في هذه الأيام ، و مع تجدد الاحتفال السنوي باليوم العالمي للمرأة ، تطفو على سطح الحياة الثقافية و السياسية و الاجتماعية ، إشكالية قديمة تتمثل في تعرض المرأة للقهر و الظلم و عدم حصولها على حقوقها أو مساواتها بالرجل ، خاصة في المجتمعات العربية التي تنظر إلى المرأة بطريقة خاصة ، و تعتبرها عنصرا هامشيا أو تكميليا لا يمتلك القدرات و الطاقات التي يتمتع بها الرجل سواء على المستوي النفسي أو الجسدي ، و من ثم لا مجال لمساواتها به ، و الاكتفاء بحصرها في وظائفها الاجتماعية الطبيعية كأم أو أخت أو زوجة أو ابنة ، و هو ما دفع عدد من منظمات المجتمع المدني و مراكز الدراسات المصرية إلى الاحتفال بهذا اليوم بطريقة خاصة ،إذ نظم مركز الدراسات الاشتراكية ندوة بعنوان المرأة بين التمييز و المقاومة ، لمناقشة ما تتعرض له المرأة من تمييز في كافة المجالات و أشكال المقاومة التي تقوم بها في مواجهة ذلك التمييز ، بعيدا عن الأشكال النضالية التقليدية لنساء المجتمع المخملي اللائي يناضلن من أجل حقوق المرأة من داخل الصالات المكيفة ، و استضاف المركز في تلك الندوة ماجدة عادلي من مركز النديم و رباب المهدي ـ أستاذة بالجامعة الأمريكية ، و كريمة جمعة من قيادات الضرائب العقارية، الذين نظموا اعتصاما حاشدا العام الماضي للمطالبة بحقوقهم و مساواتهم بزملائهم في الإدارات الأخرى ، و شهد هذا الاعتصام وجود المرأة جنبا إلى جنب مع الرجل في المطالبة بحقوق وظيفية محرومة منها ، و هو ما يعني أن المرأة دخلت بقوة إلى مجال النضال العمالي أو الوظيفي و الدليل على ذلك مشاركة العاملات في مصانع غزل النسيج بالمحلة في الاعتصامات و المظاهرات التي نددت بالظروف السيئة التي يعملون خلالها ، فلم يعد من المناسب أن تلعب دور الكائن الهش الضعيف " مكسور الجناح " غير القادر أو الراغب في الدفاع عن نفسه أو عن حقوقه ، و إن كانت تلك المشاركة ليست جديدة تماما بل تعود بعض إرهاصاتها إلى فترة النشاط اليساري في مصر في الستينيات و السبعينيات ، غير أن تلك المشاركة كانت مقتصرة على البعد الثقافي و الإبداعي أو حتى العمل الطلابي ، مع الاهتمام بحقوق الفئات العاملة من عمال و فلاحين ، و لكن دون أن تكون النماذج خارجة بالأساس من تلك الأوساط . أو متفاعلة بشكل كامل مع قضايا تلك الفئات .
سنوات القهر .. و بشائر التحرر
لسنوات طويلة ظل الطابع الذكوري هو المسيطر على كافة مناحي الحياة في المجتمعات العربية بما في ذلك المنحى الثقافي أو الإبداعي ، فالمرأة العربية تقف دائما في الصفوف الأخيرة من المشهد الثقافي باعتبارها هامشا أو ظلا لحياة الرجل ، و إلى حد كبير سادت رؤية قاصرة عن المرأة بوصفها مفعولا به و ليس فاعلا ، و مع بداية العقود الأولى في القرن العشرين و ظهور أصوات نسائية تطالب بتحرر المرأة و مساواتها بالرجل ، و هي الدعوة التي تضامن معها بعض الرجال الذين حملوا في ذلك الوقت راية التنوير مثل قاسم أمين ، إلا أن المنادين بها كانت عناصر نسائية بالأساس استفادت من تجربة أم المصريين صفية زغلول في العمل السياسي إلى جوار زوجها سعد باشا زغلول ، و قررت تلك الأصوات أن ترسخ لدور المرأة بشكل أصيل و قوي ، لكونها عنصرا فاعلا في المجتمع المصري ، و هو ما نادت به هدى شعراوي و نبوية موسى و غيرهما من رائدات التحرر النسوي ، ليصطدموا في النهاية بحائط صد قوي تمثل في تمدد نفوذ جماعة الإخوان المسلمين ، إضافة إلى انبراء بعض الأقلام ذات الثقافة الأزهرية للذود عن سلطة الرجل في مواجهة تحرر المرأة ، و إن كانت إشكالية تحرر المرأة حسمت في أوربا منذ عام 1882 بعد نضال طويل لتحصل المرأة على الحق في الاقتراع ، إلا أن هذه الخطوة تأخرت كثيرا في المجتمعات العربية ، و لم تظهر ارهاصاتها إلا بعد ثورة 1919 .
التخفي في مواجهة القمع
في بداية القرن العشرين لم يتصور أحد أن يكون للمرأة دور أو مكانة اجتماعية تتخطى حيز وجودها في محيط الأسرة ، فهي محرومة من التعليم محرومة من المشاركة في الانتخابات ، محرومة من التواجد في الحياة العامة كعنصر فاعل و أصيل ، و منها خرجت بعض النماذج المتمردة على هذا الوضع لتأخذ حقها الطبيعي في المجتمع ، و إن كانت السيدة هدى شعراوي استطاعت أن تفعل ذلك نظرا لأصولها الارستقراطية و سفرياتها المتعددة إلى فرنسا و دول أوربية أخرى اطلعت فيها على بناء المؤسسات الجديدة بهدف النهوض بالمجتمع ، و تفاعلت مع عدد من الأصوات النسائية التي حصلت على معظم حقوقها الاجتماعية و السياسية و الثقافية في أوربا آنذاك ، إضافة إلى مساندة أخيها الكبير لها و دعمه لموقفها ، و كذلك المفكر مصطفى كامل الذي كانت تعتبره قدوتها و مثلها الأعلى ، فهناك أصوات أخرى لم يتوفر لها نفس المناخ و اعتمدت على نفسها بشكل كامل و على إمكانيات محدودة للغاية ،و قررت أن تعبر عن رأيها و تشارك في بناء المجتمع حتى و لو فعلت ذلك تحت اسم مستعار ، و من هذه النماذج عائشة عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطئ ، و تعتبر ظاهرة اختيار الأسماء المستعارة و الاستعاضة بها عن الاسماء الحقيقية دليلا واضحا على مدى القمع و القهر الذي كانت تتعرض له المرأة المصرية في تلك الحقبة ، فلأنها كانت ممنوعة من الظهور اجتماعيا ، كتبت الدكتورة عائشة عدة مقالات بالجرائد بتوقيع بنت الشاطئ حتى تخفي هويتها الحقيقية وراء الاسم المستعار ، بعد أن تلقت تعليمها في كتاب القرية ثم مدرسة المعلمين ثم كلية الآداب وصولا إلى تحضير رسالة الدكتوراه عن أبي العلاء المعري بإشراف عميد الأدب العربي طه حسين ، و حازت عنها الدرجة العلمية بامتياز ، و رغم ذلك ظلت تكتب باسمها المستعار حتى بعد أن كشفت عن هويتها ، و حالة بنت الشاطئ ليست فريدة من نوعها فهناك سيدات أخريات قررن التخفي وراء الأسماء المستعارة لممارسة العمل العام دون أن يتعرضن للعنف الاجتماعي بشقيه المادي أو الرمزي و من أشهر النماذج على ذلك باحثة البادية ملك حفني ناصف و مي زيادة .
إبداع المرأة .. كتابات على هامش المتن الذكوري
إذا كانت هناك بعض النماذج المحدودة لنساء استطعن أن يتغلبن على ما تتعرض له المرأة من تهميش و نبذ في المجتمعات العربية ،سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي ، فقد استطاعت العديد من الكاتبات أن تتجاوزن تلك المسألة و تثبتن وجودهن على الساحة الثقافية و الأدبية ، و ليس أدل على ذلك من الشاعرة العراقية نازك الملائكة التي عادة ما يأتي اسمها في تاريخ الأدب باعتبارها أحد الرواد المؤسسين للشعر الحر أو شعر التفعيلة ، و إن كانت هي نفسها لم تعتقد بأن المرأة تتعرض لنوع من التمييز و ترى فرص تواجدها في المجتمعات العربية مناسبة و متوائمة مع فرص تواجد الرجل في كافة المجالات ،أوعلى الأقل كانت ترى النظرة إلى المرأة باعتبارها مقهورة و غير متحققة بأنها تؤدي إلى الانتقاص من قدرها ، و إن كان النشاط الأدبي للمرأة زاد خلال العقود الأخيرة ، و أصبحت مشاركا رئيسيا في كافة الفعاليات و الأنشطة الإبداعية و الثقافية ، إلا أن هذا الأمر لم يوفر المساواة بشكل كامل ، كما أنه يعد أشبه بحركة ناجمة عن مجهودات فردية لكاتبات و مثقفات و ناشطات في السياسة و حقوق الإنسان أكثر منه حركة منظمة و محددة الملامح و الأهداف ، لدرجة أن المتابع و المدقق في الأدب العربي الحديث لا شك سيلاحظ قلة الإبداع النسوي مقارنة بإبداع الرجل في الرواية و الشعر و القصة القصيرة و المسرح و الفن التشكيلي و غيرها من المجالات ، و ربما يكون هذا هو الدافع الأول الذي حرك الدكتور محمد عبد المطلب أحد النقاد المصريين الكبار إلى إعداد دراسة نقدية حول إبداعات المرأة تحت عنوان بلاغة السرد النسوي ، رصد فيها أبعاد الظاهرة بداية من قضية تحرر المرأة في أوربا مرورا بالحركة المشابهة في الوطن العربي ، وصولا إلى جيل معاصر من المبدعات في الرواية و القصة القصيرة رصد من خلال إبداعه قضية المرأة بطريقة فنية و أدبية ، و من أولئك الكاتبات هدى النعيمي و نوال مصطفى و هالة البدري و سلوى بكر و نوال السعداوي و رضوى عاشور و عفاف السيد و صفاء النجار و غيرهن من المبدعات اللائي رصدن هذه القضية بشكل مباشر أو غير مباشر ، إلا أنها في النهاية تصب في منطقة واحدة ـ على اختلاف الأساليب و المشارب ـ مفادها أن المرأة العربية رغم ما حصلت عليه من حقوق بعد جهد و معاناة طويلة ، ما زالت تخضع لنوع من التمييز الذي يجعلها تقف عند هامش الحياة الثقافية و الإبداعية ، في حين يحتل الرجل المتن ، و يرفض التنازل عنه ، أو عن مساحة قليلة منه للمرأة ، و هو ما يظهر جليا من عقد مقارنة بسيطة بين عدد المبدعات و المبدعين و الإصدارات الأدبية التي تموج بها الساحة الثقافية لكلا الجنسين جدير بالذكر أن هناك أصوات نسائية نشطة ثقافيا أو حقوقيا ترفض تماما فكرة التمييز و القول بوجود إبداع نسوي و آخر ذكوري و الأمر نفسه ينطبق على باقي المجالات في الحياة العامة ، إلا أن هذه الأصوات عادة ما تعلو عند محاولة التحدث بشكل موضوعي و عقلاني ، دون الاعتماد على معطيات الواقع.