أينما تنقلت في أحياء القدس تجد المآسي، فهنا أسر تشردت بعد أن طردت من منازلها، وهناك عائلات تسلمت إنذارات بالإخلاء، بذريعة عدم الترخيص، وثالثة أصبحت بلا معيل بعد أن وضع رب الأسرة بالسجن نتيجة مقاومته للاحتلال الذي أراد سلبه بيته الذي يعيش فيه، هذا المشهد يتكرر في كل حي وكل شارع وكل بيت عتيق من بيوت القدس، ففي عيون كل شيخ وامرأة وطفل تقرأ معاني الصمود والتشبث بالأرض مهما بلغت التضحيات، ومهما مارس المحتل من غيه وجبروته، فسطر المقدسيون على مدى أكثر من أربعين عاماً سفراً خالداً من أسفار البطولة والفداء، تشردوا وجاعوا وناموا في الشوارع، لكنهم رفضوا الرحيل.
لقد اتبع الاحتلال الصهيوني، وبشكل متواصل وممنهج، سياسة محاصرة المراكز السكنية في القدس بأطواق استيطان لتحقيق أهدافه السياسية بتغيير الهوية العربية للمدينة، وخلق واقع جيوسياسي جديد للسيطرة على الأرض والتحكم بالتطور والنمو السكاني في أنحاء المدينة.
وبهدف تحقيق ذلك قام بانتهاك جميع الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، شملت حرية العبادة والمس بالمقدسات، ومنع النشاطات والفعاليات المدنية، وأغلق المؤسسات وصادر أراضي المقدسيين وكثف عمليات الاستيطان، وانتهك حرية الأفراد العامة، واستمرت أعمال التنكيل التي يقترفها رجال أمن ومستوطنون بحق الفلسطينيين، فهدموا المنازل وطردوا سكانها منها بداعي عدم الترخيص، أما بالنسبة للإعلاميين فحدث ولا حرج فلم ينج مراسل قناة أو وكالة أنباء أو مصور من الضرب والإهانة وتكسير الكاميرات والمضايقات بكافة أشكالها لمنع نقل صورة ما ترتكبه آلة حرب الاحتلال ومستوطنوه من أعمال إرهابية.
ومع تسلم بنيامين نتنياهو حكومة العدو، تزايدت عمليات الاستيطان أضعاف ما كانت عليه في السابق، فبنيت مئات المستوطنات الجديدة على أراض مصادرة من الفلسطينيين، تلازم ذلك مع موقف أمريكي منحاز لـإسرائيل" اتضح مثلاً من خلال زيارة هيلاري كلينتون للمنطقة، ففتحت باباً واسعاً أمام سلطات الاحتلال للاستمرار في توسيع المستوطنات في القدس والضفة الغربية عموماً، وثبت أن تصريحات الرئيس باراك أوباما لوقف الاستيطان ليست أكثر من ذر للرماد في العيون.
وقد ثبت مؤخراً وجود العديد من المؤسسات والهيئات المدنية في أمريكا التي تمول الاستيطان لإقامة وحدات استيطانية في القدس الشرقية ومحيطها، والاستيلاء على بيوت وأملاك المقدسيين بالتحايل والتزوير، وتقف على رأس هذه الجمعيات جمعية خاصة بالمليونير اليهودي الأمريكي ايرفينج موسكوفيتش، وهو الذي مول بناء نفق البراق أسفل المسجد الأقصى عام 1996، وكان افتتاحه سبباً في اندلاع صدامات عنيفة بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" أوقعت 70 شهيداً فلسطينياً.
معاناة المقدسيين من عمليات التهويد المبرمجة يدلل عليها ما حصل مع عائلة الكرد في حي الشيخ جراح عندما اقتحم عشرات المستوطنين بمساندة من قوات الشرطة "الإسرائيلية" منزلهم ورموا أثاثهم في الشارع وطردوا أفراد الأسرة المكونة من 13 فرداً لتقطن مكانهم مجموعة من المستوطنين المتطرفين، هذا المنزل يقع ضمن 28 منزلاً تملكها عائلات الغاوي وحنون والكرد، يتهددهم جميعاً خطر الترحيل والطرد بزعم ملكية الجماعات المتطرفة للأراضي المقامة عليها المنازل.
وتعمل سلطات الاحتلال على تهويد هذا الحي ليلتقي مع ما يسمى الحوض المقدس مع كرم المفتي وفندق شبرد فالجامعة العبرية، وربط القدس الشرقية بالغربية بتدمير هذا الحي وتنفيذ المخطط المقرر منذ مدة على أرضه لبناء 20 وحدة سكنية، وإقامة مستوطنة يهودية جديدة على أرض كرم المفتي، وقد حافظت هذه الأرض على اسم مالكها الحقيقي مفتي القدس الحاج أمين الحسيني منذ عشرينيات القرن الماضي قبل أن يسيطر عليها "الإسرائيليون" عام 1967، رغم أن ورثة المالك الحقيقي ما زالوا على قيد الحياة ويقيمون في القدس، وتمتد أرض كرم المفتي على مساحة 140 دونماً مزروعة بأشجار الزيتون.
والوضع في حي رأس العامود ليس بأفضل حال من سابقه، فقد شنت سلطات الاحتلال حملة كبيرة من عمليات الهدم والترحيل والتهجير للسكان الفلسطينيين الذين يقطنونه، ويزيد عددهم عن 15 ألف نسمة، ويقع هذا الحي جنوب شرق البلدة القديمة على تلة تطل علىالحرم القدسي الشريف، وحي سلوان وقرى أبو ديس والعيزرية، وهناك خطة "إسرائيلية" لإقامة مستوطنة تحتوي على 132 وحدة سكنية بهدف إضافة وجود سكاني واستمرارية تواصل عمراني يهودي مع المقبرة خارج البلدة القديمة وجبل الزيتون، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف إلى منع أي تقسيم لمدينة القدس، كما بدأ العمل مؤخراً ببناء 60 وحدة سكنية جديدة بتمويل من المليونير موسكوفيتش.
هدم السوق المركزي للخضار وبناء مجمع وفندق هدف الخطة "الإسرائيلية" للاستيطان في حي وادي الجوز، وقد قامت سلطات الاحتلال بهدم عدة منازل بالوادي بحجة عدم الترخيص، ووادي الجوز موقع قريب من الزاوية الشرقية الشمالية للبلدة القديمة بمحاذاة الشارع الذي يؤدي إلى حي الصوانة ويطل على حي جبل الزيتون.
المواجهات بين الفلسطينيين وسلطات الاحتلال على أشدها في منطقة حي سلوان، حيث الصراع على الأراضي والمباني والوجود، في ظل استيطان ما يقارب 400 مستوطن وسط نحو 50 ألف فلسطيني، ويمتد هذا الحي من الزاوية الجنوبية الشرقية للبلدة القديمة في القدس باتجاه وادي حلوة، ويسير بين المنحدرات المكتظة بالسكان بين حي الزيتون وحي جبل صهيون وينحدر عبر الصحراء.
وكانت المحاولات اليهودية المبكرة لإقامة مؤسسات وأحياء في حي جبل الزيتون، حيث أقام المستوطنون فيه
مدرسة دينية، ويتم حالياً استيعاب ما يزيد عن 100 طالب كل عام، وقامت سلطات الاحتلال بهدم عشرة منازل في هذا الحي وبنت مكانها مباني عامة، ووحدات سكنية على مساحة تقدر بـ 10 دونمات في المنطقة التي تقع إلى أقصى التلة الشمالية للحي، وقد سلمت مؤخراً إنذارات إلى عائلات فلسطينية تعيش في عشرة مبان أخرى بالحي تضمنت أوامر بالهدم أو إنذارات بالإخلاء بذريعة أن البناء دون ترخيص.
حي جبل المكبر من الأحياء المكتظة، إذ يقطنه حوالي 17 ألف فلسطيني ويقع على تلة جنوب البلدة القديمة، وقامت "إسرائيل" ببناء مستوطنة على أرض الحي بمساحة تقدر بـ 115 دونماً، الجزء الأكبر منها تمت مصادرته من المواطنين الفلسطينيين، ويتضمن المخطط الصهيوني للحي بناء ما يزيد عن 400 وحدة سكنية، وفندق وكنيس وحمام طبقاً للتقاليد اليهودية، بالإضافة إلى مدرسة وحدائق ومرافق أخرى لإضفاء الطابع اليهودي على الحي، ويعد مشروع مستوطنة جبل المكبر رابطاً رئيسياً في سلسلة المستوطنات التي يتم بناؤها داخل المناطق العربية من أجل تقطيع أوصال الوجود العربي، وبالتالي فرض سيطرة "إسرائيلية" على هذه المنطقة.
بدأت عمليات السيطرة على أراضي حي أبو ديس الواقع إلى الشرق من الحدود البلدية للقدس عام 2000 عندما قامت مجموعة من الأحزاب اليمينية وطلبة من المدارس الدينية اليهودية بإقامة سلك شائك على أراض مصادرة وزرعوا فيها أشجار الزيتون، كما قامت عدة عائلات من المستوطنين بالاستيلاء على منازل في الحي لعائلات فلسطينية زاعمين أنهم اشتروا الأرض من مليونير يهودي ، وأقرت السلطات الاستيطانية مؤخراً خططاً لبناء مستوطنة في هذه المنطقة لإسكان 200 مستوطن كمرحلة أولية، وهناك خطط لبناء 400 وحدة سكنية وكنيس ومرافق أخرى على مساحة تقدر بـ 64 دونماً من أراضي الحي.
وتعد منطقة برج اللقلق موقعاً يهدده العدوان "الإسرائيلي" كل يوم، حيث يتعرض سكانها للاعتداء يومياً من قبل المستوطنين، وقد أقرت "إسرائيل" عام 2005 مشروعاً لبناء 21 وحدة سكنية، بالإضافة إلى كنيس على مساحة تقدر بـ 3.8 دونم، وقامت مؤخراً بهدم ما يزيد عن عشرة منازل عربية في هذه المنطقة بما في ذلك وحدات سكنية ومراكز لذوي الاحتياجات الخاصة.
بالمحصلة، فإن كل مسجد وكنيسة وكل زاوية من زوايا أحياء القدس وكل باب وقفل عتيق يقول: إن الجسم الغريب الذي يحاول إثبات وجوده بالقتل والاغتصاب والتزوير يجب أن يجتث ويزول، فالمقدسيون باقون في أرضهم حتى لو افترشوا الأرض والتحفوا السماء، ومهما اعتدى المستوطنون ومهما صادر العدو من أراض، سيخضع في النهاية لإرادة الشعب الفلسطيني المتمسك بحقوقه الثابتة والمصمم على إنهاء الاحتلال.