غزة عنوان ملحمة تاريخية عظيمة مفعمة بالمجد والعز والإباء، تسطرها إرادة الميامين الشجعان الذين لا تلين لهم قناة، والذين عاهدوا الله واشتروا آخرتهم بدنياهم. وهي ملحمة الأمهات الثكلى والأطفال الذين يتألمون ويرجون من الله ما لا يرجوه أباطرة الحصار وخدامهم من العربان. هذه ملحمة تاريخية طويلة بدأت فصولها مع فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، وما زالت تتعمق في تاريخيتها لتكون من أساطير التاريخ الواقعية الشاهدة على الذين لا يعرفو الله، ولا يقدرون الإنسان. ولا أشك بأن الروائيين والمخرجين السينمائيين والتلفزيونيين سيجدون فيها ما يؤرخون له للحضارة الإنسانية.
لا أعرف في التاريخ قوما اجتمعت عليهم أقوام المشرق والمغرب، من بلدان العرب والعجم، من أهل الإسلام وغير الإسلام مثلما تجتمع الآن على غزة وأهل غزة. لقد حصل حصار في التاريخ ضد أقوام مثلما حصل ضد العراق في الآونة الأخيرة وضد كوريا الشمالية، ومثلما حصل ضد بني هاشم في مكة مع بداية الدعوة الإسلامية، لكن مثل هذا الحصار، في مجاله ومداه وأعداد المشاركين فيه، لم يحصل. وليت مؤرخا يعرف غير ذلك أن يطلعنا على علمه. هذا حصارتشارك فيه إسرائيل وفلسطينيون، ودول غربية عديدة من الولايات المتحدة حتى جبال الأورال، وروسيا وأواسط آسيا ودول أفريقية ولاتينية وشرق آسيوية كثيرة ودول عربية كثيرة مثل مصروالأردن والإمارات والسعودية والبحرين والمغرب وتونس. ومن لا يشارك في الحصار لا يهب للنجدة. فقط دول قليلة تحاول مساعدة غزة من خلال التهريب وعلى رأسها الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسوريا والسودان، وهناك دول أخرى تعمل على تقديم عون مادي ومعنوي وسياسي علني مثل تركيا وقطر وماليزيا وفنزويلا، إنما هناك جماهير غفيرة في مشارق الأرض ومغاربها تقف مع غزة، وجمعيات حقوق إنسان كثيرة، ومنظمات وأحزاب عديدة على رأسها حزب الله وجورج غالاوي.
أغلب دول الأرض تشارك في حصار غزة جوا وبرا وبحرا. إسرائيل تتكفل بالخطوط الشرقية والشمالية للقطاع وتضرب حصارا مشددا إلا من بعض المواد المتفق عليها من قبل المحاصِرين، ومصر تتكفل بالخط الفاصل بين القطاع وسيناء بإشراف إسرائيلي وأمريكي، هذا فضلا عن الطيران الإسرائيلي الذي يراقب أجواء غزة باستمرار ويتجسس على كل ما يتحرك فيها. توفر الدول الغربية مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا بالتعاون مع مصر وإسرائيل قطعا بحرية كثيرة تجوب البحرين الأبيض المتوسط والأحمر للتأكد من أن سفنا تحمل معونات لغزة لا تتحرك، أو لا تصل إن تحركت. هذا ناهيك عن الأقمار الصناعية التي لا تغادر أجواء غزة، ومن المحتمل أن هؤلاء المجرمين قد وظفوا من الأقمار الصناعية لمراقبة القطاع أكثر مما يوظفون لدراسة المناخ. إنهم يعملون بجنون ضد غزة، أو أن أعمالهم تؤكد مدى الهستيريا التي تسيطر تنتابهم. وهذا الجدار الذي تبنيه أمريكا على طول خطوط غزة مع سيناء بأيدي أنذال العرب ما هو إلا الدليل الصارخ على هذه الهستيريا.
هل غزة خطرة إلى هذا الحد؟ نعم. بغض النظر عن الاتفاق مع ما تطرحه حماس أو عدمه، هناك خطر كبير تمثله غزة على إسرائيل والأنظمة العربية والهيمنة الأمريكية على المنطقة. بالنسبة لإسرائيل، استطاعت حماس أن تقيم رأس جسر، أو نقطة ارتكاز فلسطينية في غزة، وأكدت عليها كحقيقة واقعة بعد حرب الفرقان أو حرب الكوانين. لأول مرة بعد حرب عام 1948، تنتقل المعركة من خارج فلسطين إلى داخل فلسطين، وبالنسبة لإسرائيل هذا تطور خطير جدا لأن الفلسطينيين يحاربون الآن من على أرضهم، ولم يعودوا تحت رحمة أنظمة عربية في مواجهتهم للعدو. وما دام رأس الجسر قد تشكل فإنه مرشح لاكتساب القوة مما يشكل خطرا استراتيجيا على إسرائيل. شنت إسرائيل حرب الكوانين على أمل تدمير هذا الرأس وتغيير الأوضاع السياسية في غزة لكنها فشلت. وبالنسبة للأنظمة العربية، أي انتصار لأي مقاومة عربية أو دولة عربية "شاذة" يشكل هزيمة لهذه الأنظمة، وينذر بتغييرها. هذه الأنظمة تقوم على الهزيمة، ولا تستمتع إلا بالضعف، ولا يحصل القائمون عليها على النعم الأمريية من أموال وغيرها إلى إذا اصطفوا دفاعا عن إسرئيل والمصالح الأمريكية في المنطقة. وظيفة هؤلاء الحكام هي إبقاء الأمة العربية جاهزة لبغاة العالم. ولهذا شن هؤلاء العرب حملة شعواء على انتصار حزب الله، وعلى صمود حماس. إنهم يكرهون النصر ويعشقون النعال فوق رقابهم. أما أمريكا وحلفاؤها فيرون في استقرار المنطقة هدفا من الضروري المحافظة عليه إذا أرادوا المحافظة على مصالحهم، ويجب ملاحقة كل قوى التغيير في المنطقة. ولهذا لا مفر من تشديد الحصار على غزة، أيضا على حزب الله والمقاومة العراقية والأفغانية واليمنية، الخ.
يتسلى بعض الفلسطينيين في الضفة الغربية في ذرف الدموع على أهل قطاع غزة لأنهم لا يجدون ما يأكلون، ولا ما يشربون، وذلك للتدليل على أن الضفة الغربية منغنغة مبغددة ولا تنقصها المواد الاستهلاكية ولا الأموال، ولسان حالهم يقول: اخضعوا لإرادة إسرائيل وأهل الغرب، وسيروا في طريق المفاوضات الفاشل والعقيم ونسقوا أمنيا مع إسرائيل وسترتاحون من الهموم. هؤلاء يؤكدون على أن الضفة الغربية هي التي تعيش المأساة الحقيقية لأنها تبادل الحقوق الوطنية بحفنة من الأموال. صحيح أن البضائع متوفرة في الضفة الغربية، وهناك الكثير من الأموال، لكن هناك أيضا الكثير من الخزي والعار والإذلال.
الأمم الحية هي التي تصون أوطانها وأعراضها وحقوقها ولو على حساب راحتها اليومية، أما أولئك الذين يؤثرون رغد العيش على كبريائهم وكرامتهم فلا موطن لهم غير الحفر. نحن في فلسطين لا نستطع أن نحيا بحرية وبأموال الغرب في آن واحد، فإما هذه وإما تلك، ومن اختار الأموال لا يحق له أن يطعن الباحثين عن الحرية.
هناك مآخذ على أداء حماس في غزة أهمها عدم إشراك الفصائل والقوى الأخرى في إدارة القطاع، لكن البديل للإصلاح ليس تأييد العدو.