قبل أيام عقد في جمعية انعاش الأسرة في مدينة البيرة مؤتمر دراسي حول الأسرة الفلسطينية، واقعها ومستقبلها، وتحدث في المؤتمر البحثي عدد من الباحثين الفلسطينيين مثل الدكتور شريف كناعنة والباحث أحمد أشقر، وكذلك كان هناك بعض الباحثين غير العرب وبعضهم من اليابان؟ وحضر المؤتمر عدد كبير من المهتمين بموضوع الاسرة الفلسطينية وشؤون المرأة حتى المتغربنين منهم.
كان من أبرز المتحدثين حول استهداف الاسرة الفلسطينية من قبل الاحتلال الاسرائيلي في الداخل الفلسطيني المحتل منذ عام 1948م، وأسهب في هذا الموضوع الاستاذ أحمد أشقر، وزاد على كلامه الدكتور كناعنة فيما يخص تفتيت الأسرة بترجيل المرأة؟ مما أثار ضده زوبعة من المتغربنين والمسترجلات في القاعة.
أما الباحثون غير العرب، فكان أبرزهم باحثة يابانية، جاءت خصيصاً بعد (حرب الفرقان) في قطاع غزة، لكي تدرس عوامل صمود الأسرة والمجتمع الفلسطيني، في ظل استهداف غير مسبوق في التاريخ.
هذا المؤتمر فتح الباب لقراءة متأنية وبحث موسع للآليات المستخدمة من قبل الاحتلال لتفتيت الأسرة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة تحديداً، وما هي دوافع ذلك، وكيف قاومت وتقاوم الأسرة والمجتمع الفلسطيني هذه السياسات، وهل انتصرت سياسة التفكيك والتفتيت للأسرة والعائلة الفلسطينية، أم لا؟ وأثر ذلك على قدرة المجتمع والأسرة الفلسطينية على المقاومة والصمود والحياة.
تقوم مصلحة وحياة أي احتلال في العالم على تفتيت الخصم، إن كان دولة أو مجتمع أو قبيلة أو عائلة صغيرة، ولذلك شكل هدف تفتيت العائلة الفلسطينية هدفاً استراتيجياً للاحتلال.فبدأ بتفتيت الأسرة الفلسطينية الكبيرة التي يظلها الوطن(فلسطين التاريخية) وكان أولى ما قام به، هو سياسة الهدم والتهجير، فالكثيرون يلاحظون أن سياسة هدم بيوت وقرى ومدن الفلسطينيين، سياسة قديمة جديدة متجددة للاحتلال، فليس البيت هو الهدف للهدم فقط، بل الخيمة أيضاً التي تقام على أنقاضه؟
لماذا البيت؟ البيت هو الحاضن الطبيعي للأسرة الفلسطينية، وعامل تجميعها، والفلسطيني، يبني فوق بيته وحوله لأولاده وأحفاده وهكذا. ولذلك إذا أردت التفتيت والابعاد، فما عليك سوى هدم البيت الذي يضم الفلسطيني وعائلته تمهيداً للفصل التالي، فالفلسطيني بعد الهدم، سيلاقي التشريد في أصقاع الأرض، وبعد التشتيت، سينقطع التواصل تدريجياً، وبعدها سيضع الاحتلال ما يكفي من الحواجز والجدران للفصل المادي والشعوري بين أبناء الاسرة الواحدة، فالفلسطيني سيصبح(غزيا وضفاويا، ولاجئ مخيم وابن بلد، ولاجئا في دول الطوق ولاجئا في أصقاع الأرض، ولاجئا ومقيما في دول بعينها، وعربيا اسرائيليا ودرزيا ومقدسيا وبدويا ودرزيا وشركسيا وحمساويا وفتحاويا، وفتحاويا جيدا وفتحاويا سيئا بحاجة لفترة تأديب ثم النظر بالعفو، وهكذا، فالتفتيت المادي سيلحقه تفتيت شعوري، بمنح هذا بعض الفتات وبمعاقبة هذا بعض العقاب….الخ.
استخدم الاحتلال لتفتيت الأسرة الفلسطينية أدوات أخرى، كنشر الاباحية والمخدرات والعادات الدخيلة على المجتمع الفلسطيني، كتسويق الزنا واللواط والدعارة والمخدرات، فكيف تتماسك أسرة فيها مدمن أو تاجر مخدرات؟ وكيف تتماسك أسرة فيها من الزناة والشاذين والمنحرفين؟ وكيف تتماسك أسرة فيها سكير؟
فقد كان أحد كبار السن يقول قصة على مسامع بعض الشباب، عن قيام عميل للمخابرات الاسرائيلية في الثمانينيات والتسعينيات بنقل عدد من الشباب الفلسطيني لأحد بيوت الدعارة مجانا كل يوم جمعة، وأنه في أحد الأيام نقل الشبان وعاد ونقل عدداً آخر وكان بينهم أحد كبار السن، وكانت الصدمة للوالد والابن عندما التقيا في بيت دعارة في تل أبيب؟.
فهل كان هذا العميل يريد أن يفعل أفعاله مجاناً؟ بالتأكيد لا، فتخيلوا كيف ستكون أسرة يلتقي الوالد والولد في بيت دعارة؟ فضلاً عن إسقاطهم لاحقاً في حبائل المخابرات الاسرائيلية؟.
التشجيع على السرقة والنهب، وإشاعة ثقافة اللصوصية في المجتمع؟ وكنت أتساءل لماذا لا تقوم المخابرات الاسرائيلية بمحاربة لصوص السيارات الاسرائيلية الذين ينقلونها للضفة الغربية وقطاع غزة؟ مع أنهم يفعلون ذلك جهاراً نهاراً؟ حتى أن أحد كبار لصوص السيارات في بلدة الظاهرية قضاء الخليل، حدث قريباً له، أن النساء في بلدته أصبحن يعايرن أبناءهن بنجاحه وثروته التي جمعها من السرقة؟! وقد حدث ما كنت أتوقعه تماماً، فقد أغلقت المنافذ الى الداخل الفلسطيني، وضاقت على هؤلاء طرق السرقة من الداخل، فأصبحوا يسرقون من الفلسطينيين، وأصبحت تصبح في رام الله فتجد سيارتك سرقت، فتذهب للبحث عنها في طولكرم أو جنين، فيقول لك تاجر السيارات المسروقة ادفع ثمنها وخذها)؟!
فأي مجتمع وأي ثقافة هذه التي ينشرها الاحتلال ويساعده بعضنا لينشرها من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع؟! وأي تماسك أسري ستعيشه أسر تسرق أو تسرق من الجار القريب حتى يصرف على عائلته وأسرته بأموال الحرام؟ وأي أسرة هي التي مثالها الأعلى لص؟!.
عمد الاحتلال في سياسته لإهانة رب الأسرة أمام أبنائه، فهو يعلم قيمة الأب في الأسرة الفلسطينية والعربية، وأنه مثل أبنائه الأعلى، فيعمل على إهانته باقتحام البيت ليلاً ونهاراً ووضعه في أوضاع مهينة أو إجباره على خلع ملابسه أمام الجيران وأسرته، كما يقوم بإغلاق مصادر رزق رب العائلة من عمل ومصادرة أرضه ومنعه من التجارة والتنقل، وبهدم البيت الذي يؤويه وعائلته، حتى يظهره بمظهر العاجز عن القيام بواجباته تجاه عائلته، وبالتالي تفكك الأسرة وتحطيمها.
ومن الأساليب القذرة في التعامل مع الأسرة وتحطيمها، تقوم مخابرات الاحتلال( حسب مصادر فصائلية وأمنية فلسطينية) بإجبار العملاء الذين يتعاملون معه على ممارسات شاذة مع أبنائهم وبناتهم (زنى محارم) إمعاناً في تحطيم هذه الأسر وبالتالي سهولة استخدامها، لأن هذا النوع من الأسر المحطمة أخلاقياً وقيمياً تقدم خدمات جليلة للاحتلال، بلا أي رادع لا ديني ولا أخلاقي ولا وطني.
لعبت الاتفاقيات التي وقعها الاحتلال مع منظمة التحرير دوراً هاماً في العمل الدؤوب لتدمير الأسرة الفلسطينية، وفضلاً عن ثقافة الانتفاع والأنانية واللصوصية وبناء صالات القمار وغيرها، إلا أن الأكثر سوءاً ظهر حديثاً عندما بثت إحدى القنوات التلفزيونية الاسرائيلية لقاءً مع جندي فلسطيني تابع لقوات الحكم الاداري الذاتي، وهو يقول للمذيع الاسرائيلي: ( أنا أخوي حمساوي شاركت باعتقاله، أنا ما إلي خص، لو يقولولي إعتقل أبوك بعتقله؟!) فأي أسرة هذه التي يأتي ابنها ليعتقل أخاه؟ وأي تماسك لأسرة هذه التي يأتي الولد ليعتقل أباه؟.
لعبت النخب الثقافية والفكرية وما ترتبط به من ما يعرف بمؤسسات المجتمع المدني، أو المؤسسات الأهلية، وما يطلق عليه مؤسسات ال(N G O )لعبت دوراً كبيراً في عملية التفتيت الأسري، ففضلاً عن أن غالبية هذه المؤسسات تابعة لجهات استخباراتية غربية تستخدمها لبث أفكار وجمع معلومات لها حول مواضيع معينة، فهي أصبحت بالشخوص التي تغذيهم بالمال فلسطينياً، عاملا رئيسا في السياسة الداخلية المجتمعية والسياسية الفلسطينية، وأصبحت هذه المؤسسات تدخل كل بيت، وكل جامعة، وسأذكر عدداً من الأمثلة على أدوار هذه المؤسسات:-
1- أثناء دراستي الجامعية، لاحظت أن عدداً من المدرسين الأجانب الذين أتوا من بلادهم لتدريسنا يهتمون بمواضيع وبطلاب معينين؟! فمثلاً لاحظت أن أحدهم يعطينا مهمات لنذهب إلى بيوت اللاجئين الفلسطينيين وأخذ إجابات محددة منهم حول حق العودة والحنين للأرض وغيرها، وتبين فيما بعد أن هذه الدولة كانت تضم فيما بعد مجموعة من الفلسطينيين والصهاينة ليتفقوا على تصفية حق العودة؟!.
2- أحد المدرسين من دولة أوروبية كان مهتماً بمعرفة الطلاب الذين يعيشون حياة أسرية مفككة، ويعانون من الفقر، وكان يحرص على إقامة علاقات إجتماعية معهم، وخاصة الذين لا يهمهم إلا المال والبعثات الدراسية، وكان يحرص على أخذهم شباب وبنات معه في سيارة السفارة التابعة لبلاده إلى حفلات يتم فيه شرب الخمر من قبلهم جميعاً في مدينة القدس، مع أنهم لا يحملون تصاريح؟! وقام بدعمهم بالمال لفتح مؤسسة للتآخي بين الأديان ورفض العنف، ووعدهم بتسهيل عملهم في كافة الوزارات، ومنهم من خرج في بعثات إلى بلاد هذا الرجل؟!.
3- إحدى المسؤولات عن تنسيق البرامج للمنظمات الأهلية وهي أوروبية، حدثتني في مؤتمر بحثي في جامعة بير زيت، أنها تلتقي بجمعيات نسائية محددة وتدعمها بالمال لتنفيذ برامج معينة تحددها هي لهم؟! وأنها لا توصي بدعم مالي لجمعيات نسائية بعينها، لأنها لا تتوافق مع أهداف هذه الدولة؟! وتبين لي أن المؤسسات التي أوصت بعدم دعمها هي المؤسسات التي استهدفت بالتضييق والاغلاق بعد أحداث الصراع الداخلي في الضفة الغربية وغزة؟! كما تبين أن الجمعيات التي تدعمها هي المؤسسات التي تقوم للترويج للثقافة الغربية، والنظرة السلبية للأسرة الفلسطينية، فأغلب هذه المؤسسات تعتبر أن الحرية للممارسة الجنسية مكفولة للفتاة الفلسطينية، مضافاً إلى ذلك الحرص الشديد على تحديد النسل وتثقيف المرأة ثقافة الندية والعداء للرجل(الاسترجال)، وتثبيت قناعات عند المرأة أن الرجل عدوها وأنه منافسها لا مكملها، وبذلك سيصبح عندنا أسرة متصارعة بين قطبيها الرئيسيين(الأب والأم) بدلاً من التفاهم والاتفاق بينهما ليقودا أسرة متفاهمة مستقلة؟!.
الدواء عندنا… ونذهب لنشتري ما لا يشفي؟!
بعد كل ما سبق من خطوات تدميرية وتفتيتية للأسرة الفلسطينية وما يرصد لذلك من أموال وميزانيات وإمكانيات كبيرة، هل نجح الاحتلال ومن زرعوه في تفتيت الأسرة والمجتمع الفلسطينيين، وتحطيم جهاز مناعة الشعب الفلسطيني؟.
فاجأت الضيفة اليابانية الجميع!! فقد أعلنت أنها جاءت بعد (معركة الفرقان) في غزة، وقالت أنها جاءت خصيصاً لدراسة عوامل القوة في الأسرة والمجتمع الفلسطيني، الذي أبرز هذه القوة الكبيرة للمقاومة للاحتلال خلال المعركة وما قبلها وما بعدها.
فهي ترى أن شعبها عندما هزم جيشه من الأمريكان، وسمح لهم بدراسة كل شيء ما عدا التقاليد الأسرية والعائلية اليابانية التي كانت تقدس العائلة وتحترم الكبير، وتقول أنه بالرغم من التقدم الصناعي الذي حققه اليابانيون، إلا أنهم في أفول مادي ومعنوي في نفس الوقت، فتحطيم الأسرة قضى على المجتمع هناك، وبدأ اليابانيون بالانقراض تدريجياً، فقد تشربوا الأفكار الغربية التي تحقر العائلة ولا تهتم بها، فلا أهمية للزواج؟ وإن تم فلا أهمية للأولاد؟ وإن توالدوا لا يتوالدون إلا بطفل واحد؟! وهم غارقون بتبعيتهم للمستعمر الأمريكي وفقدوا المناعة الحضارية.
فلسطينياً، ترى الباحثة أن المجتمع والأسرة الفلسطينية قاوما الهجوم المادي والفكري بشراسة، وتعتبر أن جهاز المناعة الفلسطيني لا زال بحالة ممتازة، وأن أفضل مثال على ذلك هو الصمود والمقاومة الفلسطينية منذ الانتداب البريطاني حتى (معركة الفرقان ) وما بعدها، وتلخص عوامل القوة في الأسرة الفلسطينية إلى:-
1-الشعب الفلسطيني شعب متدين، ويقدس العلاقات الأسرية المتينة، ويرفض العلاقات الجنسية خارج الزواج، وتعتبر أن هذه الخاصية الدينية، هي أحد أهم عوامل بناء الأسرة المتماسكة، وتحمي المجتمع من الزنا والعلاقات الشاذة واللقطاء، وتبني المجتمع والفرد بناء متينا( ويبين هذا سر استهداف المدارس الاسلامية والمناهج التعليمية ودور تحفيظ القرآن، لدورها في تقوية جهاز المناعة ضد الاحتلال في الأسرة والمجتمع الفلسطيني).
2-الاسلام يشجع على الانجاب، ويضع أسس علاقة الرجل والمرأة والأبناء والأقارب، ولذلك فهو يضبط بناء وتكوين الأسرة الفلسطينية، وإن كانت حتى غير مسلمة، فالثقافة العامة، هي ثقافة الاسلام، ومن هنا نعود إلى لفت الباحث أحمد أشقر لنقطة هامة، وهي أن اليهود الغربيين وضعوا أسسا لتحطيم العائلة اليهودية الشرقية وغربنتها، وسلخها عن الثقافة العربية الاسلامية؟!.
3- الاسلام حرم الربا، فالربا هو أساس الرذائل في المجتمع وعامل السقوط الاقتصادي المريع عالمياً، وهنا يبرز اعتبار الاسلام أن المتعامل بالربا كناكح أمه تحت ستار الكعبة؟!كما تبرز أزمة النظام المالي الربوي العالمي اليوم أثر هذا النظام في تدمير ملايين الأسر عبر العالم.
4-الاسلام يرفض الخضوع والاستسلام، ولذلك لا تزال عوامل المقاومة موجودة في المجتمع والأسرة والفرد، بعكس الحالتين اليابانية والألمانية، اللتين اعتبر الشعب نفسه خاسراً، وارتمى في أحضان أمريكا تصيغه كما تشاء، فهذه شعوب محطمة المناعة، بعكس الشعب الفلسطيني، الذي يشكل عامل الدين عاملاً رئيساً في تقوية جهاز مناعته، فحتى لو انهارت القيادة أو استسلمت، فالمسؤولية في المقاومة تقع على عاتق الفرد، ذكراً كان أم أنثى، حراً كان أم عبد، بالغاً كان أم طفل يقاوم بحجر.
فالاسلام يرفض الخضوع للمحتلين، ويكلف الفرد والأسرة والمجتمع الدفاع عن مالهم وأرضهم بلا إذن من يملك مقاليد الأمور في الأسرة والمجتمع، فالدفاع والمناعة ذاتية التحرك عند استشعار الخطر، وليست كما اليابان يمتلكها الامبراطور، إذا فقد المناعة فقدتها الأمة كلها، ولذلك وجدت أن الاسرة الفلسطينية تتمتع بمناعة غير عادية، وقدرة على المقاومة لا تنضب، وهذا كله يعود بشكل رئيس للدين والثقافة التي يحملها الفلسطيني والأسرة الفلسطينية.
الأسرة الفلسطينية مستهدفة ، ولا زالت تستهدف، ويجند لذلك الأموال والخبراء، ولكن مناعة هذا الشعب وهذه الأسرة تسير تصاعدياً مع التزام هذه الأسرة بدينها، وهذا ما تؤكده الوقائع، ويؤكده الخبراء الذين جاؤونا من أقاصي الأرض ليدرسوا جهاز مناعتنا الأسري رغباً أو رهباً.
والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين