موضوع: القهوة المُرّة في التراث العربي الثلاثاء ديسمبر 29, 2009 7:44 am
أصل القهوة: من الحبشة، ويعزو بعضهم اسمها إلى قرية صغيرة في الحبشة تدعى( كفا )حيث ينبت بها البن البرّي، فانتشرت عن طريق اليمن في البلاد العربية ،ومنها :إلى جاوا فسيلان فسورينام، عام/ 1781 /فجمايكا ،فجزر الهند الغربية، فالبرازيل، حيث ينبت في الوقت الحاضر أكثر حاصلات البن في العالم، وقد ذكرت القهوة لأول مرة في القرن الخامس عشر للميلاد، وجاء في تاريخ ابن العماد ( شذرات الذهب في أخبار من ذهب ) أن أبا بكر بن عبد الله الشاذلي ابتكر صنعها من البن المجلوب من اليمن ،فرأى أنها تجلب السهر، وتنشط على العبادة فأرشد أتباعه إلى استعمالها فانتشرت في البلاد العربية عام /909هـ/ فحرّمها جماعة من المشايخ مثل شهاب الدين العيناوي الشافعي،وأحمد بن عبد الحق السنباطي، فعارضهم بذلك النجم القرني وقال بتحليلها في كتابه الكواكب السائرة بمناقب أعيان المئة العاشرة، أمّا الشيخ أبو الحسن البكري المصري الشافعي من آل أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان جامعا بين العلم والعمل وهو ممن اتفقوا على ولايته وجلالته وبلوغه رتبة الاجتهاد لا يفارق الكتاب من يده وينظر فيه دائما فقد سئل عن شرب القهوة وذكر له أن المغاربة يحرمونها فقال: كيف تدعى بالحرام وأنا أشرب منها ،وفي رسالة في القهوة وتحريمها للشيخ يونس الغيثاوي خطيب الجامع الجديد بدمشق ردّها عليه أهل عصره وعقدوا مجلسا عند سنان باشا نائب الشام والزموه بتحليلها فلم يرجع واستمر مصّراً.
أما أوربا فعرفتها في القرن السابع عشر للميلاد وفتح أول محل لشرب القهوة في اسطنبول ،ثم في فينيسيا ثم في إنكلترا عام1652(1)م واسم القهوة نشرته العربية بين اللغات الأخرى، وذُكرت القهوة َ في كتاب "القانون في الطب" لابن سينا سُمّيت قهوة لأنها تقهي شاربها عن الطعام، أي تقلّ شهوته له أو تذهب به، قها أقهى عن الطعام واقتهى ارتدت شهوته عنه من غير مرض مثل أقهم يقال للرجل القليل الطعم: قد أقهى وقد أقهم وقيل :هو أن يقدر على الطعام فلا يأكله وإن كان مشتهيا له، وأقهى عن الطعام :إذا قذره فتركه وهو يشتهيه وأقهى :الرجل إذا قل طعامه وأقهاه الشيء عن الطعام كفه عنه أوزهّده فيه وقهي الرجل قهيا لم يشته الطعام و قهي عن الشراب وأقهى عنه تركه، ورجل قاه مخصب في رحله وعيش قاه رفيه، والقهوة الخمر سميت بذلك لأنها تقهي شاربها عن الطعام أي تذهب بشهوته وفي التهذيب أي تشبعه قال أبو الطمحان يذكر نساء
فأصبحن قد أقهين عني كما أبت
حياض الأمدان الهجان القوامح
وعيش قاه :بين القهو والقهوة خصيب القاهي الحديد الفؤاد المستطار قال الراجز راحت كما راح أبو رئال قاهي الفؤاد دائب الإجفال(2)وأقهى: دام على شرب القهوة. ويقال: فلان عبد الشهوة،أسير القهوة(معجم فِصاح العامة)
اعتبرت القهوة عند العرب رمزاً من رموز الكرم والتفاخر والضيافة، فتقديمها للزائر إشارة تكريم، وقد حظيت بالاحترام عند معدّيها وشاربيها على حدٍّ سواء، وقد نتج عنها منظومة سلوكيات لغوية تؤشر للدلالات التي ترافق عملية وطرق تقديمها للآخر على امتداد ساعات النهار، وفي مختلف المناسبات الاجتماعية من استقبال وأفراح وأتراح.وبالطبع دخلت القهوة مألوفيات الحياة اليومية بما في ذلك المعتقدات الشعبية، ومنها أن صاحب البيت هو أول من يشربها للتأكد أنها جيدة الصنع قبل تقديمها للضيوف ،وليطمئن الضيف أنها غير مسمومة وهذا هو الإيثار والجود بالنفس فأن كانت القهوة مسمومة فإنه يؤثران لا يصاب ضيفه بمكروه ،ويقدم نفسه فداء ضيفه تحاشيا من العار الكبير الذي سيلحق به لو أن ضيفه أصابه مكروه في بيته . ومنها: اعتبارهم كبّ القهوة خير، لكن البعض يسارع إلى انتقاد هذه المقولة كبّوا القهوة من عماهم وقالوا الخير إجاهم.) ومن التقاليد العربية المتبعة في طلب يد الابنة للزواج أن يعرض أهل العريس عن شرب القهوة ،ويضعون الفناجين على الأرض بانتظار الجواب، وعندما يتوافقون، تدار فناجين القهوة، ويبدو أن مراسم الزواج عند الأردنيين (السلط)وفي الجزيرة السورية ، تقضي أن يمتنع الخاطبون عن شرب القهوة إلى أن يقول لهم والد العريس: اشربوا قهوتكم… (إلي جيتوا فيه ابشروابيه) وتقدّم القهوة المرّة في مناسبات العزاء وينبغي عند الانتهاء من ارتشافها: الترحّم على المتوفى، ويتحاشون كلمة( دايم )تطيرا من استمرار الموت فيهم ، إن موضوع القهوة في تراثنا الشفوي إعداداً وشرباً وتقديماً، قد لا يستحوذ في إطار اجتماعنا الثقافي على انتباه الكثير من باحثينا المعاصرين لاستكناه مختلف مدلولاته، فهو يندرج ضمن الطقوس اليومية المبتذلة والشائعة إلى درجة اعتبارها من باب البديهيات ،أو تحصيل الحاصل، لكن المتتبع للكم الذي يختزنه مأثورنا الثقافي عن القهوة ودواوينها أو مجالسها وأشعارها وأمثالها الشعبية وتعابيرها المعتمدة وأسماء أدواتها المستخدمة ( القمقم, العشرة، المَصَب, النجر، المحماسة، الجربة، المهباج، المعاميل، الدلة، الغلاية، الماشة…)فضلا عن طقوسها والأمثال والأشعار التي تقال فيها، يدرك أهمية هذا المخزون النوعي الذي نسّقته الجماعة ووضعته بتصرّف الأفراد باعتباره واحداً من المؤشرات الصادقة التي تعكس حقيقة تعاملهم مع العوالم الاستهلاكية التي ينظر إليها البعض باعتبارها(ثقافة شعبوانية) في حين يمحضها الباحث اللساني جل اهتمامه باعتبارها وجهاً من وجوه الاجتماع الثقافي3) )والعرب، يفاخرون بشربها وتقديمها للضيوف عند قدومهم للترحيب بهم وعند وداعهم، كما تعدّ مظهراً من مظاهر الرجولة في نظرهم، ويعقدون لها المجالس الخاصة التي تسمى بالشبة، القهوة، الديوانية, الديوان، الربعة, المضافة،وقالوا فيها :بديع شعرهم فهذا قول بعضهم:
الكيف ما هو كيف شربَ السجارة يا شاربين التتن ما انتم على خير
الكيف فنجان قهوة وهمّك توارى من دلّةٍ منصوبة للخطاطير
وولاد عم ٍحول ٍ منك تِبارى حين َالملازم ينطحون الطوابير
والكيف بيض ٍ من خيارَ العذارى مربوعة ٍ من خاص بيضَ الغنادير (4
لكن مفارقة في الموقف من الدخان وارتباطه بالقهوة يعبر عنها أيضا الأدب الشعبي بهذه الأبيات المنقولة بالتواتر وغير منسوبة إلى شاعر معروف يقول :
الله على العظم (5)يومنّي املاه من شاور ٍ يكوي علي ّ الجروحي
ومع دلّة ٍ على النار مركاة أبصر بصبّه على كيف روحي
صُبوبها يشبه صبوب َالخونداه الجاد اللي عند اهلها طموحي
ونستنتج من خلال هذه الأبيات جانبا مهما من تلك المنظومة تمثل بأولوية الكريم الجواد في تقديم القهوة على غيرة ويليه الفارس الشجاع،فضلا عن مفارقة واضحة في العلاقة بين الدخان والقهوة، ففي حين يكثر تعاطي التبغ وملازمته للقهوة، في بلاد الشام والمغرب والنيل نجده ينحسر إلى أدنى مستوياته في الخليج العربي، بينما يحل محله هنا التمر الذي يؤكل بعد القهوة لتخفيف مرارتها،كما يشير تشبيه الأبيات لقوام الدلة بقوام المرأة إلى مكانة القهوة وكرامتها وعظيم شأنها عند العرب ، وللقهوة طقوس خاصة بها واوان خاصة عند أهل البادية، تسمّى( الدلة) التي يجلبها بعض المضيفين من بلدان بعيدة وبأسعار باهظة طمعاً في السمعة الحسنة، وقد اشتهر بصناعتها أهل الشام والعراق، وكثيرا ما يزينون الدلة المصبّ بنقوش تعبّر عن بيئتهم فهذه الدلال الشامية تتزين بصور الطيورعلى جنباتها تعبيرا عن بيئة البادية وتحمل الدلة في رأسها صورة طائر يتجه نحو مصبّ القهوة، بينما في الخليج فتحمل صورة جوهرة تعبيرا عن صيدهم البحري، وقد صنعت على هيئة جسد امرأة نحيفة الخصر،ويهتمون كثيرا بجودة القهوة فتثور ثائرة المضيف إذا اخبره أحد إن قهوته فيها خلل أو تغير في مذاقها، ويعبّرون عن ذلك بقولهم: (قهوتك صايدة) ولكن بمودّة ودون أن يشعر بالكلام أحد لأن القهوة لا تعاب علنا نهما كانت ،وإن أعابها أحد فإن عليه إثبات ذلك ،ولابدّ في هذه الحالة أن يغيّر المضيف قهوته حالاً ويستبدلها بأخرى. وجرت العادة أن يقدّم الماء قبل القهوة لأنه لا يجوز طلب الماء بعد شربها مباشرة وإن طلب الضيف الماء فهذا يعني أن القهوة غير جيدة، القهوة تحظى بالكثير من الاحترام عند العرب، والقهوة لها عادات قبلية متعارف عليها بين الناس وكل القبائل، فيجب أن تقدِّم القهوة للضيوف وأنت واقف أما الجلوس أمام الضيف ومناولته الفنجان فمن أكبر درجات الإكرام والتبجيل، واعتاد (القهوجي )القائم على خدمة القهوة الجلوس أمام الضيف المهم وتكسير الفناجين أمامه للدلالة على أن لا أحد يستحق الشرب فيها بعده وهذه أعلى درجات التبجيل والإكرام، وقد يناوله عطاءً سخيا ً لقاء هذا الصنيع ولا سيما إذا كان في حضرة أقرانه، ولا يجوز العطاء لصاحب القهوة المضيف بل ويعدّ العطاء هنا إهانة له، وعليك أن تمسك بالدلة في يدك اليسرى وتقدم الفنجان باليد اليمنى ولا تجلس ابداً حتى ينتهي جميع الحاضرين من شرب القهوة، بل وأحيانا يستحسن إضافة فنجان آخر للضيف في حال انتهائه من الشرب ،خوفا من أن يكون قد خجل من طلب المزيد، وهذا غاية في الكرم عند أهالي البادية،عند سكب القهوة وتقديمها للضيوف يجب أن تبدأ من اليمين، أو تبدأ بالضيف مباشرة. والمتعارف عليه انك تصبّ القهوة حتى يقول الضيف (كفى) ويعبر عن ذلك بقوله: (بس) أو (كافي)أو (اكرم)أو دايم،أو بهز فنجان القهوة.ومن مهارة صبّ القهوة أن تحدث صوتاً خفيفاَ نتيجة ملامسة الفنجان للدلة. وكان يقصد بهذه الحركة تنبيها للضيف إذا كان سارحاً،أو متكئا لأنه لا يجوز تناول القهوة أثناء الإضجاع ويمكن تجاوزمن لا يعتدل في جلوسه عند قدوم القهوة، ومن لا يجلس باعتدال لتناول القهوة فأنه لا يرغب بالشرب إلا أن يكون شيخا مسنا أو مريضا ً، ولا يلحّون على غير الراغب بالشرب المعتذر عن الشرب بإيماءة بسيطة برأسه أو يده، ومن مهارة شرب القهوة أن يهز الشارب الفنجان يميناً وشمالاً حتى تبرد القهوة ويتم ارتشافها بسرعة، بلغ من احترام البدو والعرب في السابق للقهوة أنه إذا كان لأحدهم طلب عند المضيف، كأن يضع فنجانه وهو مليء بالقهوة على الأرض ولا يشربه، فيلاحظ المضيف ذلك، فيبادره بالسؤال: (ما حاجتك)؟ فإذا قضاها له، أمره بشرب قهوته اعتزازاً بنفسه. وإذا امتنع الضيف عن شرب القهوة وتجاهله المضيف ولم يسأله ما طلبه، فان ذلك يعد عيباً كبيراً في حقه، وينتشر أمر هذا الخبر في القبيلة، وأصحاب الحقوق عادة يحترمون هذه العادات فلا يبالغون في المطالب التعجيزية، ولا يطلبون ما يستحيل تحقيقه، كما لا يجوز وضع الفنجان على الأرض بعد الشرب لأن ذلك يترتب عليه مسؤوليات منها أنه يهم بالعطاء للقهوجي، فيقولون(من رمى الفنجان يملاه ) ويعد احتواء القهوة رمزاللكرم، والكرماء، والمفاخرة ،وتعبر قصة المؤامرة التي حاكها بعض مدعي الكرم أحد الشعراء استضافه ومضى يكرمه وفي كل ليلة يسأله بالله إن كان يعرف من هو أكرم فأنشد الشاعرفي حضرته هذه الأبيات التي قيلت بضاري أبو ردن وقيل أنه من سلالة حاتم الطائي
حزينه الدار والدلة عليهم كرام ويسأل الهاشل عليهم *
ياغراب البين ويش دلك عليهم عدّيت بديار عيين الطلاب
فعرف أن ضاريا أكرم منه لأنه يعرف أن هذه الأبيات قيلت به
وليست القهوة للسلم فقط بل تستخدم للحروب. فكافة القبائل في السابق، إذا حدث بينها شجار أو معارك طاحنة وأعجز إحدى القبائل بطل معين، كان شيخ العشيرة يجتمع بأفرادها ويقول: (من يشرب فنجان فلان ،ويشير بذلك للبطل الآنف الذكر)؟ (أي: من يتكفل به أثناء المعركة، ويقتله)؟ فيقول أشجع أفراد القبيلة: (أنا اشرب فنجانه) وبذلك يقطع على نفسه عهداً أمام الجميع بأن يقتل ذلك البطل أو يُقتل هو في المعركة، وأي عار يجلبه هذا الرجل على قبيلته إذا لم ينفذ وعده! هكذا تحولت القهوة من رمز للألفة والسلام إلى نذير حرب ودمار
تحمص القهوة أولا على النار بواسطة إناء معدني مقعر يسمى (المحماسة) وتحرّك القهوة حتى تنضج جميع جهاتها بواسطة عصاتين من الحديد تشبهان الملعقة الطويلة، ثم تطحن القهوة بواسطة إناء معدني يمسى(النجر- المهباش) وتوضع مع بهاراتها المعروفة، كالقرنفل والزعفران والهيل، وبعد غلي الماء في القمقم توضع القهوة العشرة لطبخها ومنها إلى الثنوة ،لتهيئتها لدلة أخرى أصغر منها اسمها البكر ومن البكر تنقل إلى المصب ، أما أدوات عمل القهوة كما تعرف في الخليج العربي(6) فهي التاوة : لتحميض القهوة ،المحماس : لتقليب القهوة أثناء تحميصها المخباط : لتقليب حبوب القهوة عند تحميصها في التاوة، أو المحماس ، المنحاز : الهاون وتطحن فيه القهوة ، ويصنع من الخشب أو الحديد،الفنجان لشربها السلة، أو المعاميل : وهي مجموع أدوات عمل القهوة من دلال وقدور وفناجين ،ومحماس ،وغيرها ،الكوار: ويطلق عليه كذلك المنقل أو ( المنكلة ) بلهجة أهل الخليج وهو وعاء معدني يوضع فيه الجمر، ويستخدم لإبقاء القهوة ساخنة الرشاد: وهو عبارة عن الأداة التي تستخدم في الدق والتنعيم، المنحاز ويصنع من الخشب أو الحديد أو النحاس ويعرف أيضا بالهاشمي ويستخدم في دق حبوب القهوة الدلال: ومفردها دلة، وهي معروفة منذ القدم لصناعة القهوة العربية وتقديمها، وكانت تصنع من الفخار، وهي عادة ما تكون ذات رأس عريض ومقدمة عالية ( كريشية )وتنقسم الدلال تبعا لاستخداماتها المختلفة إلى ثلاثة أنواع الخمرة: وهي أكبر حجما من دلال القهوة العادية، وتوضع دائما فوق الجمرعلى الكوار وبها الماء الساخن وما تبقّى من بقايا الهيل والبن،الملكمة: وهي الدلة المتوسطة الحجم، والتي يتم فيها تلقيم القهوة بعد نقل جزء من الماء الساخن من الدلة الكبيرة ( الخمرة ) فيرفع البن من قاعها ويقال لكم ) القهوة معلومة أي جهزها تمهيدا لصنعها.المزلة: هي أصغر الدلال المستخدمة في عمل القهوة، وتستخدم بعد طبخ القهوة في الدلة المتوسطة، حيث يصبّ فيها صافي القهوة، ويقال ( زل ) القهوة، ثم يوضع بها الهيل، وتستخدم لتقديم القهوة حيث تصبّ في الفناجين، ويمكن ترك قليل من القهوة القديمة واستعمالها كخميرة للقهوة الجديدة،وهناك قناعة تامّة لدى معديها وشاربيها على حدّ سواء أن الجراثيم لا تعيش في القهوة لكثافتها العالية ومرارتها واستمرار غليانها فهي تسخن إلى درجة الغليان مرتين في الأحوال العادية( قهوة الصبح وقهوة العصر ) وكلما قدم ضيف جديد لذا لا ضير من بقائها عدة أيام، والقهوة لا يطيب طعمها إن لم يكن ماؤها من أجود المياه وأنظفها فتتوقف جودتها على جودة الماء، وكان البدو يحرصون على حفظ الماء الخاص للقهوة في قربة خاصة، وللماء نسبة معلومة إلى نسبة البن ويقال أن حنيف الشاعر سقى أحد شعراء الحضر قهوة ماؤها كثير فقال له
خمسة عشر فنجال لحنيف صبيّت ولو هو يروّي قربة قد ملاها
فأجابه حنيف:
لا تحسب أني من دلالك تقهويت ما تِنَقَّه الشُّراب من كثر ماها
يا موصّي الحُرمة على صكة البيت تقول ماهو فيه ولو هو وراها (7)
وفي ذات المعنى قال آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان:
هاك فاشربها خليلي في مدى الليل الطويل
قهوة من أصل كرم سبئت من نهر بيل
في لسان المرء منها مثل طعم الزنجبيل
قل لمن ينهاك عنها من وضيع أو نبيل
أنت دعها وارج أخرى من رحيق السلسبيل
الأمثال في القهوة
فوِّت رحلة مصر ولا تفوِّت قهوة العصر. اعتاد الناس في القرى ارتياد الديوان ( المضافة ) يوميا عند الصباح ،وتسمى قهوة الصبح وعند العصر وتسمى قهوة العصر قهوتكم مشروبة، وهي كناية عن عبارة شكر تقال في معرض رفض مهذب لفنجان قهوة يعرض داخل المنزل. قهوتكم مشروبة ووجوهكم مقلوبة، فتقال في سياق معاتبة من يستقبل ضيفه بطريقة غير لائقة بعكس ما جرت عليه العادة.
القهوة قصّ والمنسَفْ خصّ.مثل أردني . القهوة قصّ والمنسف نصّ.:مثل فلسطيني القهوة يمين ولو كان أبو زيد يسار. ((الهلالي) أول القهوة خصّ ثم قص(9 )حيث يمكن تجاوز الجميع وصب ّالقهوة للضيف، كما لا يجوز لشارب القهوة مناولة الفنجان لجليسه كما هو الحال في الماء، لأن الفنجان مخصوص له بالذات. دخان بلا قهوة راعي بلا فروة. مثل في الموروث الشعبي الفلسطيني الذي يختزن تقاليد شعبية ترافق طقوس إعداد وتقديم وضيافة القهوة ،وصنوها الدخان. السادة للسادات والحلوة للستات، أن القهوة السادة (المرّة) تدار بفناجين رقيقة (عربية) وبكميات قليلة في قعر الفنجان لتشاؤمهم من ملء الفنجان، وهي لا تقدم عادة للنساء: فإذا قدّمت لهنّ قاموا بملء الفنجان لاعتقادهم عدم قناعة المرأة بالقليل، وعادة يقوم بإعداد القهوة رجل مختص بذلك، ويلخص أدوار إعدادها المثل القائل: القهوة حماصها لطيف ودقاقها خفيف، وشرابها كييف القهوة بالرميش والنار بالحرفيش. بكرج القهوة الذي يوضع في(الكانون) أو (المنقل) المملوء برماد النار الساخن كي تبقى ساخنة: أي أن القهوة، وهي بالبكرج تحتاج إلى (الرويش) أو الرماد الساخن المختلف عن نار الحطب السريع الاتقاد والمسمى (حرفيش) الذي يتم تقليبه بواسطة الماشة اجرشها جرش واطبخها هرش (بمعنى لفترة طويلة) - أول فنجان للضيف ،والثاني للسيف ،والثالث للكيف وقد راعت الأمثال الفلسطينية والشعبية العربية عموما عادة تناول صبّ القهوة وتوزيعها، باليد اليمنى، على الجالسين ثلاث مرات في فترات متقطعة نشرت دراسة جديدة (10)تقول أن شرب القهوة يجعل الحيوانات المنوية تسبح أسرع، مما يمكن أن تحسن خصوبة الرجل وقد أعلن ذلك علماء برازيليون في مؤتمر يعقد في سان أنطونيو بتكساس في الولايات المتحدة ويبحث في تأثير العقاقير على خصوبة الرجل وأكد هؤلاء الباحثون أن تناول القهوة له نتائج أبعد من مجرد التنبيه، حيث يمكن أن تؤدي فناجين قليلة إلى تنشيط الحيوانات المنوية.وتقول الدراسة، التي أجراها هؤلاء العلماء من جامعة ساوباولو، أن القهوة تؤدي إلى حركية الحيوانات المنوية وبالتالي تحسن فرص الحمل
وبعد: فيما إذا تساءلنا عن سر استمرار القهوة ولا سيما المرّة منها في حياة الناس بهذه الصورة فإن ذلك يعود إلى حالة الاجتماع التي تحققها ( قهوة الصبح، وقهوة العصر)في الربعة( المضافة ) وما كان للربعة من دور اجتماعي وثقافي وسياسي ففيها تعقد جلسات التقاضي أمام العارفة ( القاضي) وفيها يقول الشعراء أشعارهم، ويروون قصصهم, وينقلون أخبار القبائل والمراعي والكلأ وفي الربعة تعقد صفقات البيع والشراء، والربعة ملتقى الضيوف والتعارف, واشتراك الجميع بالهم العام والخاص والتعاون على إيجاد الحلول للمشكلات العامة والخاصّة، وإبداء الرأي في تصرفات الفرد وتقويمها ونقدها، وتعبر الأبيات التالية عن تجسيد الأدب الشعبي لمثل هذه المجالس ودورها في صوغ نمط الاجتماع القبلي
يا بو (علي) طيرَ الهوى خبَّث َالبال الطير نكري والحباري جليلة
ودّ ك مع حومة الطير فنجال مع مجلس ٍما بُه نفوس ٍ ثجيلة
مع هذا ولِد عم ٍ وهذا ولِد خال ,مع خويّ ما تبدل بغيره
لقد لعبت القهوة دورا محوريا في ترسيخ الحياة الاجتماعية العربية ونبذ الفردانية، والبراغماتية، والنفعية،فضلا عن حالة ترسيخ الوعي الاجتماعي باعتبار المجالس مدارس - كما يقال- كما أسهمت القهوة في بلورة مكونات المنظومة السلوكية العربية،باعتبارها رمزا لهذه المنظومة، فهذا فنجان القهوة الذي قد لا يزيد على بضع نُقط من شراب مر ّ المذاق يكون سببا في صفح، أو صلح، وبه يمكن تجاوز الخصومات وفض المنازعات، ومن أجله قد تنشب حروب أو تنتهي، وهكذا خطبة النساء، والتجاوز عن الثأر، والتنازل عن الحقوق،وإذا كنّا قد أسهبنا في طقوس القهوة وسننها فإن شعورا عارما ينتابنا ،وهاجسا يؤرقنا ونحن نعيش عصرا لا يحمل أية بوادر يمكن أن تؤسس لحالة الاجتماع الثقافي والوحدة الاجتماعية في ظل غزو ثقافي يستهدف منظومتنا الاجتماعية بالدرجة الأولى، ويهدف إلى اختراق خصوصيتنا والتدخل السافر في نمط حياتنا الجمعية، وفرض البدائل الغريبة عن تاريخنا وتراثنا ومعارفنا ،بل واستهجان أنماطنا السلوكية والتشكيك بجدواها باعتبارها لم تستطع تحقيق تقدمنا العلمي وكأنها هي سبب تخلفنا وتقديم منظومة القيم الغربية على أنها الأصلح ،باعتبارها ثقافة الأقوى فهل كانت عادات وتقاليد الشعوب الغربية في الأكل، والشرب ،والملبس ،هي سبب تقدمه ؟ أم هي حملة منظمة لمحاولة محو ذاكرة الشعوب المغلوبة والضعيفة ؟ وإبعادها عن هويتها الحضارية ،وترك فجوة بين أجيالها لقطع الاتصال بين الأجيال عبر قطع علاقتها بتراثها ،فلا تستفيد من دروسه وتجاربه بنجاحاته وإخفاقاته، ومن ثم ترك هذه الأجيال لقمة سائغة وعجينة يمكن أمركتها بسهولة،لذا تبرز أهمية توثيق تراثنا الشعبي وحفظه لتعريف أجيالنا القادمة به،بما أن ثقافة الأمة تتجسد في معارفها وعاداتها وتقاليدها وأنماط معيشتها وحياتها، فإن التراث الشعبي يبرز على أنه المكوّن الأهم لهذه الثقافة باعتباره منظومة حياة الفئات الاجتماعية ، وملخص تجارب الأمة في صوغ مجموع معارفها، فلا يستصغرن أحد أي وجه من وجوه هذه المعرفة ، بل ومن واجب كل أبناء الأمة اعتبار جزئيات حياتهم المألوفة لديهم لها من القيمة بمكان ،ولها دورها في مواجهة الاستهداف المنظم والعشوائي الذي يغزونا في عقر دارنا،وهو ما انفك يضغط باتجاه مسخ كل ما هومتأصل في وجداننا، وسلوكنا،وبالتالي التطاول على هويتنا والله من وراء القصد