، والثانية: فدار سلمان حول ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يتثبت من شيء فأرخى له الرداء فقال سلمان : فنظرت إلى الخاتم فعرفته فانكببت عليه أقبله وأبكي. يعني: بعد هذه السنوات الطويلة جداً وصل سلمان إلى هدفه، وعرف الحق، ترك أباه وأهله وفارق الأوطان وتغرب وأنفق كل ما عنده من البقرات والمال لأجل أن يسافر إلى المكان الذي فيه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وظُلِمَ وبِيْعَ عبداً فاشتغل في الرق سنوات طويلة جداً حتى وصل إلى الحق وعرفه. وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
الهمة في الدعوة إلى الله
وأما الهمة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهذه قضية ينبغي أن تكون مغروسة في أنفسنا؛ لأننا -أيها الإخوة- مطالبون بأمر إلهي ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125] يجب علينا أن ندعو لننقذ الأمة من الهلكة، الأمة الآن تعيش في أحط أوضاعها، وأسفل ما مر بها في تاريخها، ولو تأمل الداعية صعوبة المهمة لعرف أنه لا بد أن يكون صاحب إرادة قوية وهمة عالية؛ لأن هناك جهداً كبيراً يجب أن يبذل، فتصحيح الانحرافات الموجودة ليس أمراً سهلاً، والأمر أعظم مما قال عمر بن عبد العزيز لما قال: [ إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره ]. هذه الأمة الآن غارقة في المصائب والمعاصي، والكفر والشرك على رأس ذلك، إنها المحاربة من قبل الأعداء؛ يحاربون المساجد بالمراقص، والزوجات بالمومسات، والعقيدة بالفكر المنحرف والفلسفة، والقوة باللذة، يحاربوننا بأن يجعلوا همتنا دنية في اللقمة والجنس. والداعية إلى الله إذا رأى أهل الباطل وعملهم في دعواتهم الباطلة وسعيهم لنشرها حتى لربما كانت عجوزاً شمطاء في المجاهل والأدغال مع ضعفها وقلة حيلتها تعمل لأجل الصليب، أو غير ذلك من الأفكار المنحرفة، ويسهرون الليل، وينفقون الأموال، فالعيب الكبير في الشخص أن يتقاعس عن الدعوة وهو ينظر إلى أولئك القوم. والداعية إلى الله يعلم أنه منصور، وإن لم يكن منصوراً بالسنان فهو منصور بالحجة والبيان (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله). وتأمل في قوة إرادة النبي صلى الله عليه وسلم وعلو همته في الدعوة لما بعث ولم يكن في الأرض في ذلك الوقت إلا هذه البشرية المنحرفة، تأمل حال رجل واحد مطلوب منه التبليغ وحمل الناس على الدين، وإقامة الإسلام في الأرض، وهو واحد أمام هذا الكم الهائل من ركام البشرية المنحرفة التائهة الغارقة في الشرك والوثنية، كم تكون المهمة صعبة والحمل ثقيل؟ رجع يقول: (زملوني زملوني) من هول ما ألقي عليه من هذه التبعات العظيمة، لا يقام بهذه المسئولية إلا من قبل رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، أصحاب همم عالية وإرادات قوية، والدعوة إلى الله طبيعتها الابتلاء والفتن والمحن، ولا بد من صبر. الدعوة تحتاج إلى بذل أوقات، وهذا نوح ظل يدعو قومه أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً [العنكبوت:14]. الدعوة إلى الله تحتاج لصاحب همة عالية يدعو إلى الله سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، في جميع الأحوال والظروف، وينوع الوسائل. والداعية إلى الله يرحل ويتجول في أي مكان سافر وإلى أي مكان ارتحل فهو يدعو، تأمل حال الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك ). لاحظ: أتانا رسولك؛ هؤلاء رسل النبي صلى الله عليه وسلم يجوبون القفار والصحاري وينتقلون بين القبائل لتبليغ الدعوة، أسفار ومشاق وصرف أموال وتعب، لكن هذه حال الدعوة. والداعية وقف لله تعالى لا يصلح أن يترك هذه المهمة، أو يقول: أدعو سنة وأنام سنة، كلا. وقد تكلمنا في بعض المحاضرات الماضية عن أساليب الدعوة، ووسائل الدعوة، وبعض صفات الداعية، فلا نطيل بهذا ولكن القضية تذكير بأن المهمة في عصرنا صعبة ولكنها واجبة، ولا بد أن نكون أصحاب إرادات كبيرة وهمم عليا لنقوم بهذه الدعوة.
الهمة في الجهاد في سبيل الله
أما الجهاد في سبيل الله: فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام حكى لنا حال رجل مَثَّلهَ بألفاظ عجيبة تبين همة هذا الرجل العالية في الجهاد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خير معاشر الناس رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعةً أو فزعةً طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه). هذا رجل على أهبة الاستعداد، دائماً مستعد ممسك بعنان فرسه، أي وقت سمع منادي الجهاد طار ولم يمش مشياً، بل طار على الفرس يبتغي مظان الموت، وأين يوجد القتل فيدخل في المعترك. حديث صحيح رواه مسلم . (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل ويحتمي به أصحابه). وتمنى ألا يتخلف عن سرية قط، لكن لأجل بعض المصالح، ومع ذلك قاد عدداً كبيراً من الجيوش والسرايا، وأصحابه ساروا على منهاجه، وانظر إلى همة أنس بن النضر العالية في قتاله حتى ما بقي منه إلا ما عرفته أخته به وهي بنانه، سبعون موضعاً في جسمه ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح، و حمزة في أحد قال الراوي: مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هداً ما يقوم له شيء، يقول: يا بن أم أنمار! يا مقطعة البظور! أتحاد الله ورسوله؟! فيضربه فكان كأمسٍ الذاهب. ولعل من أعجب الأمثلة وأروع الأمثلة في تاريخنا الإسلامي لصاحب همة عالية في الجهاد، الرجل الذي مع شهرة اسمه لكن لا يعرف من أفعاله إلا القليل، إنه خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ هذا الرجل عجيب فعلاً فيما قدم لهذا الدين في الجهاد والقتال، أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد حينٍ، ولكن سخر قوته ومواهبه لله ورسوله، وقاد جيشاً من المسلمين في فتح مكة ، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أرسله وبعثه بعوثاً ارتدت العرب، وكانت مهمة عظيمة ملقاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فعرف كيف ينتقي سيفاً من سيوف الله، فوجهه إلى أشد الخصوم مسيلمة الكذاب وقاتلوا في ليالي اليمامة وأيامها مقاتلة شديدة حتى أظفرهم الله على المرتدين. وبرغم قساوة وشراسة معارك الردة -التي مع الأسف ليست معروفة لكثير من الأجيال المسلمة التي ينبغي أن تدرس بعناية؛ لأن فيها أموراً كثيرة مما ينطبق في زماننا- لم يقعد خالد وإنما وجهه أبو بكر لغزو فارس، بادئاً بثغر أهل الهند و السند ، وأرسل معه أناساً، فقام خالد رضي الله عنه فقسم الجيش إلى ثلاث فرق، وأعدهم عند الحفير، وراسل هرمز يدعوه إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وجاء هرمز بجيشه، ونزل على الماء ونزل المسلمون على غير ماء، وكلموا خالداً فقال: حطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين، وربط الفرس بعضهم بالسلاسل، ودعا هرمز خالداً للمبارزة يريد الخديعة، حتى إنه جعل خطة بحيث إن هناك أناساً من الفرس ينقضون على خالد من الخلف أثناء المبارزة، ولكن القعقاع وهو قائد إسلامي آخر كان منتبهاً فحمل عليهم فقتل خالد هرمز، وانهزم الفرس وأرسلت الغنائم إلى أبي بكر. ثم دخل في واقعة المذار وكان هرمز قد كتب لـأردشير يستمده، فأمده بقائد منهم، فالتقى الجيشان مع فلول جيش هرمز في ذلك المكان، فنهض خالد لقتالهم على التعبئة، وخرج إليهم فاقتتل الجيشان وانهزم الفرس وكانت مقتلة عظيمة. ثم وقعة الولجة التي أرسل فيها الفرس جيشاً كثيف العدد ونهض لهم خالد وخلفه من يحمي ظهره وقسم الجيش وأعد الكمائن واقتتل الجيشان واستعرت الحرب وصار الظفر للمسلمين وولى الفرس ومات قائدهم من العطش. ثم انتقل إلى وقعة أليس -وهم جماعة من عرب الضاحية نصارى من بكر ووائل- الذين عبئوا أنفسهم للثأر وراسلوا الفرس فأمدوهم، وعلم خالد باجتماعهم فذهب إليهم وعاجلهم واقتتل الجيشان مقتلة عظيمة, ونذر خالد لئن أظفره الله بهم ليجرين نهرهم بدمائهم، وهزم الله الفرس وأسر المسلمون الكثير منهم، ثم قتلوهم حتى جرى النهر بدمهم، فسمي نهر الدم، وكان خالد يقول: ما لقيت من أهل فارس قوماً كأهل أليس ، وقسم الغنائم وأرسل الخمس إلى الخليفة. ثم واقعة أنغيسيا التي أكمل خالد بجنده إليها وقاتل أهلها وولوا تاركين كل شيء، ما إن اقترب خالد حتى هربوا وتركوا كل شيء غنيمة. ثم توجه إلى الحيرة وخرج المرزبان بجنده وجعل خالد الجيش على سفنٍ في الفرات، ولكن الفرس عملوا مكيدة، بأن فجروا أنهاراً فرعية لتقف سفن المسلمين بأحمالهم، وفعلاً وقفت سفن المسلمين بأحمالها، لكن خالداً لم يكن ليحتار ويضطرب ولا يدري ماذا يفعل، وإنما انفلت بكتيبة من المسلمين وقاتل المرزبان على حين غفلة من جيشه حتى هزمهم وهم القائمون على الأنهار الفرعية، وأجرى الماء في الفرات فرجع الماء وحملت سفن المسلمين، ودخل الحيرة وفتحها وأعمل القتل فيها، وخير قساوستها فاختاروا الجزية، فأرسل إلى أبي بكر الصديق. ثم انتقل إلى الأنباط ، وهكذا من معركة إلى أخرى، ثم إلى عين التمر وهي واقعة عجيبة، ثم إلى دومة الجندل ثم إلى الخنافس و الحصيب وهي وقعة أخرى. ثم ينتقل خالد بن الوليد من مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة الفراض التي تحالف فيها الفرس والروم ونصارى العرب في جيش واحد ضد خالد بن الوليد وجيش المسلمين، وفتحها الله. ثم معركة اليرموك المشهورة وأنتم تعلمون ما حصل فيها، وظهرت العبقرية العجيبة لـخالد بن الوليد حينما أراد أن يفاجئ الروم من مكان لا يحسبون له حساباً، فاختار أن ينطلق من العراق إلى الشام عبر بادية الشام الصحراء -التي تقطع الآن بسيارات بعشرين ساعة مع الراحات- أتى خالد بدليل يدل الطريق، وأمر بحمل الماء وأمر بعشرين جزوراً سماناً عظاماً فأظمأها حتى اشتد عطشها ثم أوردها الماء، حتى رويت فقطع مشافرها وعكمها حتى لا تجتر، وكان كل يوم له منزل يعمد إلى أربع من الإبل فيقطع أسنمتها ويأخذ ما في كروشها ويسقيه الخيل حتى كان المنزل الأخير، فوفقهم الله حتى عبروا ذلك المكان، وفاجأ الروم من المكان الذي لا يحتسبونه. ولما حوصرت دمشق من أبوابها المختلفة كانت الفرقة التي فيها خالد هي التي دخلت دمشق وهو الذي قال لهم: انتظرونا فإذا سمعتمونا كبرنا فاقتحموا، فصعد هو ومن معه على الأسوار ونزلوا على الروم الحراس وقتلوهم وفتحوا الأبواب وكبروا، فدخلت جيوش المسلمين إلى دمشق ، وكان بعض أهلها قد صالحوا المسلمين في الجهة الأخرى، فبعض دمشق فتح عنوة وبعضها فتح صلحاً. وهكذا يستمر خالد بن الوليد ، وفي معركة من المعارك تواجه جيش خالد مع جيش عقة بن أبي عقة النصراني العربي الذي كان يجهز الجيش، فلمح خالد ثغرةً فترك جيشه وانطلق إلى القائد المشرك الكافر فأخذه واحتضنه ورجع به أسيراً فانهزم جيشه. وفي معركة من المعارك حاصر المسلمون حصناً، فقال بعض المسلمين لـخالد : إن هؤلاء إذا رأوا وجهك لا يخرجون خارج الحصن، مع أننا نريد أن يخرجوا لكي نقاتلهم، فخرج خالد نهاراً وهم يرونه مبتعداً، ثم دخل ليلاً في الجيش مرة أخرى، وفي الصباح خرجوا لأنهم علموا أن خالداً خرج، فخرجوا من الحصن ليقاتلوا فصبحهم خالد بوجهه فهزموا، رضي الله تعالى عنه. ويستمر حتى يطيع أمر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد حين برجوعه إلى المدينة ، ويكون عنده حتى وافاه الأجل رضي الله عنه. وفي إحدى الغزوات بعدما فتح مدينة أخذ فرساناً وذهب إلى الحج -قطع مسافة إلى عرفة - مباشرة فحج ورجع فلما رآه أصحابه حليق الرأس عرفوا أنه قد حج.
الهمة في طلب العلم
وأخيراً من الهمم العالية في طلب العلم، وهي كثيرة جداً وننتقي بعض المقاطع: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، قال: واعجباً لك يا بن عباس ! أتظن أن الناس يحتاجون إليك وفيهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟! فتركت ذلك وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو نائم القيلولة، فأتوسد ردائي على بابه فتسفو الريح عليَّ التراب فيخرج فيراني فيقول: يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ألا أرسلت إليَّ فآتيك، فأقول: أنا أحق أن آتيك فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليّ، فقال: هذا الفتى أعقل مني]. الهمة العالية تجعله يتوسد عند الباب في الظهيرة، هذا الرجل نائم و ابن عباس عند الباب، والريح تأتي بالتراب ينتظر للمسألة العلمية. وهذا عروة بن الزبير، فعن هشام عن أبيه أنه كان يقول لنا ونحن شباب: [مالكم لا تتعلمون؟ إن تكونوا صغاراً فيوشك أن تكونوا كباراً، وما خير الشيخ أن يكون شيخاً وهو جاهل، لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته، ولقد كان يبلغني عن الصحابي الحديث فآتيه وأجده قد قال، فأجلس على بابه ثم أسأله عنه]. وكان عامر بن قيس التميمي مقرئاً يقرئ الناس القرآن فيأتيه ناس فيقرئهم القرآن، ثم يقوم فيصلي إلى الظهر، ثم يصلي العصر، ثم يقرئ الناس إلى المغرب، ثم يصلي ما بين العشاءين فينصرف إلى منزله، ثم يأكل رغيفاً وينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى صلاته، ثم يتسحر رغيفاً ويخرج. قيام وصيام وقراءة قرآن من الصباح إلى الليل. أما سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال: كنت أجلس بالغدوات لـابن أبي مالك وأجالس بعد الظهر إسماعيل بن عبيد الله وبعد العصر مكحولاً. وأما القعنبي فقال أبو حاتم : ثقة حجة لم أر أخشع منه؛ كان إذا مر بمجلس القوم قالوا: لا إله إلا الله، ذكروا الله عز وجل، سألناه أن يقرأ علينا الموطأ، فقال: تعالوا بالغداة، فقلنا: لنا مجلس عند الحجاج بن منهال ، قال: فإذا فرغتم منه؟ قلنا: فنأتي حينئذٍ مسلم بن إبراهيم ، قال: فإذا فرغتم؟ قلنا: نأتي أبا حذيفة النهدي ، قال: فبعد العصر؟ قلنا: نأتي عارماً أبا النعمان ، قال: فبعد المغرب؟ فكان يأتينا بالليل، فيخرج علينا وعليه كبلٌ ما تحته شيء في الصيف، فكان يقرأ علينا في الحر الشديد حينئذٍ. هذا يدل على أن أبا حاتم وأقرانه كانوا يطلبون العلم ويجلسون المجالس المتواصلة في ذلك. وحدث بعض أهل العلم وهو ابن حبان عن بعض العلماء - ابن حبان يحدث عن نفسه- قال: لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ، قال الذهبي : كذا فلتكن الهمم، هذا مع ما كان عليه من الفقه والعربية والفضائل الباهرة وكثرة التصانيف رحمه الله. وقال محمد بن علي السلمي : قمت ليلة سحراً لآخذ النوبة على ابن الأخرم فوجدته قد سبقني ثلاثون قارئاً ولم تدركني النوبة إلى العصر. و ابن الأخرم كان له حلقة عظيمة بجامع دمشق يقرءون عليه من بعد الفجر إلى الظهر. و الطبري قال لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا، قالوا: كم قدره؟ قال: نحو ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، قال: إنا لله! قد ماتت الهمم. فاختصر ذلك في قرابة ثلاثة آلاف ورقة. وأما السمعاني رحمه الله فإنه طوف البلاد وأخذ عن مشايخ لا يعدون، وذهب إلى أبي ورد وإسفرائين والأنبار وبخارى وبسطام والبصرة وبلخ وترمذ وجورجان وحماه وحمص وحلب وخسرو وجرج والري وسرخس وسمرقند وهمذان وهرات والحرمين والكوفة وواسط والموصل ونهاوند والمدائن ولم تكن هناك طائرات ولا سيارات ولا قطارات، وإنما المشي على الأرجل والدواب حتى دخل بيت المقدس و الخليل وهما بأيدي الفرنج، حيث استخدم الحيلة وخاطر ودخل رغم أنها تحت احتلال النصارى. السلفي الذي ذهب يطلب العلم وله أقل من عشرين سنة، ونسخ من الأجزاء ما لا يحصى، وكان ينسخ الجزء الضخم في ليلة، وبقي في الرحلة ثمانية عشر عاماً. و أبو طاهر قال: بلت الدم في طلب الحديث مرتين؛ مرة بـبغداد وأخرى بـمكة ، وقال: كنت أمشي حافياً في الحر فلحقني ذلك، وكنت أحمل كتبي على ظهري، وما سألت في الطلب أحداً -يعني: ما سأل أحداً مالاً- قيل: أنه كان يمشي في اليوم والليلة عشرين فرسخاً؛ والفرسخ تقريباً خمسه كيلو مترات. وروي عن سليم الرازي قال: كان أبو حامد الإسفراييني في أول أمره يحرس في درب -لكن له همة عالية ولو كان يحرس في درب- وكان يطالع على زيت الحرس -يقرأ على مشاعل الحرس- وأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة. عطاء بن أبي رباح كان فراشه المسجد عشرين سنة. الزهري جلس يتذاكر الحديث من بعد العشاء حتى أصبح، وعدد من السلف فعلوا ذلك. الإمام مالك قَلَّ أن يصلي الصبح بوضوء جديد وإنما كان يصلي بوضوء العشاء تسعاً وأربعين سنة. وكيع بن الجراح والإمام أحمد تذاكرا الحديث من العشاء إلى آخر الليل. كان أسد بن الفرات يجلس عند محمد بن حسن الشيباني يتلقى منه الحديث، وكان ينثر في وجهه الماء -ينضح- لكي يصحو ويبقى منتبهاً في الدرس. أحمد بن حنبل كان يذهب من قبل الفجر إلى مجلس الشيخ ليتبوأ مكانه، وكان يقول: من المحبرة إلى المقبرة. كان البخاري يستيقظ عشرين مرة في الليل ليسجل ما يخطر له، يشعل السراج في كل مرة ويطفئه. هذه هي الهمم العالية، هذا الحفظ، والعلم، والرحلة، والتأليف والتصنيف، وهذه المجالس، وهذا الحرص على الحضور. هذه -أيها الإخوة- نماذج مما كان عليه سلفنا رحمهم الله في طلب العلم والهمم العالية فيه. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يقوي إراداتنا في طاعته، وأن يجعلنا من أصحاب الهمم العالية في سبيله مجاهدين وعلماء عاملين، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
شرح حديث " المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف..... "